المسيرة الخضراء .. التحام شعب وعبقرية ملك

سلسلة مغرب القرن العشرين -5-


تنبيه ! 

في المقال التالي، معلومات وحقائق وكشف أسرار عن المسيرة الخضراء، تنشر لأول مرة على (الإنترنت) بالعربية.. ما تطلب جهدا في البحث عن المعلومة، ووقتا لخط هذا النص واخراجه في صورة تلائم قارئ اليوم. في هذا المقال، أتناول فيه حدث المسيرة الخضراء، وما نتج عنها من توتر العلاقات المغربية الإسبانية والجزائرية؛ بموضوعية وحياد ولا أنحاز إلى أطروحة أو أتبناها، بل أنقل وقائع التاريخ كما هي. ولست أمانع من نقل هذا المقال إلى مواقع أخرى لتعم الفائدة، بشرط ذكر المصدر.. فقد سبق وتم نقل مقالات من هذه المدونة دون ذكر المصدر، وأنا أتبرأ من هذه الأفعال التي لا تضر إلا بفاعلها.

م.ب 12 / 9 / 2019
            فاس





مقدمة

منذ كنا في المدارس الإبتدائية - نحن المغاربة - درسوا لنا "المسيرة الخضراء" وحفظوا لنا على ظهر القلوب نشيد "نداء الحسن" الذي يخلد لذكرى المسيرة الخضراء، ثم صار فيما بعد اللحن الرسمي للقوات المسحلة المغربية.. إلا أن أغلب المغاربة لا يعلم الشيء الكثير عن المسيرة الخضراء، سوى ما يبث على شاشات التلفاز؛ يتمحور في عشرات الآلاف المغاربة يقتحمون رمال الصحراء الغربية، حاملين الأعلام الوطنية، وشاحنات وحافلات تقل جحافل البشر تلوح بأيادها.. كل هذه المشاهد مصحوبة بأغنية "نداء الحسن". هكذا تختزل المسيرة الخضراء في مخيلة أغلب المغاربة.. فماذا كان يدور وراء الستار، وفي مطابخ القرارات في القصر الملكي، قبل انطلاق آلاف البشر إلى مجاهل الرمال، في خطوة كانت لتضع الحسن الثاني في مهب الريح ؟!.


الصحراء الإسبانية


شرقت شمس الحرية على المغرب مع انتصاف الخمسينيات.. إلا أن مغرب الأمس ما عاد نفسه اليوم.. المغرب الذي كان يمتد إلى نهر مالي، أضحى ينزوي كقرية في أقصى شمال أفريقيا.. وتساءل المغاربة أين استقرت أراضيهم يا ترى ؟ في الحقيقة، إن فرنسا هي من سلخت الأراضي المغربية وضمتها إلى مستعمرتها في الجزائر. بعد استقلال المغرب عرضت عليه فرنسا أن يستعيد أراضيه المسلوبة والمحسوبة آنذاك، على الجزائر.. وهنا ارتكب الملك محمد الخامس خطيئة القرن، وذنب عسر عليه الغفران، وهو به يرفض عرض فرنسا، منتظرا استقلال الجزائر حتى يفتح مع أشقائه موضوع الحدود قبل الإستعمار الفرنسي، كما اتفق معهم.. حتى وإذا استقلت الجزائر في مطلع الستينات، فما عاد زعماء الثورة الجزائرية  يعرفون محمد الخامس ووعدهم السابق، واعتبروا مناقشة قضية الحدود قبل الإستعمار، أمر مرفوض.. وضاعت الأراضي المغربية بحماقة وغباوة، سوغت في خانة  الإخوة ودين، لم يحسن السلطان الطيب حسابها. لم يكن الملك الشاب الحسن الثاني لكيرر فعلة والده في أراضي الصحراء الغربية، والتي كانت اسبانيا تحتلها منذ 1883.

بعد أول ثلاث سنوات من عقد السبعين؛ خرجت الدولة المغربية تلعق جراحها بعد محاولاتين انقلابيتين زعزعوا أركان المملكة، وزرعتا الشك في نفوس المغاربة.. فانصرف الحسن الثاني إلى ملف الصحراء الغربية التي كانت حينها تسمى ب "الصحراء الإسبانية".. فطلب من اسبانيا الجلوس على الطاولة والتفاوض على مستقبل الصحراء الغربية، كونها تابعة للمغرب تاريخيا على حد اعتبار المغاربة.. الفكرة رفضتها اسبانيا بحجة أن لا خلاف بينها وبين المغرب، كون الصحراء الغربية كانت أرض خلاء لا سلطة عليها عندما دخلها الجيش الإسباني.

