أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -



رجل قصير القامة مملوؤها، ذو جه مستدير يميل للسمرة، ملامحه يبدو عليها تجاوز عمر السبعين، يرتدي جلبابًا تقليديًا، يقف عند عربة الفواكه ويساوم صاحبها بابتسامة فاترة، وعيون مُرهقة.. إنه ما يزال يحتفظ بسواد شعره في هذا السن المتقدم، - أو الأرجح قام بطلائه؟ - في الأخير يتبضع بعض ثمار الفاكهة، وينصرف في سبيله، قبل أن يوقفه أحدهم قائلاً باللهجة الطنجاوية: كِيف نْتينا أعمي احمد؟. يرفع رأسه لهذا السائل فيّرد السلام، ويدردشان لوقت قصير، قبل أن يواصل في سبيله نحو منزله.. وما هي إلا لحظات، حتى يظهر الرجل في الحي مرة أخرى، هذه المرة يضع طربوشًا أبيضًا على رأسه، ويقصد مسجد الحي، هناك يصلي المغرب جماعةً ويحضر لقراءة حزب الليلة، ثم صلاة العشاء، ليعود لمنزله بخطوات هادئة دون التفات إلا لالقاء السلام، أو ردّه، فيما يبدو، أن الرجل وضع الدنيا خلف ظهره، واكتفى منها.. فمن هذا السيد؟ هذا الذي يساوم ببشاشة صاحب عربة الفواكه، كان في زمن مضى، تقدر ثروته بملايين الدولارات! بل إن غمامة مُلبدة بالمال، تسبح فوقه أينما خطت خطاه، وبإشارة من أصبعه، تنهمر الأموال! هذا المخلوق اللطيف، بسببه وأقرانه، كاد الاقتصاد المغربي، أن يصل للموت السريري! إنه أحمد بونقوب، الملقب بحميدو الديب، (لفظ الذئب بالدراجة).


اسمه الحقيقي أحمد بونقوب، ملقب بِحميدو الديب.. رجل فاحش الثراء، يعيش في مدينة طنجة ومنها يُدير مشاريع كبرى تابعة له.. ليس مجرد رجل غني يفيض بالمال؛ بل جمع بين المال والنفوذ والقوة، وعُرف بشمال المغربي، على أنه الرجل القوي الذي لا يرد سائلاً أتى إليه طلبًا للمساعدة كيفما كانت.. ففي العيد الأضحى - على السبيل المثال - يشتري الأضاحي للمعوزين، ويقدم هبات ضخمة للفقراء، وهكذا بات حميدو الديب أشهر شخصيات طنجة والشمال المغربي.. أكثر من هذا، فقد أنجز الديب مشاريع عملاقة صرف عليها أموالاً طائلة، مثل رياض تطوان في طنجة.. بل وتجاوز المشاريع المدنية، ليصل لمشاريع في العادة لا تقدر عليها سوى الدولة، وأنجز حميدو الطرق وساعد في بناء مرافق تابعة لدولة، وقوة الديب لا تنتهي هنا؛ بل وصلت به نفوذه، إلى القبض على المجرمين وتسلمهم للأمن، لا ليس هذا فقط، فإن رجال حميدو يسيطرون على منطقة كاب سبارتيل البحرية المطلة على القارة الأوروبية، ويقبضون على المهاجرين السريين ويسلمونهم للأمن.. هنا نفهم أن حميدو الديب له علاقة مع كبار رجال الدولة في الشمال المغربي.. ليبقى السؤال، من أين صنع حميدو ثروته، والأدهى، نفوذه الغير مسبوقة؟ إنها التجارة الدولية بالمخدرات يا ابن بابا.. الديب يتزعم مافيا التجارة الدولية بالمخدرات في الشمال المغربي، وما أدراكم ما هي المافيا المغربية المرتبطة بالمخدرات؟ إنهم يسحقون الأرواح كما تُسحق أعقاب السجائر على قارعة الطريق.. لا أحد يعرف كيف بدأ حميدو في الميدان اللاقانوني، وكيف وصل إلى هذه المكانة؟ المعروف أن اسمه ارتبط بالتجارة بالمخدرات منذ أواخر السبعينات.. في زمن المخدرات الجميل، تجاهل فيها الملك الحسن الثاني شمال مملكته، لأسباب كثيرة، فصار الشمال مرتعًا لتجار الممنوعات، وأرض خصبة لتبييض الأموال، وازدهر هذا وذاك مع فساد رجال الأمن في حافة المغرب، وكان الديب أحد من لعب دور البطولة في ذلك الزمان، حتى أنه يقال بأن الديب صديق مقرب من أشهر بارون مخدرات في العالم، الكولومبي بابلو اسكوبار، الذي كان يملك منزلاً فخمًا في منطقة مرشان بطنجة، ويُعتقد بأن المنزل هدية قدمها له صديقه حميدو. هكذا جمع حميدو الديب بين الخير والشر.

1996، الملك الحسن الثاني في لقاء مع المجلس الحكومي، يقول بأن اقتصاد البلد مهدد بالسكتة القلبية بسبب أموال مشبوهة.. كلام الملك، أشعل نارًا في وزارة الداخلية بقيادة إدريس البصري، أحد رموز زمن الجمر والرصاص، والرجل الثاني في المغرب لمدة عشرين عاما في أم الوزارات: الداخلية، والرجل الذي سنختتم به "سلسلة مغرب القرن العشرين".

المخابرات تُطلع وزير الداخلية إدريس البصري، أن الملك على علم بأموال مشبوهة تتكدس في الشمال، وأن تقارير دولية اتهمت أجهزة أمنية مغربية بتواطؤ مع تجار الممنوعات، تحديدًا عند حافة البلاد، في الشمال المغربي. انتفض البصري مرعوبًا من غضبة ملكية قد تعصف به وبرجاله المشكوك فيهم بالتواطؤ، وبدأ حملة اعتقالات واسعة وغير مسبوقة في جميع أنحاء البلاد، وبالأخص في الشمال، وُصفت بعملية التطهير، فياله من تطهير وكيف يكون في زمن البصري؟ أيام قليلة من بدأ عملية التطهير؛ ثلاث رجال يطرقون باب شقة حميدو الديب في طنجة، قدموا أنفسهم على أنهم من الشرطة، فقاموا بمسح الشقة، وطالبوا من حميدو مرافقتهم، وهكذا غادروا بالرجل القوي إلى وجهة مجهولة، وانتهت أسطورة الديب إلى الأبد.


2003، حميدو يغادر السجن بعفو ملكي بعد أن قضى فيه سبع سنوات، بتهمة التجارة الدولية بالمخدرات، ليجد أغلب أملاكه قد تم الحجز عليها، وقد اقتربت من أربعين مليون دولار.. مشاريع ضخمة وأموال في المصارف انتهت بحوزة الدولة، وتم نفض حميدو من المال والنفوذ ولم يُترك له، عدى بعض الأراضي والشقق. يستحضر حميدو يوم القبض عليه، وأنه نُقل من طنجة إلى مدينة القنيطرة لتحقيق معه، لمدة سبعة عشر يومًا في مخافر الشرطة، وكانت الاتهامات ثقيلة، منها التجارة الدولية بالمخدرات، ومحاولة زعزعة الاقتصاد المغربي بمعية باقي كبار مُبيّضي الأمول، وشكايات من دول أوروبية ورد فيها اسم حميدو، هذا دون اثبات ضلوعه في عمليات التصفية الجسدية، ووقع على المحضر دون قراءته.. لم تشفع له نفوذه ولا ماله، فقد قرر وزير الداخلية إدريس البصري التخلص منه، وكذلك كان، وحُكم حميدو الديب عام 1996 بعشر سنوات سجنًا نافذًا، قضى منها سبع سنوات، وخرج بعفو ملكي.. وإلى اليوم، ما يزال حميدو يتهم إدريس البصري أنه ظلمه وأخذ رزقه دون شرع معلوم.. حميدو لم ينفِ التجارة بالمخدرات، لكنه يُصر أن عائدات التجارة الممنوعة لا تتجاوز العشرين بالمئة من ثروته، ثم لم تجد الشرطة غرامًا واحدًا من الممنوعات بحوزته أثناء التحقيق معه، وكل الاتهامات أسندت إلى تقارير لا أكثر ولا أقل.. هكذا يدافع الديب عن نفسه، ويقسم أن مصدر أمواله من التجارة القانونية، وأنه ضحية تسلط وديكتاتورية وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، الذي لفق له التهم جُزافًا مخافةً من منصبه، وكل الموقوفين معه استعادوا ممتلكاتهم المحجوزة لاحقًا، إلا حميدو، ما يزكي له استهدافه شخصيًا في الاستيلاء على مشاريعه.. يردف الديب، أنه تعب من محاولات استرجاع أملاكه المنهوبة، حتى أنه راسل الديوان الملكي، فلا يلقى عدى أبواب موصدة في وجهه، ومجموع الأربعين مليون دولار ليس بالقليل، حتى يُنسى ويُطوى مع سنوات سجنه السبعة.


(كلمة)

الذئب ما عاد ذئبًا.. في أزقة طنجة يسير بهدوء، ويلقى احترامًا من معارفه، فلم يسبق أن عاد أحد من بابه خائبًا.. قرر في آخر أيامه الاعتكاف في المساجد وذكر الله، الله الواحد الأحد الذي يعرف حكايته الحقيقية.

تعليقات

  1. أول مرة أسمع بهذا الرجل ويبدو طيب في ملامحه هههه
    شكرا على السرد الجميل

    ردحذف
  2. وقد صرت تعرفه ^^
    يبدو كذلك حقا.. شكرا.

    ردحذف
  3. هاذا رجول هو عمي هههه انا اسامة بونقوب هههه عمي هاذا اخ ابي

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

تازمامارت .. أحياء في قبور !

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