عشرون سنة من إدريس البصري

سلسة مغرب القرن العشرين -10- الجزء الأخير


بينما كان الأطفال يركضون خلف الكرة، يلعبون ويمرحون فيما بينهم، كان هناك طفل آخر في عمرهم ينزوي وحيدًا، يحمل كتابًا وقلمًا ويراجع دروسه، وعلى مسامعه تتناهى صراخات أقرانه وهم يلعبون. قبل أن ينادي عليه أحدهم: إدريس، تعال العب معنا! (ولد القابلة أجي آصاحبي تلعب الكرة) القابلة هي مهنة لامرأة تساعد النساء على الولادة. ابن القابلة ذاك، هو إدريس البصري، أشهر وزير داخلية في تاريخ المغرب، وآخر من ارتبط اسمه بسنوات الرصاص، وبطل الجزء الأخير من سلسلة مغرب القرن العشرين في مدونة محمد بنصالح.


ازداد إدريس البصري عام 1938 في قرية عين علي مومن، على مقربة من مدينة سطات، في أسرة فقيرة، كان والده يشتغل حارس في السجن، أما والدته، فمهنتها هي توليد النساء، مهنة عتيقة تُعرف المرأة التي تحترفها في المغرب، بــ"القابلة" ولهذا كان البعض يلقبه بــ "ولد القابلة" إدريس له من الإخوة أحدى عشر، ثمانية بنات وثلاث أولاد.

بدأ إدريس تعليمه الأولي في قريته، وعند وصوله إلى المدرسة الثانوية، اضطرت الأسرة إلى الانتقال إلى المدينة، حتى يتسنى لإدريس وبقية الأبناء اكمال تعليمهم الثانوي. كان منزل إدريس في مدخل المدينة، لهذا فهو بعيد جدًا عن الثانوية، ومع فقدان أي وسيلة للنقل، كان الولد مجبرًا أن يمشي على قدميه مسافة طويلة كل يوم، آتيًا ذاهبًا تحت المطر والشمس والريح، وكل تقلبات المناخ، ثم يجد نفسه مضطرًا على عدم العودة لمنزلهم بعد الاستراحة التي تنطلق من الثانية عشر إلى الثانية زوالاً، كبقية زملائه، فيجلس ولد القابلة أمام الثانوية لساعتين كل يوم بانتظار استئناف الدراسة. عام 1956 سينجح إدريس البصري في امتحان الدخول إلى كلية الشرطة، وفيما بعد سيحصل على دكتوراه الدولة في القانون العام من جامعة غرونوبل.

في عام 1960 ستبدأ مناصب البصري، بداية بمفتش الشرطة، ثم عميد ممتاز، ثم مسؤولاً أمنيًا في ولاية أمن جهة الرباط، وفيما بعد سيختاره مدير الأمن الوطني زمنذاك محمد أوفقير ليشتغل داخل إدارة الأمن الوطني بالمغرب، وكان رئيسه المباشر هو أحمد الدليمي، مدير المخابرات، حتى 1973، بحلول ذلك العام سيكون المغرب في حالة استنفار في كل المناصب، بعد سقوط مسؤولين كبار في الدولة بسبب محاولتّيْ انقلاب عامي 71 و72، وسيجد البوليسي إدريس البصري نفسه مهيأ لكي يشغل إحدى المناصب المهمة في المملكة، وبدأها بمنصب مدير الإدارة العامة لمراقبة التراب الوطني، ثم كاتب الدولة بوزارة الداخلية، وفي عام 1979 سيتم تعيين إدريس البصري وزيرًا للداخلية، وسيظل في هذا المنصب حتى عام 1999، وفي هذه الفترة، سيعرف المغرب أحداثًا كثيرة، كان فيها البصري الشرطي الأول في المغرب.


كان إدريس البصري بدويًا لطالما كان يشعر بالنقص أمام أبناء البورجوازية، بالتحديد بورجوازية فاس التي تسيطر على دواليب الدولة، فكان البصري يبعد أمثال هؤلاء ويُقرِّب إليه مسؤولين على شاكلته البدوية، وكان رئيسه السابق أحمد الدليمي من نفس الطينة، أي الكارهون للبورجوازية، لهذا زاد نفور البصري منهم، وفي مخيلته أنهم ينظرون إليه من برج عاجي، رغم منصبه المهم في الدولة، كونه البوليسي الأول. بشخصية غامضة وهادئة وبجدية منقطعة النظير، ودهاء ومكر يتقطران من الرجل، سيقود إدريس وزارة الداخلية، وكذلك سيكون من ضمن المقربين من الملك الحسن الثاني. فترة البصري في الداخلية شهدت جدلاً واسعًا حول حقوق الإنسان، لم تشهدها عهدة وزير داخلية قبله ولا بعده، فالرجل متهم في أزيد من ستة مئة قضية معارض، منهم من سُجن دون محاكمة، ومن تعرض للتعذيب، ومن اختفى من الوجود.

مظاهرات الدار البيضاء 1982

في عام 1982 سيكون المغرب في فترة حرب الصحراء في مواجهة مع جبهة البوليساريو المدعومة من عدة دول، خصوصًا الشرق الشيوعي، فارتفعت أسعار المواد الغذائية والمحروقات بجنون بسبب معارك الصحراء، وإذ ذاك ستشهد عدة مدن مغربية مظاهرات شعبية تُندد بارتفاع الأسعار، وكانت أكبر المظاهرات في مدينة الدار البيضاء. وهنا سيتعرف المغاربة على إدريس البصري عن قرب، والذي أطلق رجاله من البوليس على مظاهرات الدار البيضاء، وحتى الجيش نزل للشارع لمواجهة الجماهير، وقوبلت المظاهرات بقمع لم يسبق له ولا أتى بعده مثيلاً، لقد تم اطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ومات منهم العشرات، وتم اعتقال الآلاف، وشكلت أحداث الدار البيضاء انطباع المغاربة على البصري، على أنه رجل قمعي لا يرحم. رغم الوحشية التي أبان عليها رجال البصري في مواجهة الجماهير، إلا أن الأخير خرج مستهزئًا وأطلق على المتظاهرين "شهداء الكوميرا" أو شهداء الخبز، وبرر قمعه للجماهير، أن الاحتجاجات انحرفت عن سلميتها وتحولت إلى فوضى، حيث تم تكسير السيارات وواجهات المباني، وعتى الكثيرين فسادًا في أزقة المدينة، ولم يكن هناك حل آخر سوى اطلاق النار على المشاغبين. في النهاية وجدت الحكومة نفسها مجبرة على خفض الأسعار في البلد وإرجاعها لم كانت عليه، وحققت المظاهرات الضخمة هدفها، وفي رواية أخرى، دخلت أحداث "شهداء الكوميرا" إلى ألبوم صور من سنوات الرصاص، يعرض قمع الدولة البوليسية تحت قيادة إدريس البصري.

إدريس البصري يزداد نفوذًا


بعد مرور ستة سنوات، وإدريس البصري على رأس أم الوزارات، وزارة الداخلية، ستزداد ثقة الملك الحسن الثاني بالرجل لتفانيه بالعمل، فالبدوي إدريس، كآلة لا تتوقف، ولهذا أضاف له الملك ملف الصحراء ليكون بيده بعد رحيل أحمد الدليمي عام 1983 وهو المكلف السابق بالملف. يُعتبر ملف الصحراء أهم الملفات على طاولة المغرب، بل هي القضية الأولى في المملكة، وتكليف إدريس البصري بالقضية الصحراوية، يُثبت المكانة الكبرى التي يحظى بها الرجل، وتلك المكانة ستزيد عظمةً بعد سنوات قليلة، ففي عام 1985، سيبث التلفزيون المغربي بلاغ مقتضب من الديوان الملكي، مفاده "تم تعيين إدريس البصري وزيرًا للإعلام مع الاحتفاظ بمنصبه وزيرًا للداخلية"

كيف للشرطي أن يصبح وزير الإعلام؟ كان هذا سؤال المعارضة الذي احتفظت به لعشر سنوات، وهى المدة التي قضاها إدريس البصر مستأزرًا في الإعلام، فأبعد ما يكون الرجل عن الإعلام والصحافة، وهو خريج كلية الشرطة. في الحقيقة، إن إدريس البصري لم يكن يسعى لهذا المنصب حسب المقربين منه، بل كان يظن بأنه وزير مؤقت إلى حين تعيين وزير آخر في حكومة جديدة، أي بعد الانتخابات الحكومية، لكنه ظل في المنصب عشر سنوات. اعتبرت المعارضة الجمع بين الداخلية والإعلام ضربًا صارخًا في حرية الإعلام، بل مهزلة يصعب تقبلها، أن يكون الشرطي هو المسؤول الأول عن الإعلام! رغم ذلك كان هناك إعلام معارض في عهد البصري، وأقلام شجاعة لم تخشَ من سيد الداخلية.

