تازمامارت .. أحياء في قبور !

سلسلة مغرب القرن العشرين -7-



كان يومًا يحمل معه شؤم الأرض، توقفت شاحنتين عسكريتين في منطقة خواء موحش لا وجود فيها من غير ثلاث بنايات في ساحة شاسعة تحدها أسوار، وبرجي مراقبة، ومن بعيد تتراءى جبال صلدة قفر لا آثار فيها للحياة.. كانوا ثمانية وخمسين رجلاً، انتشلتهم أيادٍ غامضة من الوجود لتطوح بهم في العدم، وتلحقهم بالنسيان، ليكنفهم الظلام لمدة ثمانية عشر عامًا، في مكان مجهول على مقربة من الموت؛ إنهم ما تبقى ولم يُعدم من المتورطين في انقلابي "الصخيرات" عام 1971، و "عملية البراق" عام 1972، ضد الملك المغربي الراحل، الحسن الثاني.. ضباط مشاة ورواد طيران بمختلف المراتب وجدوا أسمائهم مقرونة بالانقلابين الفاشلين، أغلبهم كانوا أبرياء كما يدعون.. بات بهم الحال في معتقل سري من صنيعة الشيطان، سجن سيجعل معتقل غوانتنامو الشهير ونظريه أبو غريب في العراق، وحتى محاكم التفتيش في العصور الوسطى؛ يقفون احترامًا وتبجيلاً لمعتقل مغربي يُدعى تزمامارت.

رجال يُساقون إلى الحفرة

سبق وأن تطرقنا في هذه السلسلة إلى انقلابي الصخيرات و الطائرة الملكية، عامي 1971 و 1972 وكلاهما فاشلا.. وقد ماتت العقول المدبرة الرئيسية، بعضهم أثناء المحاولة الانقلابية، والبعض الآخر حُكم بالإعدام رميًا بالرصاص، ولم يتبق سوى المتورطين معهم من قريب ومن بعيد، وقد تم تبرئة أزيد من تسعمائة متهمًا، بينما حصل فريق آخر على أحكام مخففة، تتراوح ما بين عام وثلاث سنوات سجنًا.. إلا ثمان وخمسون متهمًا رأت المحكمة أنهم يستحقون أكثر، فوَزّعت عليهم أحكامًا بالعقوبة السجنية تترواح ما بين خمس سنوات إلى عشرين سنة، إلا واحد منهم حظيّ بالمؤبد، بعد اعترافه بالقتل تحت التهديد، وهو الضابط محمد الرايس.

كان هؤلاء الرجال يقضون عقوبتهم في سجن مدني في مدينة القنيطرة بشكل طبيعي ممزوج برتابة السجون المملة، حتى ليلة السابع من آب أغسطس عام 1973، وقبل أن يتنفس الفجر، تم إيقاظهم على غفلة ليتلقوا الأوامر بجمع أمتعتهم والتهيؤ للرحيل، بعد ذلك توجهوا بهم معصوبي الأعين إلى قاعدة القنيطرة الجوية، ومن هناك أركبوهم في طائرتين عسكريتين، ثم حلقتا باتجاه المجهول.

كانت أفكار سوداء تطرق مخيلة المساجين: الإعدام الجماعي، الطرح في عرض البحر، وجبة للأسماك (...). حتى هبطتا الطائرتين، فترجل منها السجناء أو المخطوفين، ثم زجوا بهم في شاحنتين عسكريتين كالبضاعة لينطلقوا بهم من جديد.. وبعد أزيد من ساعتين في الطريق الوعرة؛ توقفتا الشاحنتين فجأة، ليسمع دوي تفرقع الأقفال، ثم انطلق عهد الظلام.


إنه يُدعى تازمامات.. سجن سري أُنشئ في بداية السبعينات في منطقة عازلة يُمنع المرور منها وكذا تحليق الطائرات، تحديدًا في قرية تحمل نفس الاسم المشؤوم سيئ الذكر، "تازمامات"، الموجودة على مقربة من مدينة الراشدية بوابة الصحراء المغربية جنوب المملكة.. السجن عبارة عن عنبرين، في كل عنبر توجد تسعة وعشرين زنزانة يقابل بعضها بعضًا في خط مستقيم، ويُفتح باب الزنازن على دهليز طويل قصير العرض شبه مظلم.