بعدما أبان المغرب رغبته الجامحة في مناقشة تواجد اسبانيا في الصحراء الغربية؛ سارع الجنرال الإسباني فرنكو لطلب من الأمم المتحدة التصويت على اجراء الإستفتاء وتقرير المصير في الصحراء الغربية، دون العودة إلى استشارة المغرب.. وبذلك يقطع الإسبان على المغاربة السبل في أي حوار قد تنادي به الرباط.. حينها وجد المغرب نفسه في ورطة، فالأمم المتحدة لا تعلم الشيء الكثير عن الصحراء الغربية، ولن يتردد الأعضاء في التصويت على المقترح الإسباني، والمعزوفة المحببة في الأمم المتحدة؛ ألا وهي تقرير المصير.. سارع المغرب لربح الوقت، وطلب الأمم المتحدة باللجوء إلى محكمة العدل الدولية، لتبيان ما إذا كان هناك خلاف معلق بين المغرب وإسبانيا.. وافق أعضاء الأمم المتحدة وسلموا القرار إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي. تفاجأ المغرب بجلوس الجزائر جنب اسبانيا في لاهاي، مؤيدين موقفهم، بأن لا خلاف بين المغاربة والإسبان.. فجاء قرار المحكمة الدولية دامغا : "هناك خلاف بين المغرب وإسبانيا".. ما يعني أن المغرب سيجبر إسبانيا قسرا إلى الجلوس على طاولة المفوضات للبث في هذا الخلاف.. كان ذلك أول انتصار الحسن الثاني في قضية الصحراء الغربية، وبذلك تموقع في موضع القوة.. وخاطب المغرب اسبانيا من على منبر الأمم المتحدة قائلا : بما أن المحكمة الدولية أقرت بوجود خلاف بيننا؛ أود طرح سؤلاين : هل الصحراء الغربية كانت أرض خلاء عندما دخلت إليها إسبانيا أول مرة؟. والسؤال الثاني : ماهي العلاقات التي كانت تربط الصحراء الغربية مع المغرب ؟. كان تساءل المغرب في الأمم المتحدة ذكيا، واستقر الحسن الثاني على نقطة مهمة؛ ألا وهي تاريخ الصحراء الغربية.. بعد ذلك قامت الأمم المتحدة بتجميد إسبانيا من اصدار أي قرار سلطوي بشأن الصحراء الغربية حتى إشعار آخر؛ ما قاد المغرب واسبانيا مرة أخرى إلى لاهاي، هناك لطرق أبواب محكمة العدل الدولية، لأجل الإستشارة عن تاريخ الصحراء الغربية.. ثم طالبت المحكمة مدة من الزمن تقارب سنة.

ماذا بعد ؟


قبل اصدار محكمة العدل الدولية القرار  في قضية ارتباط المغرب مع الصحراء الغربية من عدمه، وهل كانت أرض خلاء عندما دخلت إليها اسبانيا أول مرة؛ كان بال الحسن الثاني مشغولا بسؤال واحد : في حالة أصدرت المحكمة قرارا في صالح المغرب وزكت ارتباطه بالصحراء الغربية؛ ماذا بعد؟ فإسبانيا - على الأرجح - لن تخرج من الصحراء الغربية بمجرد اثبات روابط المغرب بها.. كان هناك خيارات مطروحة على طاولة الحسن الثاني، أولها : الحرب. كان ذلك خيارا قد لا تحمد عقباه، فالجيش الإسباني يعد ضمن أقوى عشرة جيوش في العالم.. الخيار الثاني هي المعركة الدبلوماسية، التي بدت هي أيضا تعد وتهدد بالفشل؛ كون المغرب سيواجه بمفرده دول عديدة : اسبانيا، الجزائر، موريتانيا، جنوب أفريقيا.. بالمقابل لن يصطف جنب المغرب سوى فرنسا، مع امكانية تعاطف أمريكا الغير مضمون مع البلد الذي كان سباقا بالإعتراف بها.. وبذلك مزق الحسن الثاني أوراق هذان الخياران؛ لا حرب ولا دبلوماسية. لكن ماذا إذن؟ فكر مليا كيف يضع الإسبان أمام الأمر الواقع، ويجرهم إلى طاولة المفوضات؟.