شهادات في حق إدريس البصري


قيل الكثير عن البصري، لكننا نستسقي أهم ما قالوا عن إدريس، بداية بالسياسي محمد اليازغي، الذي ما فتئ يؤكد أن إدريس البصري كان يتدخل في الانتخابات ويتلاعب بها، ما جعل المغرب يتأخر في طريق الديمقراطية، وهذا يُحلينا إلى واقعة في جلسة البرلمان عام 1991، حيث ألقى محمد بوستة أمين عام حزب الاستقلال خطابًا، اتهم فيها وزارة الداخلية بالتلاعب بالانتخابات، وقال بحضور البصري، إن الداخلية ترجحُ المرشح الذي تريد دون أن تهتم بما تُفرزه صناديق الاقتراع. رد البصري أولا بابتسامة، ثم قال في تعقيبه، إنه اتهام يفتقر للدليل، وأضاف، أنه كان يتوقع هذا من حزب معارض كالاستقلال. أما الصحفي المعارض الراحل خالد الجامعي، أحد أكبر الأقلام المعارضة في المغرب، يتذكر عندما دعاه إدريس البصري إلى مكتبه بعدما نشر مقال صحفي ينتقد فيه ارتفاع أثمنة الدقيق ونقصانه في الأسواق. يقول الجامعي بأن البصري قال له بالحرف: "أنا هنا أكلمك كضابط شرطة وليس وزير الإعلام" وبدأ الرجل يستجوبه عن مصادره التي جعله يكتب عن ندرة الدقيق، نفس الإعلام سيصرح أنه تلقى مرارًا تهديدات من إدريس البصري. إعلاميٌ آخر لطالما تحدث عن البصري، بل حتى خصص له كتابًا ضمن سلسلة مذكراته، بعنوان "خديم الملك" إنه قيدوم التلفزيون والإعلام المغربي، محمد الصديق معنينو. اشتغل معنينو مذيعًا في التلفزيون ثم مديرًا في الإعلام، لذا كان إدريس البصري هو رئيسه المباشر. يقول الإعلامي المخضرم، أنه وطيلة فترة اشتغاله مع إدريس البصري، لم يسبق أن سمع منه كلمة جارحة، بل كان الرجل يُقدر عمل الموظفين سواء في وزارة الإعلام أو الراديو والتلفزيون الحكومي، ولم يسبق أن رد لهم طلبًا، وأضاف أنه تكلف شخصيا بثلاث أرامل فقدوا أزواجهن الصحفيين في حادثة سير، وسلم لكل واحدة منهن رخصة النقل لتعين بها أسرتها، أو "الكريمة" كما يُطلق عليها المغرب. نفس الإعلامي المخضرم يروي قصة طريفة إلى حد ما، عن إدريس البصري والملك الحسن الثاني، حيث ذات يوم طفح كيل البصري عن برامج "قناة دوزيم" المستقلة، وهي برامج واقعية تنتقد الحكومة بشدة، وكان ولاة وعمال الأقاليم يتصلون بالوزير يشكون له برامج القناة، وأنها في الطريق لعمل فتنة في البلد. سيتوجه البصري عند الملك يشتكي بدوره قناة دوزيم، رد الملك كان طريفًا، حيث قال للبصري: "تركت لك القناة الأولى افعل بها ما تشاء، أما القناة الثانية - أو دوزيم - فهي قناة خاصة بي" ويذكر أن قناة دوزيم كانت أول قناة عربية مستقلة حيث بدأت البث عام 1989، وكان الملك من خلالها يريد أن يبين للغرب مدى حرية الاعلام في مملكتة، إلا أن ذلك لا يعدو كونه مجرد تغطية الشمس بالغربال!

أفول البصري

من 1979 إلى عام 1999 ظل إدريس البصري وزيرًا للداخلية، وتعاقب على كل الحكومات، ولم يستطع أي وزير أول أن يرفض دخول البصري في حكومته، حتى جاءت حكومة عبد الرحمان اليوسفي أو حكومة التناوب، عام 1998. كان اليوسفي أكبر معارضين الملك بل والملكية في المغرب واضطر أن يغادر البلد، وحُكم غيابيًا بالسجن المؤبد عن مشاركته في مؤامرة لقلب الحكم، ولم يكن اليوسفي ينفي ذلك، لكن جرى التصالح في بداية التسعينات مع كل المعارضة وأطلق صراح كل السجناء السياسيين، وكان واضحًا أن نهاية البصري اقتربت، فالرجل لا يناسب الأجواء الديمقراطية والتصالح التي تلوح في الأفق، ولم يكن على وفاق مع المعارضين السابقين، وكيف ذلك وهو جلادِهم، خصوصا الوزير الأول الجديد عبد الرحمان اليوسفي، وهذا الأخير رفض استمرار البصري في الحكومة في بادئ الأمر، لكنه قبل به في الأخير، فإدريس البصري مازال له نفوذ كبيرة، جعلته يحافظ على منصبه وزيرًا للداخلية.

