سعيدة المنبهي .. أيقونة النضال الناعم

سلسلة مغرب القرن العشرين -6-


"سأموت مناضلة". كان هذا عنوان قصيدة كتبتها  سعيدة المنبهي بالأظافر مسقية بدمها في جدران الزنزانة، ساعات قبل موتها.. سعيدة أول إمرأة عربية تموت جراء إضراب عن الطعام في السجن.. الشابة التي نادت يا شعبي تحرر، فسجنوها !.

سعيدة المنبهي،  شاعرة وكاتبة ومناضلة مغربية، من مواليد 1952 في حي شعبي اسمه رياض الزيتون، في مدينة مراكش وسط المغرب،  لأسرة طبع النضال كنفها.. لم تكن طفلة مشاكسة تفتعل المشاكل مثل أغلب أقرانها؛ بل نموذج الأنثى الصغيرة البريئة الطائعة لأوامر والديها. منذ طفولتها كانت سعيدة ذات قلب رحيم، تحن على الإنسان والحيوان.. كانت تعود من المدرسة في بعض الأحيان وتصحب معها أطفال فقراء إلى منزلها، ليشاركوها الطعام وحتى الملبس.. تلك التضحية كبرت وخلدت في حياة سعيدة حتى آخر نسمة من حياتها، يوم ماتت شهيدة بأمعاء فارغة.

سعيدة التي لم تكن سعيدة !


درست في مدينتها - مراكش - حتى حصولها على الثانوية العامة، ثم التحقت بجامعة الآداب والعلوم الإنسانية في مدينة الرباط.. وبعد الجامعة، أكملت مشوارها الأكاديمي في مركز تكوين الأساتذة، وبينما هي طالبة انخرطت في نقابة الاتحاد الوطني للطلبة المغرب.. بعد المشوار الدراسي، بدأت حياة سعيد النضالية الجادة، حين كانت أستاذة في سلك الإعدادي في ثانوية الخاوزمي، في العاصمة المغربية.. وبدأت الشابة تترجم مبادئها إلى واقع. 

كان أغلب المحطين بـ سعيدة المنبهي منذ صباها من المناضلين. أخوها عبد العزيز المنبهي كان رئيسا سابقا لاتحاد المغرب لطلبة، وكان من بين الذين يدعون الدولة بأن تجعل من القضية الفلسطينية، قضية وطنية، وقد سبق أن تعرض للاعتقال أكثر من مرة، ولتعذيب الجسدي والنفسي جراء أنشطته الثورية، حتى قرر مغادرة المغرب إلى الأبد.. كذلك زوج شقيقتها عزيز الديي، كان ثوريا وقضى عشر سنوات في السجن.

وسط جوي ثوري انبثقت النزعة النضالية ونشوة مساعدة المسحوقين في نفس سعيدة.. بعدما كانت تشارك في فعاليات ثورية طلابية أثناء دراستها؛ فقد توسعت مساعي سعيدة في النضال بعد العمل في سلك التعليم، وانظمت إلى الاتحاد المغربي لشغل.. ثم إلى الحركة اللنينية بالمغرب، ليبدأ زمن القمع لدن سعيدة.. في الأول تم طردها من سلك التعليم، بعدما كثرت سلسلة توقيفها من الشرطة، فلا تلبث سعيد لتشارك في الوقفات الذي ينظمها الإتحاد المغربي لشغل؛ ثم صارت أشهر الأعضاء وأكثرهم عطاء في الحركة اللنينية بالمغرب.

سعيدة المنبهي ورفيقات النضال



كانت سعيدة بمعية شابات أخريات،  اخترن في ربيع عمرهن الولوج إلى عالم اليسار، والنضال ضد الاستبداد، والسعي خلف نيل حق العيش كما يجب أن يكون، لا كما فرضوا عليه.. من ضمن الرفيقات، كانت ربيعة الفتوح، الطالبة الطنجاوية التي تلاشت في العدم فيما بعد ولم يظهر لها أثر حتى اﻵن.. وكذلك فاطمة عكاشة، أول مهندسة كهربائية مغربية.. وأشهر رفيقات سعيدة، كانت الإيطالية ﺑﻴﻴﺮﺍﺩﻱ ﻣﺎﺟﻴﻮ،  الداعمة لحركة ﺍﻟﻤﺎﺭﻛﺴﻴﺔ ﺍﻟﻠﻴﻨﻴﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﻤﻐﺮﺏ. هن شابات تتزعمهن سعيدة المنبهي، قررن التضحية في سبيل مستقبل المستضعفين.

انخرطت سعيدة المنبهي في المنظمة السرية "إلى الأمام" حيث وجدت ضالتها في أخطر منظمة في مغرب القرن العشرين، المنظمة التي تراها الدولة حركة شاذة، هدفها زرع العلمانية في البلد، ثم اتهمت الحركة بزرع الفتنة بين الشعب والتحريض على الاعتصامات الغير مرخصة.. وأكبر تهمة سقطت على الحركة؛ كانت التخطيط لقلب الحكم في المغرب.. رغم القمع واصلت سعيدة مساعيها وبدأت أكثر جرأة فيما تكتبه من مقالات، تهاجم فيها أجهزة الدولة، وتستنكر قمع الحريات، وتطالب بالمزيد من حقوق المرأة المغلوبة لا البورجوازية، وكانت تتصدر الوقفات الاعتصاميه، حتى أضحت أشهر معارضة مناضلة مغربية في زمنها، زمن الجمر والرصاص، وهي في  أوائل العشرينات من عمرها. 

في 16 يناير  1976 تم ايقاف معظم أعضاء المنظمة المحضورة، "إلى الأمام" ومن بينهم سعيدة  المنبهي ورفيقاتها، وتم الزج بهن في معتقل مولاي الشريف، السيء السمعة، بانتظار اصدار الحكم عليهن.. حسب بعض التسريبات، فقد تعرضت سعيدة لمختلف أنواع التعذيب الجسدي والنفسي.. بعد ثلاث أشهر من توقيفها والتحقيق معها؛ تم نقلها إلى سجن مدني في الدار البيضاء، ثم أصدرت المحكمة حكما قاسيا على سعيدة، بعد إدانتها بتهمة المساس بأمن البلد، وحكمت عليها بخمس سنوات سجنا نافذا، إضافة إلى سنتين، بسبب إساءتها للقضاء أثناء جلسات الحكم.. في السجن تعرضت للعزلة هي ورفيقاتها.

تكتب سعيدة لأمها : 
"أنا هنا يا أمي، لأجل العيش الكريم لكل المستضعفين.. معنوياتي عالية باستمرار. إن المستقبل لضحايا الإستبداد السياسي والطبقي، إني لا أخاف القمع والترهيب، بل إنني أؤمن بقضيتي، قضية كل الجماهير" 

السجن والشعر والموت 




في السجن، انصرفت سعيدة المنبهي لموهبتها، في كتابة الشعر، واتخذته سلاحا لنضال.. لكن العزلة جردتها من الأوراق والأقلام، ما جعلها تستنفد الأرواق التي مررتها إلى زنزانتها، ولم يتبق لها من غير جدران الزنزانة الباردة لتجعل منها أوراقا بديلة، لتدون عليها  أفكارها،  مستعينة، بالأظافر والدم. يقول  الأديب المغربي عبد اللطيف اللعبي، الذي تكلف بترجمة كتاباتها من الفرنيسة إلى العربية، إن سعيدة المنبهي كانت تكتب الشعر بأظافرها على حائط الزنزانة، ولم تكن تنقح أشعارها، فلم تكن تفكر في  شهرة أدبية، ولا في مخبرين وجواسيس لغة.. 

في 8 نونبر 1977 قررت سعيدة المنبهي بمعية رفيقاتها، خوض إضراب عن الطعام،  من أجل المطالبة بتحسين ظروف السجن، وكذا اعتراف الدولة بهن، ضمن السجناء السياسيين.. مرت الأيام تلوى الأخرى، فما تغير شيء، ولا أمل في الأفق للاستجابة لمطالب سعيدة.. رغم ذلك واصلت الشابة المنبهي رحلة الجوع والعطش، حتى واصلت إلى اليوم الرابع والثلاثون من إضرابها عن الطعام، فخرت قواها وماعاد جسدها قادرا على التحمل، فتم نقلها على عجل إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء.. هناك في يوم 11 دجنبر 1977 كانت على موعد مع الموت، الذي أخذ سعيدة المنبهي معه في صبيحة عيد الأضحى، وهي في عمر الزهور، كانت في الخامسة والعشرين من عمرها..  ليكون مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، شاهدا على أول امرأة عربية مناضلة، تموت جراء إضراب عن الطعام.

"تذكروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة؛ فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده، وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي، فباسمة، محلقة بحرية، بحب متناه، تضحية فريدة، وبذل مستميت".


معارضو سعيدة

لم تسلم سعيدة المنبهي قبل وبعد موتها، من سهام معارضو أفكارها. إتهمت سعيدة، بالإلحاد، فهي تتبنى أفكار علمانية،  وتطالب بفصل الدين عن الدولة، وتجد المغرب دولة وإن كانت هويتها إسلامية؛ إنما عمقها يتعارض مع الدين.. وأغلب المقربين من سعيدة، والذين اهتموا بسيرتها،  أكدوا بعدها عن الدين، ولا تعتبره مرجعا في القرن العشرين.. وكان من مطالبها،  المساواة في الإرث، ما ترفضه دول إسلامية.. هكذا وجد البعض الفرصة سانحة لمصادرة آراء سعيدة، تحت خانة الإلحاد.


