مغارة هرقل .. نافذة أفريقيا الأسطورية



خذوا أماكنكم، واربطوا الأحزمة، فسنقصد مكان يُدعى كاپ سبارتيل، حيث مرج البحرين يلتقيان، الأبيض المتوسط مع الأطلسي، وفي مرمى هذا اللقاء، سنقف عند ثغر على شبيهة من شكل قارة أفريقيا، نحتته الطبيعة قبل آلاف السنين، ينفذ إلى سراديب في باطن المرتفع الصخري، ويبلغ مجموع هذه التجويفات ثلاثين كيلو مترًا، وعند تلك النافذة الشهيرة تتكسر أمواج المد عند لقاء البحرين، في إطلالة على القارة العجوز التي تتراءى لنا على بعد أقل من أربعة عشرة كيلو مترًا. نحن هنا، في نهاية قارة وبداية قارة، عند حافة العالم كما كان يعتقد القدماء.. نحن هنا، عند مياه تاهت فيها سفينة نوح وأنقذتها النوارس.. نحن هنا، في أرضٍ وصخرٍ تكسرا تحت ضربة أحد عظماء الإغريق.. نحن هنا، في بقاع تمتزج فيها الأسطورة مع الحقيقة.

نقطة إلتقاء البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي في منطقة يُطلق عليها كاپ سبارتيل

نحن هنا، في مدينة طنجة وعند مغارة هرقل، أكبر المغارات في قارة افريقيا وأشهرها على الإطلاق، وأحد معالم السياحية في طنجة.. أذكرتُ "هرقل"؟ أجل، وها نحن ذا نفهم أنّ أسطورتنا اليوم لها صلة مع جنون الميثولوجيا الإغريقية، ومهد الأساطير البشرية.

مغارة هرقل

في عام 1096 ميلادي، تم اكتشاف مغارة هرقل، واعتمادها مزارًا سياحيًا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم تراثًا وطنيًا في عام 1950، وصارت المغارة إحدى معالم طنجة، حيث اتُخذ من تلك النافذة الصخرية على شكل قارة افريقيا، شعارًا للمدينة. يدخل الزوار إلى المغارة من رأس الجبل، وفي داخل المغارة تشتعل الأضواء الكاشفة من الأرض لتُنير سبل الضيوف، الذين يستمعون إلى سمفونية خرير المياه فتؤنس وحشتهم تحت السقف الصخري البارد.. ومع التّوغل داخل السراديب، سنصادف الإله هرقل قد صارع الأسد، وإلى جانبه لوحة تعريفيّة دُوّن عليها تاريخ المغارة وأساطيرها، وفي سرداب آخر يشهر تمثال هرقل بقبضته، وهو الذي يُعرف بهَول قوته في الميثولوجيا الإغريقية.. ومع الاستمرار في اكتشاف هذه التجاويف الصخرية والمرور عليها، تقل الإنارة ويلوح الظلام ويرتفع رد الصدى، وتتصاعد الحماسة والشهية في الاكتشاف، لتنتهي الرحلة عند نافذة على شكل قارة أفريقيا تطل على مياه البحرين المتوسطي والأطلسي ناحية أوروبا، ومن خلالها، لا يظهر عدى زُرقة المياه التي تنفذ إلى المغارة عند مد البحر. وقد تم ترميم المغارة مرارًا حتى يتسنى لها استقبال آلاف الزوار يوميًا في ذروة السياحة وعند حلول العطل.


هي مغارة هرقل، حيث تمتزج الأسطورة الإغريقية مع الحكاية المغربية.. فقد انتشرت الحكايات الأسطورية عن المغارة وكيف أن وُجد هذا الثغر العجيب، وكل تلكم الحكايات بطلها أسطورة من الاغريق، يدعى، هرقل، الذي تحمل المغارة اسمه، فمن هرقل هذا؟


لو سألنا التاريخ عن هرقل، فسيضعنا أمام بابيْن، الأول عائلة ملكية حكمت الإمبراطورية البيزنطية.. والثاني بطلنا اليوم، وهي أسطورة إغريقية من العصر القديم: هرقل ابن الإله زيوس، الذي اشتهر بقوته الهائلة، وهو أحد عظماء الميثولوجيا الإغريقية، وكما ولده زيوس، فإن هرقل وُصف بنصف إله، وهو قاتل الوحوش والأشرار، ومدافع عن الأخيار والمسالمين، وسجل له التاريخ بطولات أسطورية انتصر فيها هرقل. وبالعودة إلى مغارة هرقل في طنجة، فإن أشهر حكاية متداولة، يُحكى فيها أن هرقل كان مسجونًا في المغارة، ولكي يتحرر من سجنه، فقد استجمع الإله هرقل كل قواه العظيمة وخبط على الجدار الصخري لينشق الجبل محدثًا هذه الفوهة التي تشبه شكل قارة أفريقيا، ولشدة الضربة، فقد انفصلت قارتا أوروبا وأفريقيا عن بعضهما، واختلطت مياه البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي.


الحكاية الثانية، تُعاود سرد بطولات هرقل، وأن هذا نصف الإله قد خاض معارك مع الحاكم أطلس ملك البحار، وفي إحداها، أرسل أطلس وحشًا لقتال هرقل، وكانت المعركة هائلة انتهت بفوز هرقل، الذي أحدث ثغرًا في الجبل بعد ضربة عظيمة انشق لها الأرض وامتزجت مياه البحرين، وابتعدت أوروبا عن أفريقيا بعد أن كانتا متّصلتيْن.

طنجة، طنجيس .. المدينة الغامضة

هي مدينة طنجة المسكونة بالأسطورة والغموض، وقد تعددت الحكايات عن أصل تسمية هذه المدينة (الأوروفرقية) وقيل أن له صلة بأساطير الإغريق، وقد ذكرت كتب الميثولوجيا الإغريقية أرض طنجيس.. إلا أن أشهر الحكايات عن أصل تسمية طنجة، يحكي رُواتها أنه مستوحى من اسم والدة الملك الأمازيغي سوفاكس، التي تُدعى طنجيس.. وقد اكتشف الملك سوفاكس أرض طنجة في عام 1320 ووضع حجر أسسها لتغدو مدينة، ثم بسط سلطانه عليها. حكاية أخرى متداولة عن سفينة نوح، التي يُقال أنها تاهت في مجاهل البحار، حتى ظهرت نوارس ترسو على السفينة وعلى أرجلها طين مبلل، فصرخ أهل السفينة فرحًا باقتراب اليابسة والنجاة من مياه المحيط، فقالوا: "الطين جا.. الطين جا" أي أتى الطين، أتى الطين، وهو علامة على قرب اليابسة، وهكذا وصلت السفينة إلى أرض تقع على نهاية قارة أفريقيا وبداية قارة أوروبا، قرب مضيق جبل طارق، وأطلق عليها طنجة، تيمنًا بصرخة نجاة أهل السفينة: "الطين جا".


 (كلمة)

نعود ونجلس عند حافة العالم، ونحتسي كأس الشاي المنعنع، فتلك أسطورة خُرافية من ماضٍ سحيق، وحقيقة من المستقبل.. حكاية وثقافة، وغموض يكنف مدينة طنجة، التي ما تزال تقف كعروس تكتسي الأبيض عند مضيق جبل طارق، في ملتقى قارتيْن، وعند مرج البحرين.

تعليقات

  1. ياسين الرامي1 أغسطس 2021 في 11:51 ص

    أكثر ما أعجبني هو كأس الشاي المعشب في مقهى الحافة ,, أما الأساطير والحكايات والميثولوجيا فلا أجد نفسي في القراءة عنها فأنا أستثقل كثيرا هذه الأشياء ههههه

    ردحذف
  2. يا للتعب الضائع.. ولمن نقرأ زبورنا إذن ؟ ^^

    بما أنك أول من أتى، ثم أضف إعجابك بكأس الشاي ذاك؛ فهو لك.. لكنه ليس معشبا، كل ما فيه هو النعناع. الشاي المعشب في طنجة، هو الذي يحتوي مختلف الأعشاب: النعناع، الشيبة، اللويزة، اليسامين. أترى عن ماذا نناقش بسبب تفضيلاتك؟ يا رجل يقول لك هذا المسمى هرقل فلق الصخر وزحزح القارات، ونحن هنا نتحدث عن تحضير الشاي المعشب كما لو كنا الأرامل من العجائز (ههه................) تستحق ضحكة طويلة رغم أني لا أستحملها. ^^

    ردحذف
  3. ياسين الرامي2 أغسطس 2021 في 10:54 ص

    يا لك من بارع في السخرية "الأرامل من العجائز" هههههه يااااله من تشبيه غريب ,, المهم بسبب هرقلك نحن دولة إفريقية وتريدنا أن نتحدث عنه ؟؟ ,, ولا ننس أن نشكرك على معلوماتك القيمة حول الشاي المعشب ههههه

    ردحذف
  4. هو في الحقيقة ليس هرقل الفاعل، بل الطبيعة.. أترى كيف مكرت بنا الطبيعة، بعد أن كنا قاب قوسين أو أدنى لنكون ضمن الدول الأوروبية ؟ مثل الطالب الذي سقط بنصف نقطة ^^ 9,50/20

    عموما ما بها أفريقيا ؟ أفارقة ونفتخر بين الأمم.

    ردحذف
  5. كم أتمنى أن أزور هذا المكان لقد شوقتني شوقتني ماذا أقول سوى هنيئا لكم ببلدكم الجمييييل أنتم محظوظون جدا لديكم كل شيء بحر ثلج صحراء غابات مدن أنيقة وهذا ما يفسر شهرة المغرب السياحية وتصوير الأفلام العالمية وفي النهاية لدي سؤال فضولي هههه هل زرت هذه المغارة ؟

    شادية ♡

    ردحذف
  6. ليس لدينا كل شيء، الكمال لله وحده.. وهناك جانب سلبي لهذه الشهرة السياحية، وبسببها تلتهب أسعار النزل والمطاعم في بعض المدن. طالما شوقتك للزيارة هذا المكان؛ فهذا معناه أنني ما زلت أُجيد الوصف وتشويق القراء ^^ عموما نتمنى لك زيارة هذه المغارة يوما ما.

    عن سؤال أقول، نعم، بل أنا ساكن مع هرقل هناك، فأنا من عشاق البحر، ولو اندمج مع الصخر؛ فجنتي تلك ^^

    شكرا شادية.

    ردحذف
  7. المقال جميل كصاحبه والله اشتقنا لبنصالح صاحب هذه البسمة ^^

    ردحذف
  8. شكرا جزيلا على هذه المجاملات ^^

    ردحذف
  9. أسطورة جميلة زادها أسلوبك المميز جمالا ، وكم شوقتنا بزيارة هذا الكهف الأسطوري ، وبصراحة يا أخ محمد عندي ملاحظة أو رأي خاص ، وهو عن كثرة الإعلانات في المدونة ، لا أقصد أن أتدخل في شؤونك ، لكن حبذا لو قللت منها حتى لا تكون مزعجة ، وشيء آخر يتعلق بغيابك عن النشر لمدة ، لو استمرت على هذا النحو فستفقد قراءك أو تترنح المدونة في محرك البحث .

    مع متمنياتي لك بالتوفيق

    ردحذف
  10. شكرا لك أخ رشيد، وأسعدني رؤية تعليقك مرة أخرى.. فيما يخص ملاحظاتك.. حيث نبدأ بالإعلانات، فهي تجريبية لا أكثر، أضعها بين الحين والآخر، ثم أعدل عليها، وسأرى ماذا أفعل بها لاحقا، ربما أسحبها نهائيا.. وفي الحقيقة، من الصعب أن أنشر بوتيرة أسرع، لا لن أستطيع.. وقد وجدتني أفكر جديا ماذا أفعل بهذه المدونة، أعرف أن نشر موضوع واحد أو اثنين في الشهر، مفاده فقدان التنافس على محركات البحث وأيضا فقدان القراء، فالزائر لن يأتي مرارا للبحث عن الجديد وسيتولى عنك ببساطة.. الواضح أننا في طريقنا - وبهرولة - للوصول عند من سبقنا من المدونات، ونصير جميعا مجرد أرشيف منسي على النت، هذا مما لا شك فيه... عموما، أشكرك على اهتماماك، وأرجو أن تقبل منا ما وُجد.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-