بانتظار قرار محكمة العدل الدولية، كان الحسن الثاني يشغل تفكيره باحثا عن حل يخضع به الإسبان؛ حتى تبين له بأن الشعب قد يكون أعظم قوة يمكن أن يحارب بها.. في البداية فكر في مظاهرات تعم المغرب، يخرج فيها الشعب وهو ينادي بمغربية الصحراء.. سرعان ما انبثقت في ذهنه فكرة أكثر جدية؛ وهي أن يخترق عدد كبير من الشعب المغربي أراضي الصحراء الغربية، ويضع بذلك اسبانيا والعالم أمام أمر الواقع، كون المغارية متشبتين بأراضيهم وهم مجندين وراء ملكهم.. استقر الحسن الثاني أخيرا على ما سمي لاحقا بالمسيرة الخضراء.

فكرة المسيرة الخضراء .. ضرب من الجنون !


بعدما اقتنع الحسن الثاني لوحده بفكرة المسيرة الخضراء؛ كان عليه اعلام رجالات المغرب تدريجيا للحفاظ على السرية.. في البداية استدعى إلى القصر أربع جنرلات، وأدخلهم إلى غرفة سرية أسفل القصر، كانت غرفة عازلة لصوت، خالية من أي حرس، وهناك أمرهم بالقسم أولا بأن يحافظوا لأنفسهم على ما سيقوله أمامهم، قبل أن يعرض عليهم ما ينوي القيام به، وأطلق عليه اسم سري : "عملية فتح". بعد إعلام أربع جنرالات كبرى؛  أتى دور عمال الأقاليم؛ ومثل سابقهم الجنرالات، فقد أدى عمال الأقاليم القسم أمام الملك، قبل أن يفتح معهم موضوع المسيرة الخضراء، وبعد ذلك جاء دور الحكومة، ولا نحتاج تكرار ماذا حدث؛ نعم، القسم أولا، ثم أعلمهم الملك بما ينوي القيام به.. وأهم نقطة ركز عليها الملك، هي الحفاظ على سرية المخطط.. وأصبح عدد الذين يعلمون ما ينوي الملك القيام به، لا يتعدى ثلاثون شخصا، وأي منهم تجرأ وأفشى السر؛ فلن تكفي رقبته لتكفير عن ذنبه.

ثم بدأ التخطيط للمسيرة الخضراء في آب أغسطس 1975 قبل ثلاث أشهر من انطلاقها.. كانت الفكرة فيها مس من الجنون كما بدا ظاهرا للمسؤولين المغرب؛ إلا أن الحسن الثاني قد اتخذ القرار، ولا غمغمة بعد ذلك. أول سؤال طرح على الملك : ما هو عدد الأشخاص الذين سيشاركون في المسيرة ؟ الإجابة : ثلاثمائة وخمسين ألف شخصا.. هل كان هذا الرقم اعتباطا؟.. أبدا لم يكن.. فالمغرب في السبعينات، يشهد سنويا مواليد عددهم ثلاثمائة وخمسين ألف.. إذن الحسن الثاني وضع في باله إذا ما حدث وتحقق أسوء احتمال، وأطلقت النيران على المسيرة؛ سيكون المغرب قد خسر من البشر ما ينتجه من سنة.

كان الإستعداد للمسيرة الخضراء، يسير بانضباط شديد وتخطيط عال الدقة، في الوقت الذي كان فيه الشعب المغربي والرأي العام في واد آخر، بحيث سيطرت السرية على العملية.

إن الذي لا يعرفه المغاربة، هو أن المشركون في المسيرة الخضراء تم تحديد أسمائهم، حتى قبل إعلان الملك لشعبه بقيام المسيرة. كيف ذلك؟ نعود إلى الرقم الذي تم تحديده في عدد المشاركون، وهو ثلاثمائة وخمسون ألف.. فتم تقسيم هذا العدد على أقاليم المغرب، مرعاة بعدم تساوي الأقليم الصغرى مع الكبرى.. وبدأ احصاء سري لسكان.. حتى تم تسجيل ما يزيد عن أربعمائة ألف من الشعب المغربي، والعدد المطلوب هو أقل كما أسلفنا، إذن لماذا هذه الزيادة؟ ببساطة، إنه وضع احتياط في حالة لم يستجب البعض لدعوة.