يعود إنشاء المعتقل الرهيب إلى روايتين مختلفين؛ الأولى يدعي رواتها أن الجنرال محمد أوفقير وزير الدفاع السابق وراء إنشاء معتقل تازمامارت، لغرض سجن عائلة الملك وحاشيته، وكل معارضيه، بعد نجاح الانقلاب.. الرواية الثانية رواها بعض الناجين من غياهب المعتقل، أنهم وأثناء تواجدهم في السجن المدني في مدينة القنيطرة، أي قبل ترحيلهم إلى معتقل تزمامارت؛ سمعوا أن العسكر يبني سجنًا سريًا في مكان ما في الصحراء.

مع العتمة



في النهاية، تم الزج بثمانية وخمسين رجلاً كل واحد منهم في زنزانة منفردة، ثم أزلوا العصابة على عيونهم، ليفتحوها على العتمة.

يكتب أحد الناجين، النقيب عبد اللطيف بالكبير، في مذكراته التي نشرها بالفرنسية:

" الزنازن بطول ثلاثة أمتار وسبعين سنتمترًا، وعرض مترين وأربعين سنتيمترًا، وارتفاع ثلاثة أمتار وثلاثة وسبعين سنتمترًا. في الزاوية مرحاض مُجرد من طرادة مياه، ومصطبة بيتون دون فراش تستخدم سريرًا.. غطاءان مهترئان هما كل الأثاث، لا طاولة ولا كرسي. وعاء من بلاستيك وصحن هما الأداتان الوحيدتان الموضوعتان تحت تصرف السجين".

هكذا إذن وجد السجين نفسه منفردًا في زنزانة ضيقة، ترك أعلاها تقب بقطر عشرين سنتيمترا ينفذ إلى سقف آخر من الصفيح يحجب ضوء الشمس.. وفوق باب الزنزانة سبعة عشر ثقبا بقطر عشر سنتمترًا تطل على دهليز يميل كذلك إلى ظلمة.. ثقوب تأتي بنور باهت، وما يشبه هواء يكفي لتجرع الموت على مهل. في اللحظات الأولى، كنف صمت جنائزي أرجاء المعتقل، كأن مراسم الدفن قد تمت وانصرف من شيعها.. بعد نصف ساعة تحوّل المعتقل إلى سوق أسبوعي، وصار كل المساجين يصيحون في غمرة الظلام لمعرفة أين هم، ولا أحد يُجيب ما عدى رفقاء المحنة التعساء، وقد تعرف كل مسجون على جاره، وكل واحد منهم يسأل عن أصدقائه، هل هم هنا أو في العنبر الآخر، - وهنا المقصود أن هناك فريقين في المعتقل، الأول هم ضباط مشاة في مدرسة أهرمومو والمتورطون في انقلاب1971، والفريق الثاني هم رواد الطيران من قاعدة القنيطرة الجوية والمتورطون في انقلاب عام 1972. مرت الأيام واستّوعب السجناء مدى فظاعة مقامهم.. تخيل نفسك في زنزانة لا يتعدى طولها ثلاث خطوات، وعرضها خطوتين، تغرق في شبه ظلام ما عدى ذروة الزوال، حيث يتسلل القليل من الضوء إلى أرجاء الزنزانة، أما الطعام والشراب، فتم اختياره بعناية يكفي للحفاظ على الروح البشرية أطول وقت ممكن لتجرع الآلام وتكفير ذنب تجرئهم على الملكية.. في الصباح يؤتى لهم بكأس قهوة تفوح منها رائحة الشعير، وقطعة خبز صلبة كما لو صُنعت من الإسمنت، عند الغداء يجودون عليهم بأردأ أنواع القطني المسوس، وفي العشاء يكون نصيبهم معجنات نتنة كما لو طبخت ببول البهائم.. فما أخبار الماء؟.. نصيب كل سجين من الماء هو خمس لترات يوميًا، يستخدمه في الغسل والشرب والمرحاض، الموجود عند زاوية الزنزانة.

منجل الموت يحصد الأرواح



لقد ظن أغلب المعتقلين أنها مجرد فترة وجيزة وستنتهي، وبدأت الشائعات تروج داخل المعتقل تفيد بأن الجنرال أحمد الدليمي سيزور السجن وينتهي هذا الكابوس المفرط في قبحه، فلا يُعقل ترك إنسان في هذه الظروف مهما بلغ ذنبه!.. ذلك لم يحصل أبدا، فبدأت الأرواح تتساقط تباعًا في وسط قذر، وصفه أحد الناجين، قائلا: "لو اجتمع أهل البلاغة والبيان؛ لما استطاعوا وصف فظاعات جرف هار يُدعى تازمامارت"، كان أول من راح ضحية المعقل، هو الطيار محمد الشمسي، أحد المتورطين في انقلاب الطائرة الملكية، والمتواجد في العنبر الثاني، الذي يوصف، بعنبر الموت، بحيث لم ينجو منه سوى أربعة سجناء من أصل تسعة وعشرون.. لم يتوقع أحد في العنبر أن يكون محمد الشمسي أول الهالكين المودعين في حُفر تازمامارت الجهنمية.. لقد كان الشمسي يحثهم بالصبر ويرفع عزيمتهم ويصنع لهم أملاً مزيفًا، هو نفسه لا يؤمن به، حتى ذات يوم فقد صوابه وبدا يخبط على باب زنزانته ليل نهار، يشتم الحراس ويتدمر.. استمر على حاله لقرابة أسبوع، ثم صمت فجأة، وحين فتح الحراس باب الزنزانة لتقديم وجبة الفطور؛ سقط رأس محمد الشمسي على الدهليز، حيث كان مُتكئًا على الباب قبل أن تنطفئ منه نسمة الحياة، كان ذلك في عام 1974 بعد مرور عام واحد في المحنة، ليُدشن محمد الشمسي سلسلة رهيبة من الوفيات البشعة.. حمله الحراس بأسماله المتسخة، ودفنوه في ساحة السجن دون غُسل ولا كفن ولا صلاة في بلاد إسلامية!.. انهال الحراس على جسده بالتراب وهم يلهثون، كما لو كانوا يتخلصون من الجيف.. فتبيّن للسجناء أن مصير رفيقهم الراحل، هو ما ينتظرهم لو تدفق الاستسلام إلى نفوسهم. مات الشمسي وتهيأ غيره لنفسه المصير، والبعض استّعجل الموت ونادى عليها ويترجى منها الخلاص، لينتحر في زنزانته وقد شنق الحياة في رقبته بما أُتيّ من أسمال.. الآخر يصرخ في أسماع زملائه قائلا: "يا أصدقاء، إن الخلاص الوحيد من هذا الجحيم هو الانتحار، صدقوني لن نخرج هنا إلا ونحن أمواتًا". مرت السنين وأجهزت تازمامارت على الرجال، هدّت قواهم وقمعت كبريائهم وسرقت أرواحهم.. اثنان وثلاثون رجلًا التهمتهم الحفرة الجهنمية طيلة ثمان عشرة سنة من أهوال سجن تازمامات.
.
أنين وأمل وجنون

لقد جُنّ الزمهرير، والثلج يتساقط في تازمامارت، وفي عزّ الليل تُسمع الشهقات، رجال يتجشمون قمع بكائهم، واستحضار الكبرياء إلى الحفرة.. تناسلت مختلف الأمراض بين المساجين، والبعض الآخر تركه عقله وأصابه الخبل، فإذا به يغني ويهذي، ينادي طفلته ويضحك، ثم يبكي ويشتم ويتذمر.. طائر الخبل ينعق حول أسوار سجن تازمامارت، مُنذرًا بهالك جديد، هكذا اعتقد السجناء، كلما سُمع الصوت البومي المشؤوم، يتساءلون فيما بينهم، من التالي؟ أيًا منا الأكثر مرضًا؟ هو فلان أو علان.

يكتب أحد المعتقلين في رسالة مسربة لعائلته:

"صحتي متزعزعة، فقدت أسناني، معدتي التهبت،  أتبول اثنا عشرة مرة في اليوم، الإكزيما تقرض جسمي بكامله. كن مطمئنًا، أنا لا أخشى الموت، ما أطلبه هو أن يأتي مترفقًا وفق ضوابط الإسلام".

 أحد السجناء يُدعى مبارك الطويل، رائد الطياران المتزوج من الأمريكية نانسي، كان أو من حلفه الحظ في ربط الاتصال مع الخارج، وسرب رسالة إلى زوجته بمساعدة أحد الحراس، يُخبرها عن مكانه ومآسيه ونهايته الحتمية، ختم رسالته كاتبًا: "يا نانسي إنها النهاية، فلا أمل عندي بالخروج، سنموت جميعًا هنا.. أنت اليوم حُرّة يا حبيبتي، ارجعي إلى بلدك وابدأ حياة جديدة". بعد أشهر يأته جواب، نانسي ترد على زوجها: "يا حبيبي لن أتخلى عنك أبدًا، وأخبرك أني اعتنقت الإسلام، ومن نانسي صار اسمي ثورية، وأقسم لك أني سأدافع عليك حتى النهاية".


 عادت نانسي أو ثورية إلى بلدها أمريكا، هناك طرقت الأبواب لتشتكي حال زوجها.. أتى الرد سريعًا، أمريكا تتحرك لأجل زوج أمريكية مسجون. أعيد: أمريكا تتحرك لأجل زوج أمريكية مسجون!. السفارة الأمريكية في المغرب تستفسر السلطات المغربية عن مصير مبارك الطويل.. الخبر يصل إلى سجن تازمامارت، وحضر مدير السجن بنفسه إلى مبارك طويل، فتم اصطحابه للقاء السفير الأمريكي، ظن الرفقاء أن الطويل سيفرج عليه وقد تكون بداية نهاية الكابوس، لكنه عاد من جديد إلى الحفرة، استفسره رفقاء المحنة التعساء عن ما دار بينه وبين السفير الأمريكي؟.. لم يرد الطويل، مكث صامتًا، بعد أيام تتغير أحواله، صار يخرج إلى الساحة بعد الزول، وأتى له بفراش ولباس جديدة، حتى الطعام السجن تم تغييره لمبارك، وصارت له وجبات خاصة غنية دون سواه.. كل هذا لأنه فقط متزوج من أمريكية.. أحد أصدقاء مبارك الطويل الذي كان معه في أمريكا أثناء التدريب، يصرخ في زنزانته ويتحسر: "أين أنت يا آنا؟ أين أنت ماريا؟ أين أنت جودي؟ آه لو كنت أعلم ماذا سيحدث لي، لتزوجتكن جميعًا". رغم كل بذخ مبارك الطويل وتفضيله عن باقي المعتقلين؛ إلا أنه لم يخرج عكس ما توقعه الجميع، ظل هناك حتى يوم الفرج.

يكتب معتقل آخر في رسالة مسربة لعائلته:

"تصور أننا تحولنا إلى مومياءات متحركة بوزن أربعين كيلو غراماً!، الوجه مقموح خشن، وشعر طويل ولحية نجزها بطرف قطعة من توتياء مسننة، أما الأظافرها فنقرضها كيفما اتفق بأسناننا بنسبة لمن أسعدهم الحظ ببقائها.. ثلاثة أرباع فرسان العذاب التعساء، ونصف مجانين برأس أجرد حل به الصلع في الثلاثين من العمر. ثمانية عشر عامًا لم يزر فيها تازمامارت طبيب أو ممرض، ولم يُعطى أي دواء لسجناء.. المرضى كلهم شبان في قمة اللياقة سابقًا؛ لكن السجن حطم أجسامهم". 

طيلة ثمانية عشر عامًا من الحياة التازمامارتية، حاول السجناء الاندماج مع محيطهم المرعب، فأحدثوا برنامجًا يوميًا لتنظيم حياتهم، كان فيه وقت حفظ القرآن، وتعلم اللغات، والدردشة الخفيفة بين الجيران، وسرد الأفلام والروايات، ولعب الدين والقرب من الله دورا جوهريًا في صمود الناجين.. وفي أواخر مقامهم، حصلوا على بطريات لتشغيل جهاز راديو صغير كان بحوزتهم، بمساعدة أحد الحراس المتعاطفين، اكتشفوا من خلاله ماذا حل بالعالم بعد تسع سنوات من العزلة التامة.. قبل ذلك كان المساجين قد أوجدوا اختراعًا عبارة عن عصى طويلة في رأسها مرآة صغيرة يسرقون بها إلى أرضية زنزانتهم قبس من نور الشمس من خرم في سقف الزنزانة، وإن كانت فترة قصيرة محددة بعد الزوال، ثم اخترعوا مقصًا لتخلصوا من شعورهم ولحاهم وقص أظافرهم، بينما كان الحمام وقلة الملابس أعظم المفقودين في تازمامارت، وتراكمت الأوساخ على الأبدان الهزيلة وفاحت منها الروائح، واكتمل عرس القذارة باختناق المراحض.

لا الصيف ولا الشتاء لم يلطفا على التازمامارتيين، كما لو كانا قد عقدا اتفقًا مع الجلاد. يكتب أحمد المرزوقي أحد الناجين من تازمامارادت:

"باستثناء شهري آيار وأيول؛ كان الشتاء والصيف يهويان على أجسامنا النحيفة، كسيف حاد ينزل على رقبة نخويه متداعية، فبعدما انتظرنا الصيف على أحر من الجمر؛ نزل علينا فجأة حارًا ساخنًا لاهبًا.. في أتون هذا الاختناق المتواصل، طغت النثانة الفظيعة، فمن ثلاجة متجمدة، انقلبت الزنزانة إلى فرن متّقد بفعل الحرارة المفرطة التي وصلت في الظل 44 درجة في الظل، حسب ما سمعناه من بعض الحراس المتذمرين".

محمد الغالو.. أيوب تازمامارت !

ما من كاتب عن أهوال تازمامارت، لم يتوقف عند حكاية محمد الغالو.. الضابط الوسيم وأيوب تازمامارت كما لقبوه زملاء المحنة، عاش أواخر عمره في ظروف يهتز لها عرش الرحمن. تعود الحكاية إلى أواخر السبعينات حينما انتشر خبر التفتيش بين السجناء، فقرر محمد الغالو التخلص من جهاز الراديو الذي مرره يوم دخولهم إلى المعتقل حتى لا يعاقب؛ فقام بتكسيره وأرداه قطعًا ورماه في ثقب المرحاض ومرره بالماء، لكن قطعة واحدة مشؤومة ذات نحس بغيض لم تمر واستقرت بعيدا عن يده، لتكون سببًا في اختناق المرحاض.. ظل الغالو يقضي سحابة يومه متكئًا على ركبتيه وهو يحاول استخراج تلك القطعة الملعونة، حتى أصابه داء الروماتيزم في أقدامه، وتطور مع الوقت وغياب العلاج، حتى صار نصف شلل أصاب محمد الغالو وجعله لا يحرك سوى نصفه الأعلى لمدة احدى عشر عامًا، أُصيب فيها الغالو بمختلف الأمراض، وتحوّل إلى هيكل عظمي بشعر أشعث مغبر ولحية تدفقت إلى صدره المقعر، وتآكلت أطرافه والتصقت بالإسمنت وتلطخت بالبول والبراز، وغدا ركام آدمي تقشعر من الأبدان.. تطوع السجناء وتوسلوا إلى الحراس أن يسمحوا لأحدهم برعاية محمد الغالو والعيش معه في زنزانته.. وافق الحراس وسمحوا لهم بالتناوب على زنزانة الغالو التي تفوح منها رائحة الشر البشري!. في عام 1989 مات محمد الغالو بعد معاناة استمرت أكثر من عقد من الزمن، وانتهت حكاية أيوب تازمامارت، الذي شاهد عليه رفقاءه أنه كان صبورًا مؤمنًا بقدر الله، ويرفع من عزيمة زملائه بقرب الفرج متجاوزًا متعاليًا على حاله الذي تدمع لها الصخور، فمحمد الغالو ميت باستثناء رأسه وإحدى يداه، حتى انطفأت روحه ولحقت بمعظم جسده الذي سبق.. حمله الحراس الأميين الجهلاء شذاذ الأفاق كما عوائدهم دون أي طقوس إسلامية، وحشروه في حفرة الجير في ساحة المعتقل إلى جانب رجال آخرين هلكوا هنا، وأُهينوا في حياتهم ومماتهم، وكانت الكواسر أرحم بفرائسها من الإنسان على ابن جلدته.

عجائب وأسرار تازمامارت

في تازمامارت عجائب وغموض حكاها الناجين من قبورها.. من بين العجائب، هي اللغة التازمامارتية التي أوجدها السجناء؛ حدث هذا حينما أعلمهم أحد الحراس المتعاطفين بأنه يتم التنصت عليهم، فبدأ السجناء يتفقون على الكلمات الجديدة لتشفير أحاديثهم، وهكذا دواليك مرت السنين حتى صار الجميع يحفظ اللغة المشفرة الغريبة، فظن الحراس أن هؤلاء قد أصابهم الهذيان الجماعي.

ذات يوم من أيام تازمامارت،  أُتيّ برهط من رجال أفارقة إلى العنبر الثاني، وسجنوهم هناك.. حاول السجناء التعرف عليهم ومساعدتهم، لكنهم امتنعوا عن الإجابة على أسئلتهم، أحدهم خرج عن هدوءه وبدأ يضرب على الباب ويشتم الحراس والعالم، حتى مرض ومات.. مكثوا هناك لقرابة عامين، حتى تم ترحيلهم إلى وجهة مجهولة، وقد تركوا رفاة رفيقهم يشارك المغاربة قبور الجير في تازمامارت.

في يوم آخر أتى المدير بكلبة تُدعى هيندا، وسجنها في ساحة السجن.. ظلت الكلبة تعوي ليل نهار على مسامع السجناء، كأن حدسها يُخبرها بوجود أرواح معذبة في مكان ما هنا.. كانت تنبح قرب باب السجن وتدخل أقدامها في الفراغ تحت الباب الفولاذي الثقيل، حتى ذات نهار نجحت بالدخول، فعرهت إلى الداخل للقاء تلك الأرواح المعذبة، حينها كانت تازمامارت تعيش فصولها الأخيرة، فسمح للسجناء بالتّجول في الدهليز وفُتحت أبواب الزنازين.. كان اللقاء بين الكلبة والسجناء حارًا كلقاء المشتاق، فاحتكت معهم جميعًا بجسدها، وعنقوها وقبلوها، حتى أن أحدهم قبلها في فمهما.. ويا للغرابة ما وقع بعد ذلك اللقاء؛ فلم تعد هيندا تنبح بعنف في الخارج، حتى أُطلق سراحها وأسعد خبر الافراج عنها السجناء، آملين أن يُفرج كذلك على الإنسان. من الكلبة هيندا نمر إلى طائر صغير منهك فاقد للريشه سقط في زنزانة الضابط أحمد المرزوقي، فحمله السجين وقرر أن يعتني به ويشاركه طعامه البئيس، حتى استعاد الطائر قواه ونمى شعره من جديد، فأطلق عليه "فرج" تيمنًا بفرج قريب من عند الله.. عاش فرج بين السجناء لعدة أسابيع، يُحلق فيها في الدهليز ويزور السجناء في زنازينهم، حتى قرر صاحبه اطلاق سراحه مُستغلاً غفلة من الحراس، فتعرض لتوبيخ والعتاب من زملائه على رحيل فرج.. صرخ عليه أحدهم: "فرج ليس لوحدك فقط، إنه لنا جميعا". وانقسم رأي السجناء، بين المحبب للفكرة في اطلاق سراح فرج، وفريق آخر يعتبر أن فرج شيء يربطهم بالعالم الخارجي، والله أرسله لأجل ذلك.. إلى هنا نعرف مدى عزلة هؤلاء التعساء عن الوجود، حتى غدا وجود طائر صغير يخفف من وحشتهم، لا بل إن خيالهم يرحل مع نهيق الحمار حين يتناهى إلى أسماعهم من بعيد.. إن أكثر الأشياء التي نراها دون قمة في حياتنا، تصير مرغوب فيها حين لا تعود هنا. عاد فرج مرة أخرى لزيارة أولئك التعساء، فصرخ أحدهم: "أحمد أحمد، لقد عاد فرج، عاد فرج!". زيارة لم تدم طويلاً فأطلق أحمد المرزوقي سراحه من جديد، لكنه عاد بعد فترة، وهكذا كرر الزيارات حتى ذهب ولم يعد. من الطائر فرج إلى الحمام الذي عشعش في سقف تازمامارت، وسيرًا على العوائد، فقد انقسمت الآراء، فقال المتفائلون إنها لأمارة الإفراج القريب، لما يحمله الحمام من الحرية والسلام.. والفريق الثاني اعتبر أن الحمام لا يقطن إلى الأماكن الخربة، وأن حضوره علامة مشؤومة.. فصدق الفريق الأول، وأتى اطلاق سراحهم بعد أشهر قليلة.

انتهى الظلام

سؤال واحد كان يطرق مخيلة السجناء ولا ينفك عليهم: "هل سيحدث ونخرج يومًا من هنا؟". كان هناك أملًا لا ينتهي، ويظل يتجدد كل حين، ليُعينهم على تحمل فظاعة تازمامارت، حتى ذات يوم سمع أحد السجناء دردشة بين حارسين، قال أحدهما للآخر: "ماذا تظن بأنهم فاعلون بهؤلاء التعساء؟". أجابه: "الأرجح سنمكث معهم حتى موت آخر واحد منهم، ونرحل في سبيلنا". قال الحارس الأول: "لا أعتقد يا صديقي، فبمجرد موت آخر واحد منهم؛ سيتم التخلص منا نحن الحراس كذلك، وهدم السجن ومحو آثار كل ما له علاقة بما حدث". أجاب: "أوَتظن ذلك؟". قال: "بل أكاد أجزم، لأن الدولة لن تسمح بأن يفتضح أمرها". بعدما سمع السجين هذا الحوار، أخبر باقي المساجين، وانقسموا كما هو متعارف عليه، الفريق الأول يتوافق مع رأي الحارس، والثاني أكثر تفاؤلاً بالفرج، بالأخص بعدما تم تسريب رسائل كثيرة من سجن تازمامارت وصلت إلى المنظمات الوطنية وحتى الدولية، بالإضافة إلى ضغط الأسر المطالبة بمعرفة مصير دويهم، والتحقيق من الرسائل المسربة، فشاع خبر تازمامارت، حتى طُرح في البرلمان، وأضحى المغاربة يتداولون هذا الاسم الغريب.. علم السجناء ما يحدث في الخارج عن طريق جهاز راديو، فتيقنوا أن أيامهم في تازمامارت باتت معدودة، وأمامهم خيارين لا ثالث لهما؛ أن يعودوا إلى عائلاتهم، أو يتم تصفيتهم جميعا.. ما بات في خبر الأكيد، هو أن تازمامارت أوشكت على الانتهاء.

مهما طال الليل وإن بدا بلا ختام، فالفجر سيبزغ وينجلي الظلام.. ليلٌ أشيبٌ انتهى، واستيقظ ما تبقى من الرجال من كابوس تازمامارت.. في يوم 15 من شهر أيلول عام 1991، فتحت أبواب سجن تازمامارت لتلفظ هياكل عظمية مكسية بلحم ضامر، كما لو بعثوا من قبورهم.. بعضهم يمشي، والبعض الآخر يستند إلى رجال الأمن في مشيته العسيرة، ومنهم من حُمل فوق ناقلة.. الغريب أنه تم عصب أعينهم ووضعوا الأصفاد في أياديهم، كما لو كانوا يخشون أن تهرب هذه الجثث!. خرجوا هناك وقد أنهكهم طول مقامهم، مخلفين خلف ظهورهم ثمانية عشر عامًا، ستة آلاف وخمسمائة وخمسين ليلة مبتورة في أعمارهم، قضوها في جحيم يُدعى تازمامارت.. عند قدموهم كانوا ثمانية وخمسين رجلاً، والآن عند مغادرتهم، تقلص العدد وبات ست وعشرين فقط.. اثنان وثلاثون روحًا قضت في تازمامات ببشاعة متمادية.

تم نقل السجناء إلى المدرسة العسكرية أهرمومو نواحي مدينة مكناس..  هي مُنطلق الكولونيل محمد اعبابو ورجاله قبل سنوات لتنفيذ انقلاب الصخيرات الفاشل، وعاد الضباط إلى حيث بدأ كل شيء، وإن لم يتعرف عليها أحد، فالمدرسة تم تجديدها وأطلقوا عليها اسم جديد.. هناك وجد السجناء مقام بذخ وأطباء كفء للاعتناء بهم قبل تسليمهم لعائلاتهم.. لقد أرادوا أن يُضيفوا إلى هؤلاء التعساء صبغة إنسانية ومحو آثار تازمامارت في محياهم.. وحينما يظهر التحسن على واحد منهم يُطلق سراحه بشروط: "إياك وذكر تازمامات، إذا سألوك؛ قل لهم كذا وكذا واصمت، ولا تنس نحن في كل مكان، واحذر من العودة إلينا!".

ماذا حدث؟

ليس هناك أسوأ من أُكسر عظامك وأقطع لحمك وأُمرِّغ وجهك في التراب؛ ثم أنكر حصول ذلك!، أنت كذاب تفتري علينا!. هذا ما حدث بعد الافراج على المخطوفين، فقد أغدقوا عليهم بالوعود وبيع الأوهام، طيلة السنوات التي تلّت تحررهم من المعتقل الرهيب، وأمام الملأ ينفون وجود تازمامارت، حتى توفي الملك الحسن الثاني وأتى ملك شاب، وتم التخلي على رموز الحقبة السوداء المعروفة بسنوات الجمر والرصاص، منهم العساكر ذو القبعات المرعبون.. أخيرًا كانت للدولة الشجاعة في الإعتراف: نعم يا سادة يا كرام، كان في بلدنا معتقل سري يُدعى تازمامارت. وتم انشاء هيئة الانصاف والمصالحة، لأجل الاعتذار الرسمي لكل المتضررين وأسرهم، وانصافهم.. حتى أن الدولة تجاوزت المتوقع منها، وأعطت الضوء الأخضر لكل من يوّد أن يكتب مذكرات عن ما عاشه في سجن تازمامارت ليخبر به العالم.


(كلمة)

لا مفر لنا من سؤال مُلِّح: هل فعلاً كان هؤلاء الرجال أبرياء؟. الجواب عند الله وحده.. هم أنفسهم يُصِّرون على براءتهم وأنهم لم يكيدوا مكيدة، بل غُرِّر بهم.. كيفما كان جواب السؤال المبهم؛ فلن يُبرر البتة العقاب المهين الذي طالهم.

اليوم لم يتبق من معتقل تازمامارت سوى أسوار مهترئة تُطيق أرض نُثر عليها رماد الرجال.. أرض كانت مسرحًا للأنين والأوجاع، بقع الدماء وحبات الدمع.. أرض شاهدة على مدى قدرة الإنسان على التمسك ومقاومة المصائب والتعالي عليها، قدرة الإنسان على الاستمرار.. وأكثر من كل هذا وذاك؛ هي أسوار وأرض واسم مشؤوم، سيظلون شهودًا على ما تستطيع الإنسانية أن تقترفه، حينما تقرر العقاب.




محمد بنصالح
Bensalahsimo018@gmail.com

تعليقات

  1. لا اعرف ماذا أقول !! مقال رائع ومأساوي لقد تجمدت الكلمات ، مسكين محمد الغالو الله يأخذ الحق
    تشكر على إفادتنا

    ردحذف
  2. العفو.. شكر على حسن القراءة والرد.

    ردحذف
  3. واحد من أفضل المقالات التي قرأتها عن سجن تزمامارت ، بعض البشر يتحولون 90 درجة ويصبحون شياطين عندما ينتقمون ، وانتقام تزمامارت فظيع جدا ، يا اخي محمد لو تعرف فيما كنت افكر عندما أتممت المقال ، قلت في نفسي هل يوجد في مغربنا تزمامارت جديد ونحن لا نعرف ؟؟؟

    ردحذف
  4. أنا كذلك يا أخ رشيد، تساءلت مثلك؛ ترى هل في بلدنا تازمامات أو تازمامارتات أُخرى في يومنا هذا، ونحن لا ندري عنه شيئا؟. في الحقيقة ليس مستبعد، ففي العالم كله ما زلنا نتفاجأ باكتشاف معتقلات سرية جديدة..

    فقط أود تصحيح بسيط على حد علمي، عند قولك "تحوّل ب 90 درجة"؛ وهو أن تسعين درجة تعني أننا مازلنا في ربع الدائرة المخصصة لنا.. الصحيح هو (180 درجة) ^^

    تحياتي أخي رشيد.

    ردحذف
  5. عبد الرزاق ايدر19 سبتمبر 2020 في 4:38 م

    قال الله تعالى في كتابه الكريم :

    ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .

    تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