في تموز عام 1999 رحل الملك الحسن الثاني، ومات سيد البصري الذي جعله اليد اليمنى لسنوات طويلة، كان فيها البصري يكرر على المسامع، أنه خادم الأمة وخادم الأعتاب الشريفة، وجاء ملك جديد، محمد السادس. إنه الشاب أمير الأمس الذي لم يكن يطيق البصري وهو وليًا للعهد، فقد كان يتجسس عليه لصالح والده الراحل، ولم تكن عيون البصري المزعجة تنفك عن الأمير. اليوم ذلك الأمير صار هو الملك الثالث والعشرون للمغرب في عهد العلويين. وتساءل المغاربة، ما مصير البصري؟

يذكر الأمير هشام العلوي، في مذكراته "سيرة أمير مبعد" أنه شاهد رجال الأمن يوقفون إدريس البصري داخل القصر الملكي في الليلة التي تسبق جنازة الملك الحسن الثاني، ولم يسمحو له بمغادرة إحدى غرف القصر. لكن وبرغم ما يدعيه الأمير هشام في كتابه، فقد استمر إدريس البصري في منصبه لثلاث أشهر أخرى، حتى نوفمبر 1999 وبدون أي مقدمات ولا سابق إنذار، يتم الإعلان عن إعفاء إدريس البصري من وزارة الداخلية، هكذا ببساطة دون انتهاء ولايته التي تبدأ وتنتهي مع كل انتخابات حكومية، ولا حتى تعديل حكومي يشمل وزارات أخرى، بل فقط رأس البصري من سقط بعد عشرين سنة في أم الوزارات، وهكذا البوليس الأول يعود إلى صف المواطنين.

لم يكن إسقاط إدريس البصري مفاجئًا عند أغلب المغاربة، رغم أن الواقعة كانت قضية رأي عام. نعم قد بدا واضحًا لدى المحللين والمراقبين أن الملك الشاب محمد السادس لن يقبل في عهده الجديد برجل متهم في حقوق الإنسان وينتمي لسنوات الرصاص، إضافة أن من يجلس على العرش أبعد رجال آخرون في حاشية القصر من إرث والده، وجاء بوجوه جديدة وشابة، وهم زملائه في الدارسة، ولا أحد منهم كان يطيق البصري، ولا حتى هو كان يطيقهم، فبالأمس فقط كان يراهم أطفالًا ثم مراهقين وهو في عز سلطته، واليوم هم جيل جديد يشق الطريق في العهد جديد، وكان أبرزهم، فؤاد عال الهمة، مستشار الملك حاليا، وياسين المنصوري، مدير المخابرات حاليًا، وحسن أوريد، الناطق باسم القصر ومؤرخ المملكة سابقًا، والان هو مفكر ومؤلف.

إدريس البصري في منفى اختياري

بعد أيام من اعفاء إدريس البصري، تعرض منزله وممتلكاته للتخريب من قبل مجهولين، وكانت هي صدمة أخرى تلقاها الرجل بعد اسقاطه من الداخلية، وهكذا جار الدهر على الشرطي الأول في المغرب لعشرين عامًا، وقرر جمع حقيبته ومغادرة المغرب نحو باريس، وفي مخيلته قرار نهائي، أنه لن يعود إلا في داخل صندوق خشبي محمول على الأكتاف، ولم يكن أحد في توديعه في ذلك اليوم، فجأة ما عاد أحد يعرف الرجل، بعدما كان الكثيرين يتوددون إليه لسنوات طويلة. رحل إدريس البصري إذن إلى الديار الفرنسية، وجعل من باريس منفاه الاختياري. لكنه لم يبدأ في حياة جديدة، أو تقاعد مريح وينصرف إلى الهدوء فيما تبقى من عمره، بعدما قضى أربع عقود في العمل في أحد أصعب الأنظمة وأقدمها؛ بل اختار أن يطل على المغاربة بين الفينة والأخرى، ويظهر على الرجل أنه يحن إلى زمنه الجميل في السلطة، فبدا واضحًا أن البصري لم يتقبّل الطريقة التي غادر فيها مبنى وزارة الخارجية في الرباط.