بعد تحديد المغاربة الذين سيشركون في المسيرة الخضراء؛ زادت رقعة العارفين بقيام المسيرة، وهم كبار رجال السلطة في أقاليم المملكة،

لم يكن كل شيء بخير، فقد بدأت تحديات شتة أمام تجهيز المسيرة، من بينها : الطعام والشراب.. فإذا كان كل فرد من ثلاثمائة وخمسين ألف يحتاج إلى خمس لترات من المياه يوميا؛ فمجموع المياه المطلوبة كل يوم، تصل إلى مليون وسبعمائة لتر - ما يقارب  ألفين طن - ونحن هنا يا سادة في جرف الرمال تحت شمس الصحراء، بل وأكثر من هذا، في أرض لا سلطة للمغرب عليها.. ثم نصل إلى الطعام؛ ففي أضعف الإيمان يحتاج كل فرد من ثلاثمائة وخمسين ألف، يوميا إلى رغيفين من الخبز؛ فالمجموع يناهز أكثر من سبعمائة ألف رغيف خبز في اليوم الواحد، تحتاجه المسيرة الخضراء.. هذا دون ذكر الأطعمة الأخرى.

ثم يأتي النقل.. فكيف سيتم نقل هذا العدد الكبير من البشر دون فوضى تذكر كما ينادي به الملك؟

نقل المسيرة الخضراء، يحتاج إلى اكثر من سبعة آلاف شاحنة، وثلاثة آلاف حافلة، ومئة وعشرين قطارا، ومئتان وعشرين سيارة اسعاف.. إضافة إلى مئات الأطباء والصيدليون، كذلك بضع آلاف من المؤطرون من سيتولى تأطير جحافل البشر.

في الأخير أضحت المسيرة الخضراء جاهزة على الأوراق، لم يبق سوى إعلان الملك عن قنبلة مدوية لم يتوقعها أحد.. حتى أقوى المخابرات الدولية لم تطلع على مخططات الحسن الثاني.

انطلاق المسيرة الخضراء

في يوم 16 أكتوبر 1975 أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها في قضية استشارة تلقتها من المغرب واسبانيا فيما يخص تاريخ الصحراء الغربية، وهل كانت أرض خلاء عندما دخل إليها الجيش الإسباني.. وما هي روابطها مع المغرب؟ فكان القرار : أن الصحراء الغربية كانت أرض خلاء عندما ضمتها اسبانيا إلى نفودها. هذا من جهة، وبالمقابل إن الزعماء الصحراوين كان لهم روابط مع العرش المغربي حتى قبل وجود الإسبان على أرض الصحراء الغربية. فلم تاخذ المكحمة بعين الإعتبار تاريخ المغرب الأقصى الذي كان يمتد إلى نهر مالي؛ واكتفت بالتاريخ الحديث، أي منذ القرن التاسع عشر.

وعدنا إلى نقطة البداية، فقضاة "لاهاي" مسكوا العصى من المنتصف، ولم يحسموا شيئا بقرارهم هذا.. وبذلك اعتبر المغاربة والإسبان معا، قرار محكمة العدل الدولية انتصارا لهم.. في نفس اليوم أعلن التلفزيون المغربي عن خطاب ملكي موجه إلى الشعب، في المساء. فبدأ التلفزيون يعيد بث الخبر كل ربع ساعة، مصحوبا بأغاني وطنية.. شعر المغاربة أن مفاجأة عظيمة في انتظارهم، فليس ما يحدث في التلفزيون عاديا.

في مساء نفس اليوم ومن مدينة مراكش، أعلن الملك الحسن في خطابه، عن قيام المسيرة الخضراء. وقف المغاربة في حيرة غير مصدقين ما يسمعونه من ملكهم.

تفاجأ العالم بعزم الحسن الثاني عن قيام مسيرة ضخمة، يشارك فيها ثلاث مئة وخمسين آلاف مواطنا، يخترقون حدود الصحراء الغربية !. وأكثر من هذا، فقد أعلن الملك عن انطلاق التسجيل في يوم الموالي.. رأى الإسبان ذلك جنونا، فلا يمكن لبلد افريقي أن ينظم مثل هذه المسيرة الضخمة في وقت قياسي ؟! أما الجزائر اعتبرت المسيرة الخضراء، فعل أخرق سيقود الويلات إلى محراب الحسن الثاني.

استجاب المغاربة لنداء الحسن، وفي أربع أيام، تم تسجيل حوالي تسعمائة ألف مواطنا، أي ضعف  العدد المطلوب بثلاث مرات..  كانت أول بوادر النجاح قد لاحت للملك في الأفق.

بعد حولي شهر من الزمن، تم تجهيز المسيرة الخضراء بالكامل، وكل الذي سبقنا ذكره في التخطيطات، تم تفعيله على أرض الواقع.. وصار ثلاثمائة وخمسين الف مواطنا مغربيا قرب مدينة طرفاية على مرمى حدود الصحراء الغربية، من ضمنهم عشرة بالمئة من النساء.. وتم نصب عشرات اﻵلاف من الخيام. وكان هؤلاء المتطوعون ينتظرون اعلان الملك الحسن الثاني عن انطلاق المسيرة الخضراء واختراق الحدود.

قبل اختراق الحدود، تعرض المغرب لضغوطات دولية لتراجع عن ما ينوي القيام به، حتى انشرت شائعات بين المغاربة، أن الملك سيعادل عن قراره ويطلب بعودة المتطوعين.

في اليوم 5 نونبر 1975 ومن مدينة أكادير، استهل الملك خطابه المنتظر بآية قرآنية :"وإذا عزمت فتوكل على الله." حتى قبل أن ينبس بكلمة أخرى؛ هلل المنتظرين في الحدود، وبدؤوا في جمع أمتعتهم تأهبا للإنطلاق نحو مصير مجهول. ثم أردف الملك : "غدا ستنطلق المسيرة الخضراء، غدا سنخترق الحدود"

في يوم 6 نونبر 1975 اخترق حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف مواطنا مغربيا، حدود الصحراء الغربية، البعض مشاة، والبعض اﻵخر يركبون الحافلات والشاحنات في منظر غريب لم يشهد له العالم مثيلا.. كان هؤلاء يسيرون باتجاه القوات الإسبانية التي تبتعد عن الحدود، ما يقارب ثلاثين كيلو متر.. حتى صاروا على مرمى منهم، أو بالأحرى؛ على أعتاب منطقة ألغام، التي تفصلهم عن الجيش الإسباني.

كان الحسن الثاني فطنا؛ فقد جعل في مقدمة المسيرة، نساء والأطفال، كأن به يتحدى إسبانيا أن تطلق النيران.. إلا أن على عكس ما يظن بعض المغاربة؛ فالجيش المغربي كان على هبة الإستعداد لأي طارئ محتمل.

توقفت المسيرة بمحداة الجيش الإسباني - كما أمر الملك -  واختفت الرمال تحت آلاف  المخيمات. وبقي سؤال واحد : واﻵن، ماذا؟

كان على الإعلام المغربي مواجهة الأبواق الإعلامية الجزائرية التي تنشر كل الهلوسات، وهي تسخر إعلامها  لتسفيه المسيرة الخضراء.. تارة يبثون أخبارا عن وباء ينتشر في المسيرة ! وتارة أخرى  عن موت آلاف المغاربة من جراء الجوع والعطش.. لكن في الواقع كان المشركون في المسيرة الخضراء يرقصون ويطبلون بانتظار أن يأمرهم ملكهم في مواصلة المسيرة.. في هذه الأثناء، كانت مدريد والرباط في مفوضات ملتهبة. اسبانيا لا تريد الرضوخ لمطالب المغرب بهذه السهولة، رغم أنها في موقف ضعيف.. لأن اطلاق النار على المسيرة الخضراء يعني مجزرة لم يشهد لها العالم مثيل منذ حرب فيتنام.. لتتحول المفوضات إلى العروش، بين ملك المغرب الحسن الثاني ونظيره الإسباني خوان كارلوس.

احتفظت اسبانيا بأنفتها، وهي تحاول جاهدة تجنب أي احراج محتمل.. واستمر المغرب على مطلبه، ألا وهو  مغربية الصحراء الغربية.. حتى وصل الطرفين إلا اتفاق ينص  عليهما معا تقديم تنازلات؛ قبلت اسبانيا أخيرا بالجلوس في طاولة المفوضات مع المغرب، بشرط انهاء المسيرة الخضراء حالا.

قبل المغرب المقترح الإسباني، وتم إعلان في التلفزيون المغربي عن خطاب ملكي جديد بعد انطلاق المسيرة الخضراء بثلاث أيام.. وعلى غير المتوقع؛ فقد أعلن الملك عن انتهاء المسيرة الخضراء، وطلب المشاركين فيها بأن يعودوا أدراجهم، فقد نالت المسيرة الخضراء مطلبها.. خبر ساعق نزل على المشاركين؛ فقد كان مبتغاهم استمرار المسيرة حتى انسحاب الإسبان أو موتهم في سبيل الوطن.

ثلاث أيام، كانت كل عمر المسيرة الخضراء؛ ليعود المشاركون فيها سالمون وربما غانمون.. ليبدأ فصل جديد في مستقبل الصحراء الغربية. وبعد مفوضات أخرى، قررت اسبانيا الخروج نهائيا من الصحراء الغربية.

بعد المسيرة الخضراء.. جاءت المسيرة السوداء !


لم يصدق جنرالات الجزائر نجاح الحسن الثاني والمسيرة الخضراء، بعدما أجادوا بالغالي والنفيس لأجل الإسبان.. طبعا لم يكن ذلك لسواد عيون فرنكو وزمرته؛ بل لفرملة المغرب ومنعه من التوسع، وكذا الإنتقام من حرب الرمال، فقطعوا عهدا على أنفسهم بالرد الخشن على جيرانهم.. من يقطن المرادية أعلن عن المسيرة السوداء ! ألا وهي طرد جميع المغاربة من الجزائر، ومصادرة ممتلكاتهم، وكان عددهم خمسة وسبعين ألف مغربيا، رحلوا قسرا تاركين زوجاتهم وأولادهم وكل ما يملكون في الجزائر، فكانت بحق مسيرة سوداء، ولم يخطئ هواري بومدين في اختيار العنوان؛ إلا أنه نسي أو تناسى أن الجالس على العرش المغربي، لم يعد السلطان الطيب محمد الخامس، بل الحسن الثاني بجبروته، والذي لا يرحم حتى شعبه العزيز إذا تمرد عليه.. فكيف سيكون رد الملك على فعلة بومدين، الذي أرسل إليه موطنين مغاربة مسلوبين من حقوقهم؟!.

وصل خبر طرد المغاربة من الجزائر إلى الحسن الثاني.. فوضعت الجالية الجزائرية في المغرب يدها على قلبها بانتظار قرار الملك.. وبدا جليا بأن طرد الجزائرين أمرا لا مرد له.

ينقل أحد شهود عيان داخل القصر قول الملك الحسن الثاني :

"إذا كان هذا ما يستطيع بومدين فعله بحق مواطنينا؛ فإني قادر على أن أعيد إليه مواطينه مقلوبين على ظهور الحمير ! لكني لن أفعل.. فالمغرب مغرب العالم، ولسنا بلدا يحكمه الطيش والتخلف".

في رواية أخرى، أن الحسن الثاني تراجع عن طرد الجزائرين والرد على بومدين، بعدما أقنعته حاشيته بعدم جدوى المعاملة بالمثل، كون المغرب يسوق صورة حضارية لنفسه، وهو يفتح أبوابه أمام العالم.. وأيضا فإن الدولة على أعتاب معارك دبلوماسية لأجل الصحراء الغربية، ولن يكون في صالحها طرد أحدا من أرضها. على الأرجح وجد المغرب نفسه في ظرفية لا تسمح له بالتصرف بالخشونة.. أما الجزائر فقد استعدت لأي رد من الحسن الثاني، وخندقت قواها العسكرية على حدودها مع المغرب تأهبا إذا جن جنون الملك، وأعلن الحرب من جديد كما فعل سابقا في حرب الرمال..  لكن، الحسن الثاني على غير عوائده، فقد كان أكثر هدوءا ورزانة، واكتفى   بموقف أبدي من الجزائر منذئذ، واعتبرها العدو الأول للمغرب، إلى يوم الدين.. وبدأ يسوق صورة سيئة على الجزائر داخل أسوار مملكته.. حتى أن اطلاق النار في المنورات العسكرية، يكون باتجاه الجزائر.. وكذلك الجزائر اعتبرت المغرب منذ حينها دولة عداء و احتلال، واحتضنت جبهة البوليساريو المطالبة باستقلال الصحراء الغربية، إلى كتابة هذه السطور.

أمر الحسن الثاني بتعويض جميع المغاربة المطرودين من الجزائر.. وكذلك كان، فقد حصلوا جميعا على تعويضات قدرت بالكبيرة : أراضي، ومنازل، ومحلات تجارية.. وبعد ذلك حذرت المغرب مواطنيها من السفر إلى الجزائر، كونها بلد  ليس آمن بالنسبة للمغاربة.

الجزائر نغمة نشاز .. والبوليساريو


كانت الجزائر منذ البداية هي نغمة نشاز في ملف الصحراء الغربية. إن التاريخ الذي لا يرحم يشهد على الجزائر، أن رئيسها هواري بومدين، قال في الرباط أوائل السبعينات وأثناء اجتماع زعماء دول المغرب العربي : إن الجزائر تدعم المغرب لكي يستعيد الصحراء الغربية من اسبانيا، وأن بلاده فداء لأشقائها.. يا حسرة، كان هذا مجرد ضباب مزقته شمس الإسبان؛ فكما أسلفنا، فقد جلست الجزائر إلى جوار اسبانيا في محكمة العدل الدولية في مواجهة المغرب. أو لربما يقصد بومدين بقوله "إن الجزائر فداء لأشقائها" هي اسبانيا والجنرال فرنكو.

الجزائر هي دم وشرايين جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة باختصار "بالبوليساريو" و التي أعلنت في منتصف السبعينات على أنها دولة تطالب باستقلال الصحراء الغربية، تحت مسمى "الجمهورية العربية الصحراوية" وطبعا كانت الجزائر أول دولة تعترف بها، إلى جانب بعض دول أخرى ميؤوس منها ولا ثقل لها دوليا، باستثناء جنوب أفريقيا، كبرى الدول في القارة السمراء، التي تطبل وتزغرد لكل ما هو بشأنه الضر بالمغرب.. وهذه حكاية أخرى بين الرباط وجوهانسبورغ.

جاء اختيار علم الجمهورية الصحراوية، شبيها بالعلم الفلسطيني، بل يكاد يكون هو، لولا تمويه بسيط في وضع نجمة حمراء وهلال، حتى يتم التفرقة بين العلمين.. لم يكن ذلك اعتباطيا، أبدا.. بل كان يرجو منه دغدغت مشاعر  العرب، وتشبيه القضية الفلسطينية، بقضية الصحراء الغربية.. ووضع المغرب في ثوب ماذا؟ بلى، اسرائيل !.. كان ذلك من دهاء عساكر الجزائر.. وقد نجحوا إلى حد ما؛ ففي الثمانينات زار زعيم البوليساريو محمد عبد العزيز فلسطين، وتم استقباله من طرف رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.. استقبال زعيم البوليساريو في فلسطين، اعتبرها الحسن الثاني خيانة عظمى، لم لا والملك هو رئيس لجنة القدس، والمغرب أكبر المدافعين عن القضية الفلسطينية في منابر أوروبية.. بعد ذلك عاد الملك إلى صرامته الغابرة، وقام بتجميد مؤسسة لجنة القدس، وحذر المغاربة من التعاطف مع الفلسطنيين بانتظار التوضحات من ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية.. عرفات، الذي سارع نحو المغرب، لتقديم الإعتذار لجلالته، ووعد بعدم تكرار ما حدث.. وفعلا، كان ذلك آخر مرة تم فيه محاولة لربط القضية الفلسطنية مع قضية الصحراء الغربية.. إلا أن الجزائر استمرت في مخططها، في محاولة ربط القضيتين لأجل استفزاز المغرب؛ وتكرر تكريم  قادات من البوليساريو منصافة مع بعض قدات من فلسطين، في أعياد الإستقلال في الجزائر.

بعدما اعترف الإتحاد الإفريقي في منتصف الثمانينات بوجود دولة الصحراء الغربية، التي غدت عضوا كامل الصلاحية في الإتحاد.. غادر المغرب الإتحاد الإفريقي منذئذ، وأقلبت الرباط الموازين.. لم يعد الحسن الثاني يهتم بقارة الجياع، التي احتظنت خيام دولة الصحراويين؛  وفتح أبوابه على شيكسبير، وديناصورات أوروبا.. كان الحسن الثاني يلقب مملكته، بقطعة أوروبا في أفريقيا.. ليبقى السؤال : هل انسلاخ المغرب من بعده وهويتة الإفرقية، لأجل أوروبا؛ خدم مصالحه في الصحراء الغربية ؟ نعم، بقدر لا!.

استمر اطلاق النيران في الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو من منتصف السبعينات، حتى أوائل التسعينات، ثم أتى قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، والمباشرة بالمفوضات تحت رياعة أممية.

في يومنا هذا تعتبر جمهورية الصحراء الغربية، دولة وهمية، لا أركان لها، ولا مقومات، ولا تتجاوز الحبر على الأوراق،  وشعارات صدئت ونال منها غبار الزمن.. إلا أن الإتحاد الإفريقي يعترف بوجودها، بعد ضغوطات من الجزائر وجنوب أفريقيا، اللواتي سخرتا كل كنوزهما الدبلوماسية لخدمة هذه الجمهورية المزعومة.. إلا أن الأمم المتحدة لا تعترف بوجود دولة بهذا الإسم.. لكن بالمقابل تعترف بشرعية البوليساريو - جبهة لا كدولة - لتفاوض مع المغرب.

ماذا حدث؟

هل تحررت الصحراء الغربية بعد المسيرة الخضراء؟ كلا. كانت تلك إحدى المتاهات التي تقود إلى أسئلة عصية الجواب المطلق عند المخزن المغربي.. فقد ظن بعض المغاربة أنه بمجرد عودة آخر متطوع من المسيرة الخضراء؛ استعاد منذئذ المغرب الصحراء الغربية وضمها إلى حدوده.. ذلك لم يكن صحيحا، بل حصرا على الاعلام المغربي الموالي لدولة.. إن المسيرة الخضراء، أخرجت الإسبان من الصحراء الغربية، ووضعت المغرب في موقف قوي.. هذا كل شيء.. فالأمم المتحدة تعتبر أراضي الصحراء الغربية مناطق متنازع عليها؛ لا هي تصفية استعمار كما تسوق الجزائر ورعايها من جبهة البوليساريو.. ولا هي أرض تابعة لسيادة المغربية كما يسوق المغرب.. إذن الصحراء الغربية قضية أممية، عمرت طويلا وما زالت تعد بعمر مديد.

قضية تقترب من نصف قرن من الزمن، ومازالت لم تبارح مكانها.. فشلت كل المفاوضات والوسطات؛ وغدت الصحراء الغربية أرض معارك دبلوماسية، وإعلامية، وتصفية حسابات بين المغرب والجزائر ليستمر عداءهما الأبدي. أو المغرب وجنوب أفريقيا وسباقهما لتسيد أفريقيا، في مختلف المجالات، أبرزها : السياحة والإستثمارات الأجنبية.

المغرب اليوم يسيطر على أغلب أراضي الصحراء الغربية، ويعتبرها أقاليمه الجنوببة، مستندا فيها إلى التاريخ.. ويضع على طاولات المفاوضات خيار واحد، ألا وهو الحكم الذاتي كأقصى ما يمكن للمغرب أن يقدمه.. لكن، ليس هناك أي دولة تعترف للمغرب بالسيادة على الصحراء الغربية علنا، بالمقابل الإتحاد الأوروبي يعتبر أن المنتجات القادمة من الصحراء الغربية إلى أوروبا، مغربية. في الجهة الأخرى تطالب جبهة البوليساريو بتقرير المصير والإستقلال عن المغرب، وتعتبر الصحراء الغربية آخر المستعمرات في أفريقيا، مدعومة من دول عديدة.. لكن، الأمم المتحدة والدول الكبرى، لا تعتبر الصحراء الغربية أرض احتلال، بل مناطق متنازع عليها. ويبقى المتضرر الأكبر هو المواطن الصحرواي، سواء من يعتبر نفسه مغربي أو لا.. من كل هذا وذاك، يبقى  السؤال :  يا ترى من هو صاحب الحق ؟ بعيدا عن المرفعات، وما تسوقه أبواق الدول.. نسأل التاريخ : أرض من هذه يا تاريخ فضلا ؟. يجب لنا التاريخ قائلا : إنها اليوم من أرض الله الواسعة.. والأمس كانت الأرض تابعة للمغرب الأقصى حينما كان يمتد إلى نهر مالي. وإذا كان هذا حق؛ فما ضاع حق وراءه طالب. 



(كلمة)

حتى ولو جاءك أعدم المغاربة وطنية؛ كان ليقول بأن فكرة المسيرة الخضراء كانت بحق، عبقرية ملك، التي أخضع بها الإسبان بلا حرب ولا سلاح.. وهنا تفوق عقل الحسن الثاني على قوة فرنكو.

رغم أني لست من الذين يطبلون لبلدانهم مجانا، ولن أكون يوما؛ لكن، وفي كل مرة أسمع فيها  نشيد "نداء الحسن" إلا  ويغزوني شعور غريب، ممزوج بين القشعريرة والعاطفة اتجاه تلك الوجوه البشوشة - البريئة، التي شاركت في المسيرة الخضراء، واستجابت لنداء الوطن دون تردد، حتى وصلت التضحية إلى أرقى مراتبها، حينما حمل البعض منهم أكفانهم على ظهورهم، مستعدين للموت في سبيل أرض يعتبرونها من حقهم؛ حينها أشعر حقا، بأني، أنتمي لهذا البلد.





الاصدرات السابقة في السلسلة :




الكاتب محمد بنصالح
Bensalahsimo018@gmail.com

تعليقات

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

تازمامارت .. أحياء في قبور !

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

ياسين الصقلي : رحالة مغربي يطوف أفريقيا فوق الدراجة الهوائية

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