(كلمة)

إنها أعظم تجليات الإنسانية، سعيدة المنبهي، التي رفعت صوتها مطالبة بالعيش الكريم وهي شاذة على أعراف زمانها، زمن لم تكن فيه المرأة في بلاد العرب تقدر أن ترفع صوتها، إلا لتصدح بالزغاريد في الأفراح، أو النحيب في المآتم. يوم قررا النضال والشجاعة أن يكسرا معا التاء؛ فكانا، سعيدة المنبهي.




تعليقات

  1. لولا أنها ملحدة لكانت لها مكانة أكبر في الذاكرة الجماعية ، لكن أفكارها تخالف ديننا الحنيف ، في ختام مقالك مدحتها كثيرا ووصفتها (أعظم تجليات الإنسانية) لكن لا تنس يا محمد هي ملحدة والعياذ بالله ، ولا أتمنى لك أن تتبنى هذه الأفكار التي تعارض شريعتنا ، ولا أنكر أن بعض مطالبها في محلها لكن إلحادها أفسد كل شيء .

    مع أطيب التحياتي

    ردحذف
    الردود
    1. الحقيقة هي لم تخرج يوما وتعلن إلحادها.. كان ذلك مجرد تحيلات أو اجتهادات البعض انطلاقا من بعض مطالبها مثل المساواة في الإرث، وأيضا علمنيتها الواضحة للعيان.

      فيما يخص مدحي لها.. فلا يعني بالضرورة أني أتبنى أفكار مخالفة لشريعة ! هي إنسانة قبل كل شيء، وماتت في سبيل الإنسان وحقوقه، حتى أن الكثيرين يعتبرونها شهيدة. عموما أشكر جزيلا سيد رشيد، على اهتمامك، وأقول لك إني أبعد ما يكون إلى الأفكار التي تطعن في ديننا.

      حذف
  2. مسكينة ماتت في عز شباب لو أنها لم تضرب عن الطعام وتحملت السجن ربما وصلت إلى منصب مهم في المستقبل لقد وجدت الشعر الذي تكتبه إنه مؤثر جدا ♡
    بالمناسبة هذا أول مقال قصير في هذه السلسلة ههههه كما ترى أنا متابعة جيدة ههه

    شادية

    ردحذف
    الردود
    1. فكرت في نفس الشيء.. ماذا لو لم تمت وخرجت من السجن، كيف سيكون مستقبل هذه الإنسانة؟ تذكرت واحد من أكبر المعارضين اليساريين في بلدنا القرن الماضي، يدعى عبد الرحمن اليوسفي، وكان كذلك صديقا مقربا من اليساري المرموق المهدي بن بركة الذي كتبت عنه.. لقد صار هذا اليوسفي وزيرا أول في المستقبل.. لذا سعيدة قد يكون لها شأن كبير بعدها، لكن قدر الله وما شاء فعل..

      عندك حق، شعرها ثوري إنساني يلمس الروح.. فضلت عدم نشر أشعارها، لأنها موجودة في مواقع أخرى.

      أعرف أن المقال قصير مقارنة مع إخوته^^ لكن هذا كل ما يمكن كتابته عن هذه الإنسانة.

      شكرا شادية.

      حذف
  3. عبد الرزاق ايدر16 أبريل 2020 في 3:38 م

    مقال حزين جدا ... الله يرحمها ويتجاوز عليها كانت انسانة عظيمة وماتت في عز شبابها لقد قرأت عليها سابقا رغم ان مشوارها قصير لكن ظلت ذكراها لا تنسى وكلماتها في السجن تختزل معاناة وصمود ... كيف حالك اخي محمد وكيف هي الاحوال في مدينتك في هذا الحجر الصحي

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بالسيد عبد الرزاق.. حقا إن قصة سعيدة لم تكن سعيدة، وكلماتها أبدا لن تنسى، وإن عاشت فترة قصيرة..

      ماذا سأكتب لك؟ الوضع ليس جيدا.. لقد تحولت طنجة إلى إحدى بؤر الوباء كما كان متوقعا.. فيما يخص الطوارئ الصحية، ما زالت مستمرة، لكني لا ألتزم بالحجر الصحي تماما، بحكم ظروف عملي.. لكن كما تعلم مع حلول الساعة السادسة يمنع التجوال نهائيا، حتى السادسة من صباح اليوم الموالي.

      حفظك الله وحفظ عباده من كل سوء.

      تحياتي.

      حذف
  4. يوم قررا النضال والشجاعة أن يكسرا معا التاء؛ فكانا، سعيدة المنبهي.

    ما أبلغ هذه العبارة وأفصحها !!!

    أحسنت تعبيرا

    ردحذف
    الردود
    1. بارك الله فيك.. وآسف على التأخر في الرد، فلم أنتبه حتى الآن.

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -