المشاركات

وما زال في الناس قراء...

صورة
انتهيت من وجبة الفطور، وعدّلت بصري الذي كان معلقًا في شاشة تلفاز عملاق تبثُ الصرعات في مملكة الحيوانات بعد أن انطفأت بغتةً، فأخرجت هاتفي؛ فجأة تبين لي شاب يجلس أمامي ويقرأ كتابًا ما، أثار انتباهي القارئ ذاك في هذا الصباح، فقد خلق الاستثناء في هذا المكان، وكان المرء الوحيد الذي يحمل كتابًا، بينما البقية يُحدق في شاشة هاتفه الذي في يده أو واضعًا إياه على الطاولة بينما يدس المأكل في وجهه وأبصاره إلى الشاشة، وأنا واحد في رهط هؤلاء، عدا ذلك القارئ أعلن في مقامنا هذا، أنه ليس منا!  وضعت هاتفي على الطاولة، وخضعتُ لفضولي أن أعرف عنوان الكتاب الذي يفتحه هذا الشاب أمامي، ولم يطل انتظار فضولي حتى أشبعت رغبته، واكتشفت عنوان الكتاب، الذي سبق أن قرأته قبل بضع سنوات، إنها رواية   la chartreuse de parme  للكاتب الفرنسي هنري بيل والمعروف باسم ستندال، وهو أحد عمالقة الأدباء الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وقد قام بتأليف هذه الرواية التي تُقرأ أمامي - بنهمٍ بادٍ - عام 1839، والذي عرفني عليه أحد أصدقائي القراء.  زاد إعجابي بهذا الشاب الذي يفتح كتابًا في  هذا الصباح، بعد أن عرفت عن ماذا يقرأ، فالذي يقرأ أمث

أسطورة تسليت أونزار (زوجة المطر)

صورة
في ليالٍ سادها صوت المطر المنهمر الصافع للأرض، ودوي الرعد كأنه مُهددٌ، والرياح ترد بصيحات مهيبة؛ يجتمع الأطفال محلقين حول جدتهم، التي استحضرت لهم حكاية مسقية مما حلّ بقريتهم هذه الليلة: يا أبنائي، صلوا على النبي: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كان ذات زمان في قريتنا، فتاة نالت من الجمال ما لم تنله واحدة من أقرانها في باقي الأصقاع. أحبت الفتاة المياه، فدأبت على زيارة النهر كل يوم، هناك تغتسل وتلعب بالماء، بينما يراقبها الشاب "أنزار" وهو إله المطر، الذي سقط صريع عشقها، فدفعه العشق ليغدق على محبوبته بالأمطار، فكان ذلك منفعة على القرية التي تعيش على ربيع دائم، فلا تجف ينابيع مياهها. فتساءل أهل قبائل الجوار، كيف أن أحبّت السماء تلك القرية ولا تنفك على سقياها، كما لم يحدث مع باقي القرى؟ قرر الشاب "أنزار" الظهور لفتاة النهر، وطلب يدها للزواج، فارتدى أحلى ثيابه وانتظر جنب النهر قدوم فتاته، حتى أجاءها حبها لمياه النهر، إنما هذه المرة لم يكن النهر وحيدًا؛ ففيه الشاب الذي عرف على نفسه وغايته، وكيف عصفت بقلبه بعد أن كان هو الآمر للعواصف. بوح "أنزار"

وجدتُ عملاً !

صورة
بعد أسابيع من العمل المُضنٍ في جنيّ الزيتون عند أثرى واحد في قريتنا، الذي كان جده قاطع طريق في باكورة الاستعمار؛ ناولني أجري في ألفيْ درهم. التزمت مع نفسي أن أُمتعها عند التحيّن الأول، وأعيش دور الأعوّز الذي تُطل الفرحة من عيناه، وأخذت في صرف كل المبلغ على ما يرضي سعادتي، ويضخ هرمون (الدوبامين) في عروقي. في اليوم الموالي اكتسّيتُ أزهى أثواب خزينتي، سروال جينز شديد الزرقة، وحذاء برتقالي، واستّقامت أناقتي بقميص أصفر، ثم توجهت إلى الطريق الرئيسية حيث تمر الحافلات قاصدةً المدينة. جاءت الحافلة المتوجهة إلى العاصمة، وأخذتني معها، هناك بعد نزولي إلى شوارع المدينة، أدركت أن أناقتي بها خرقٍ ما، فهي لا تمتثل لم يتأنق به الناس، إلا أن رضاي استكن لها، فلا غمغمة شك بعدها. بعد أولى خطواتي في العاصمة، فكرت كيف سأصنع سعادتي في أوج التمدن حيث أنا، قبل الارتداد إلى حضن المشقة في القرية؟ وأول قراراتي المتخذة، كانت في زيارة لابن قريتنا حتى أقضي ليلتي الأولى في منزله، كما سأدخر ثمن المبيت في الفندق، ثم لعله يدلني إلى مساكن صناعة السعادة في مدينته. اتصلت به وأفصح لي عن عنوان منزله. هلّني منظر منزله الفا

عام آخر 2024

صورة
ليلة أمس، كتبتُ على محرك البحث خاصية الصور: "العام الجديد" لتُعرض أمامي عشرات الصور المتعلقة بعملية بحثي، ملؤها تهانئ قدوم السنة الجديدة، وأرقامها المزخرفة، وإذ ذاك أُقلب فيها، حتى نالت إحدى الصور رضاي، فقمت بتحميلها إلى صفحتي على (الفيس بوك) لأعلن مشاركتي - الكاذبة - بتبريكات العام الجديد في العالم الافتراضي، فأنا لا أحتفل لكي نتفق على هذا أولاً. بعد لحظات، اكتشفت أمرًا مذهلاً! مذهلٌ إلى درجة تجعل المرء يظن أن الواقع به خلل ما! لقد أدركت أن هذا الذي قمت به ليل أمس؛ مرت عليه عشر سنوات كاملة. لستُ أحتفل برؤوس السنوات، ولا أظنني سأفعل يومًا، ولا بداخلي ما يُشعرني بالاحتفال بأي عيد، حتى العيدين، الفطر والأضحى، أجعلهما كأيتها الأيام. في الحقيقة في عيد الفطر أميل إلى حزن الفراق، بعد انقضاء رمضان، فهو الشهر الوحيد المميز عندي في السنة، لما فيه من أجواء روحانية. اقترب رقم آخر من ضِعف اثنين، الذي أتفاءل بهم منذ صباي. قطار 2024 سينطلق بعد حين، وسيحملنا إلى مشيئة الله تعالى، منا من سينزل في إحدى محطاته، ومنا من سيواصل الرحلة إلى أن يمتطي قطار آخر غير بعيد، يظهر عليه رقم خمسة وعشرون.

نظرة وذكرى

صورة
وتذكرت.. تذكرتُ من تكون ونحن نتناظر في لحظات عابرة، أمدُّها ما يُقدر بتباصر شخصين مرا جنب بعض؛ إلا أن زمننا اختّل والتّفت إلى نظراتنا، فتّمهل، حتى يكتشف ذكريات الأماسي التي تصبُ منها صبا. إنها ذاتها، فتاتي، التي كنا نرسم معًا بعودٍ أحلامنا في التراب، واليوم تُصاحب رجلاً يبدو في عمر أبيها، إلا أنّ تشابك أصابع يديْهما، ينسفُ أُبُوّته عليها، فبدا أنه زوجها، وفي يده الأخرى مفاتيح سيارة، من شعارها، يظهر أني لن أقدر على أن أبتاعها حتى لو قدمت لحياتي قرنًا من العمل بليالٍ وأنهُرِ. وأتى بين جموع الذكريات يوم اتفقنا أن أختار أنا اسمًا لمولودنا الذكر، وتتكلف هي بتسمية الأنثى. وحين أبتغي أن أتحسّس جسدها، أُسوِّغُ لها، "بأنكِ زوجتي المستقبلية - يا هذه البلهاء -" وإذ ذاك نخوض في الحب، أو نصنعه عنوةً. وضحكت.. ضحكت، وهي تشيح بأبصارها عني، ثم غدت ورائي، فانقضى اللقاء وأدركت أن الزمن عاد راكضًا، أو تراني كنت واهمًا. أمضي في حال سبيلي، وأتساءل ما الداعي لضحكتها؟ حتى توقفتُ جنب واجهة زجاجية لمبنى مديرية الأمن، هناك أبصرتُ هيئتي، فأدركت لِمَ ضحكت، وتبدى لي الحق. 

قالت له ابتّسم

صورة
قصة قصيرة   جاء روّيده لا يطرق فكره شيئًا، فتعرضت طريقه أنثى، قالت له:  _ ابتّسم. حتى تلك السيجارة التي كان يهمّ بحشرها بين شفتيه الزرقاوتين عَدَل عن رفعها لفمه، وظلّت أصابعه تتلاعب بعِقبها الندي، ورمقها بنظرة النسر المُشمئز من الرياح العاصفة، لأنه يعلم أن أي محاولة منه للتّحكم في مسار طيرانه ستبوء بالفشل. نظر إليها صامتًا يرنو لفهم هذا الكائن الغامض - لدّنه -  المسمى (أنثى) وكيف يفكر. هل بمجرد أن يبتّسم ستحلُ جميع مشاكله، وديونه المتراكمة ستعرف طريقها للأداء؟  هل بمجرد أن يبتّسم سيتخلص من شعور الخيبة الذي لازمه منذ مرض والديه إلى مغادرتهما الدنيا، وعجزه عن تقديم يد المساعدة لهما، وقد أرهقهُ ما يزال يُرهقه؟ هل بمجرد أن يبتّسم سيُبيدُ العجز الساكن بين ضلوعه؟ هل بمجرد أن يبتّسم سيحصل على أسنان بيضاء تُغنيه عن تبرير سوداها لكل من رآها عقب ابتّسامته وسأله عن سبب سوادها وتفَتُتِهَا؟ هل بمجرد أن يبتّسم سيجد من تحبه بوجهه الشاحب وجسمه النحيف وأنفاسه التي تعلو وتنخفض بصعوبة؟ هل بمجرد أن يبتّسم سيرمي بخّاخ الربو الملازم له كظله؟ هل بمجرد أن يبتّسم سيحقق حلم مراهقته في أن يصير شبيها لجورج كلوني

زلزال الحوز : سبعة درجات ولحظات، تشقان جغرافيا المغرب العميق

صورة
كانت قرى الحوز تنطُ فرحًا وإشراقًا في وجوه الفلاحين. فجأة تغير كل شيء، وبدا الفضاء بفوضويته وجنون تنظيمه كأنها القيامة. الناس مذهولة والعيون مكلومة، بعد ليل فقد فيه الجبل صوابه، وفي آنائه تُسمع صرخات نساء وأطفال، كأنهم عالقون في أحلامٍ كابوسية، وشواهد مقبوضة بقرون الشياطين. لقد استحال الحال بقايا قرى، كشف عليها نور الصباح، وهي تفوح منها رائحة الموت. 1960.. 29 شباط، عند الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة ليلاً، زلزال بقوة 5,8 درجات، يهز مدينة أكادير هزًا. وإن كانت درجة سلم ريشتر متوسطة؛ إلا أن بؤرة الزلزال كانت جنوب المدينة وبعمق قريب، نتج عنها أكبر كارثة أصابت المغرب في القرن العشرين، فقد أودى الزلزال بخمسة عشرة ألف شهيد و25 ألف مصاب، وما يزيد عن 35 ألف بلا مأوى. لقد انهار ثلث أكادير وعانق الأرض، وما تبقى تهيأ للسقوط. 8 أيلول 2023, بعد مرور 63 عامًا وستة أشهر، و ثمانية أيام، عند نفس الساعة المشؤومة، الحادية عشرة ليلا وخمس دقائق، زلزال آخر يُراود المغرب، هذه المرة بعيدًا عن أوج التمدن، هناك عند المغرب العميق، مناطق قروية جبلية في إقليم الحوز وتارودانت، الذي مر عليها موكب الحداثة المغربية

الموعد

صورة
قصة قصيرة   أرى السعادة في بابي تتبسم إليّ، وإن بدت لي تارة كأنها تكزُّ أسنانها! لكن أتجاوز بعض توجساتي، وأقنع نفسي، أنها انفلتت بمشقة من الوحدة. *** غدا سألتقي ماجدة لأول مرة، بعد ستة أشهر من مواعدةٍ في عالمٍ يفترض فيه الناس الوجود، الانترنت. لقد افتُتنت بجمالها الأخاذ، الذي ما رأيت نظيره في دنياي، ولا انجدبت لأنثى من قبل هكذا، أو تراه العشق من جمّلها بعظمةٍ في عيناي؟ الأرجح كلا، فتلك العيون الواسعة والفم الصغيرة والشعر الحريري لا يقدر العشق أن يضفي عليهم حُسنًا إن كانوا يعدمونه. إنما تعديل الصور في الأجهزة لهو قادر على ذلك، فكم من قردةٍ في عدسة هاتفها غزال! وقد سمعت قصصًا عن اللقاءات الغرامية في الواقع بعد مسيرة في العالم الافتراضي، ويا بُعد هذا بذاك فلا يستويان، حتى أن أصدقهم قال لحبيبته في العالم الافتراضي قبل لقائهما الملموس: "بعد ولوجك المطعم حيث أكون بانتظارك، فالشخص الذي تسقط عليه أبصارك وتدعين إلهك أن لا يكون أنا؛ فذلك هو أنا! " حاولت - جاهدًا - اقناع نفسي، أن ماجدة وإن كانت لربما تعرض صورها المرسلة إليّ للتعديل؛ فليس لأنها قبيحة، فحروف الجمال بادية في محياها. وقو

حسن أوريد : كبير مثقفي النخبة الذي ارتوى بمكة

صورة
هناك فرق بين كاتب وآخر، حتى أن الهوّة بينهما قد تصل إلا ما لا يُقدر. أي لا مجال للمقارنة، ببساطة. قرأت كتابات لعدد لا بأس به من الكتاب المغاربة المعاصرين وذوات الصيت. واحد منهم فقط أضعه في مرتبة أستاذي، فعندما أقرأ له، أشعر بأني مجرد تلميذ، الذي يرى أستاذه هو المثل الأعلى والأعظم في مجاله. إنه الدكتور حسن أوريد، الذي كان لي شرف أن أحضر له محاضرة ألقاها في جامعة عبد المالك السعدي بطنجة عام 2016. عندما نحكي على الكاتب والأديب والمفكر الدكتور حسن أوريد، فهو ليس مجرد كاتب، في ساحة اختلط فيها الحابل بالنابل؛ بل هو تجربة إنسانية وعلمية ببعد يستّحق الإمعان في كل عبارة يخطها هذا الرجل، الذي يملك سيرة مميزة يتمناها كل كاتب ومفكر. ولد حسن أوريد عام 1962 في قرية أمازيغية تدعى تزموريت على مقربة مدينة الراشيدية، في الجنوب الشرقي للمغرب، لأسرة أمازيغية متوسطة الحال، كان والده معلما للغة العربية ومقدرًا للعلم، وقد نبت حسن في هذه البيئة التعليمية وتفوق على أقرانه في المدرسة. بل قيل إنه كان نابغة في طفولته، ما جعل حياته وحياة أسرته البسيطة تنقلب كما لم يتوقع أحد بسبب نبوغ الطفل حسن، فقد تم اختياره ضمن