بوجه شاحب ونظرات ملؤها الحسرة، تجد البصري يتكلم، يتنهد، يهدد في كشف الأسرار، ثم يتذكر يد المخزن الطويلة، فيصمت مرغمًا، قبل أن يقفز إلى ملف الصحراء، فينتقد موقف بلده، ويعود لينتقد السياسيين الحاليين والسابقين، وعمل الحكومة والسياسات الداخلية والخارجية، والبشر والحجر وكل شيء في المغرب لم يكن يُعجب العجوز ولم يسلم من انتقاداته. وهكذا قضى البصري منفاه يصنع فيه ضجيجًا، حتى صمت أخيرًا وإلى لأبد عام 2007، ورحل عن الدنيا صغيرًا.


(الكلمة الأخيرة)

كان هذا إدريس البصري، آخر ملامح سنوات الرصاص. البصري، عليه الكثير وله القليل، ومن ذاك القليل، نُقّر بأنه ضبط إقاع الأمن في المغرب، كما لم يفعل وزير داخلية قبله ولا بعده، حتى أضحى من المعتاد سماع تلك العبارة الشائعة، "ماذا لو كان البصري موجودًا بيننا" هذه الجملة تتكرر عندما يستجد خرق أمني في المغرب، فنتذكر كيف كان البصري يردع. إلا أن جوانب أخرى سلبية غطت على جديّة البوليس في نفس إدريس البصري.

في النهاية كان ولا بد أن نمر فيما نسيمه في المغرب، بسنوت الرصاص. رغم أن الثمن كان باهضًا، وهو قرون من الاعتقال، ورجال اختفوا ولم يُعرف ممشاهم الأخير، ومحاولات الانقلاب على الحكم جرت فيه وديان من الدماء، ولحظات فاصلة وأجزاء من الثانية كاد فيها تاريخ المغرب أن يتغير لولا صدف وقرارات آخر لحظة. نعم كان لا مرد من سنوات الرصاص، لعدة أسباب كانت كلها تقود إلى مصير محتوم، وأولها الاستعمار الفرنسي، وهذا يُحيلنا إلى رد الكاتب المغربي محمد شكري، على مذيع في برنامج فرنسي، حينما سأله المذيع استنادًا لم جاء في كتب شكري: هل ما زلت تكره والدك؟ ردُّ صعلوك الأدب المغربي لم يكن متوقعًا، قال، اليوم أنا لا ألوم والدي لأني مقتنع بأنه كان ضحية لكم. لكم كاستعمار غاشم تسبب في مأساة أفريقيا بأكملها. جواب محمد شكري كان شجاعًا وقد أصاب به الحق. فقبل دخول فرنسا للمغرب عام 1912 في عهد السلطان مولاي يوسف، كان المغرب يعيش هدوءً ولو كان حذرًا، إلا أن بعد رحيل فرنسا عام 1956 تركت صراع المناصب في المملكة، أضيف إليها موضة اسقاط الأنظمة الملكية في الدول العربية، وبروز العسكر في السلطة، وبداية ما يسمى بالقومية العربية، كل هذا يتعارض مع النظام في المغرب والفكر السائد في البلاد، الذي يأخذ منه الرافضين للقومية العربية نصيبًا مهمًا، وهم الأمازيغ، رغم ذلك وصلت تلك الرياح إلى ضفاف الأطلسي، ساهمت في تلبد سماء المغرب لثلاثين عامًا، وقع فيها ما وقع.

وأخيرًا لا يخفى على أحد وجود رعاية ربانية لهذا البلد، وجب شكر عز وجل على نعمه وآلائه، فرغم كل ما حصل، لم نصل إلى حرب أهلية ولا انهار الأمن في المغرب، مهما مررنا مرارًا إلى جانب باب الفوضى، لكننا لم ندلف فيه. ووجب أن نسأل أنفسنا، هل تغيّر شي بعد انقضاء سنوات الرصاص؟ لا شك أن مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس، إلا أنه ما زال أمامنا طريق طويل وشاق حتى نلحق بجيراننا الأوروبيين، وهذا ما يجب فعله، أن نقارن أنفسنا بالأفضل وليس مع من على شاكلتنا أو أدنى، حتى لا ينحصر كل همنا، بأن نصبح أحسن السيئين وأجمل القباح.



السلسة الكاملة :




تعليقات

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

الأميرة كنزة الأوْرَبيّة .. رحم الأدارسة وسيدة المغرب الخالدة

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي