ياسين الصقلي : رحالة مغربي يطوف أفريقيا فوق الدراجة الهوائية



عند كل الحديث عن الأسفار والرحالين، يحضر اسم ابن بطوطة، أحد عظماء من شد الرحال الذين يتذكرهم التاريخ، والملقب بأمير الرحالة المسلمين، واسمه الحقيقي والكامل، محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي.. ولد عام 1304 بمدينة طنجة، وتوفي عام 1377 بمدينة مراكش، ودفن في مدينة طنجة، الذي يُعد ابن بطوطة اليوم أحد رموز المدينة، حتى بُني على قبره ضريح يُكرم ذكراه.. استمر سفر ابن بطوطة لقرابة ثلاثة عقود وهو يتجول في مشارق الأرض ومغاربها، وقد جمع كل ما صادفه في أسفاره، في كتاب يحمل عنوان، "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". استهل كتابه واصفا شعور فراق الأهل والوطن.. يكتب ابن بطوطة:

"فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقه الطيور للوكور. كان والداي في قيد الحياة، فتحملت لبعدهما وصبا ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا، وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة"

ذلكم ابن بطوطة، أيقونة الأسفار الخالدة، الذي استلهم الناس منه حب السفر والاستكشاف، واليوم ما عادوا بحاجة لتأليف كتاب يخلدون فيه أسفارهم، فتكفي آلة التصوير، وقناة على اليوتيوب، والأهم من ذلك، قلب شجاع، كقلب ابن بطوطة وغيره من أشهر ما تحفظه ذاكرة التاريخ من الرحالين قاهري السبل الشاقة.. وفي السنوات الأخيرة ظهر الكثير من الشباب الرحالين الجدد الذين يشاركون أسفارهم مع الجمهور على موقع اليوتيوب، وأحدهم موجود الآن في قلب الماما أفريكا، ويدعى ياسين الصقلي.

ياسين الصقلي

ياسين الصقلي، من مواليد مارس 1992 في مدينة آسفي.. منذ صغره كان يهوى المغامرة والركوب على الدراجة الهوائية، حتى تجاوز العشرين عامًا، قرر أن يبدأ أولى مغامرات حياته، وكانت أن يقطع المغرب من شمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب راكبًا على دراجته الهوائية. نجح ياسين في ذلك وانتعش الشاب بتلك المغامرة التي أبهر بها أصدقائه ومعارفه، بل وكل أبناء مدينته. بعد خمول فرحة ياسين من انجاز التجول في بلاده على الدراجة الهوائية، والذي لم يكن الوحيد من طاف المغرب على الدراجة الهوائية، بل سبقه إليه آخرين، فانصرف ياسين يفكر في تحدي قديم يتجدد في مخيّلته كل حين، وهو الانطلاق من حافة قارة أفريقيا في أقصى شمالها، إلى آخر نقطة من جنوبها، أي من المغرب إلى دولة جنوب أفريقيا فوق الدراجة الهوائية، لكن، الإنجاز لن يكون سابقة، فقد سبق إليه أشخاص آخرين، أكثرهم شهرة، هو المغربي يوسف سحساح.

المغامر يوسف سحساح

قطع يوسف سحساح قارة أفريقيا طولا وعرضا بدأها من المغرب إلى جنوب أفريقيا فوق دراجة هوائية، مرورا على ستة عشرة دولة، وهم: موريتانيا، السينغال، غامبيا، غينيا بيساو، مالي، بوركينافاسو، ساحل العاج، غانا، طوغو، البنين، النيجر، الغابون، الكونغو، أنغولا، نميبيا، ثم وصولا لجنوب أفريقيا، وقد أطلق على رحلته، "أفريكا دريم"

إذا كان يوسف سحساح قطع أفريقيا طولا وعرضًا، فعلى ياسين الصقلي، أن يدور دورة كاملة على القارة السمراء، انطلاقًا من أقصى شمالها، المغرب، إلى آخر نقطة من الجنوب، عند دولة جنوب أفريقيا، ثم صعودًا إلى مصر، ثم التوجه غربًا إلى نقطة الانطلاق في المغرب،  ليكتمل عِقد الطواف.. فهل يتحقق هذا المراد الممزوج مع التحدي وخطر براري أفريقيا الموحيشة؟

في شهر مارس عام 2018، كان ياسين الصقلي قد اتخذ أصعب قرار في حياته، وحزم أمره لمغامرة قد تكلفه حياته، فودع أسرته وأصدقائه، وجهز لرحلته الأشياء التي ستبقيه على قيد الحياة، من أواني الطبخ، وقنينة غاز صغيرة للطهي، وخيمة، ثم هاتف محمول، وخزان الطاقة، وكاميرا درون (آلة تصوير تُحلق في الهواء) ليجمع هذه الأشياء ويحملها معه على دراجته الهوائية، لينطلق من مدينته آسفي، ومقصده دورة كاملة حول مجاهيل قارة أفريقيا، المعروفة بطرق وعرة، وغابات ملؤها الكواسر، وحشرات سامة، وأوبئة، وحروب أهلية، وقطاع الطرق، ومنظمات إرهابية، وتقلبات مناخية، وكل ما تحمله الماما أفريكا في أحشائها.


من نقطة الانطلاق مدينة آسفي بالمغرب، إلى موريتانيا، ثم إلى السنغال، وها هو مستحضر روح ابن بطوطة قد اقتحم مستنقعات القارة، ومعه خيمته الصغيرة التي تتسع لشخص واحد، ينصبها حيث يهبط عليه الليل، في القرى أو جنب الطرقات، أو حتى وحيدًا في الغابة يقضي ليلته، وعند طلوع الشمس، يستيقظ ياسين لمواصلة رحلته فوق الدراجة الهوائية.. وإذا كان الطريق معبدًا، فقد يقطع الصقلي أكثر من ثمانين كيلو مترًا في اليوم الوحد.


عند كل مدينة أو قبيلة يمر عليها ياسين، يتوقف عندها لاكتشاف تقاليدهم وعاداتهم، وقد يكون الحظ حليفه ويصادف من يُجيد الحديث باللغتين الفرنسية أو الإنجليزية، اللواتي يجديهما الشاب إلى جانب لغته الأم العربية. إذا كان ابن بطوطة قد أرخ لأسفاره في كتاب، فإن ياسين يُخلد رحلته عبر أفريقيا في قناته على اليوتيوب، صوت وصورة، بحيث ينشر باستمرار مقاطع تصل لنصف ساعة، كأن المشاهد يرافق ياسين في رحلته ويعيش معه حماسة الاستكشاف، وأكثر من هذا، فالرحالة الشاب يهتم كثيرًا بالجانب تقديم المعلومات لمتابعيه والتعريف بالأماكن وأناسها حيث وصل في رحلته.. ويصطحب المتابعين إلى عمق أفريقيا عند الإنسان الأسمر بأنفته وبساطته وكرمه.


من مارس 2018 إلى نهاية ديسمبر 2021، سيكون الرحالة المغربي ياسين الصقلي، قد زار 26 دولة إفريقية، في رحلة لن ينساها ابن مدينة آسفي ما ظل حيًا، وقد سبر أغوار القارة وما يزال يفعل.. صادف غرائب وعجائب، ارتمى في حضن الأفارقة من يرحبون بالغريب ويشاركون معه كل ما يملكون. نام ياسين في بيوت الناس وغُدق بالكرم، وهم يرفضون تركه ينام في الخيمة تحت السماء وأدخلوه منازلهم. يقول ياسين: "هناك صورة خاطئة عن أفريقيا في مخيلة أغلب الناس، الذين يعتقدون أن القارة السمراء، أرض البؤس والتخلف، لكني رأيت بأم عيني، أناس طيبين مستعدين بكل ما بوسعهم من أجل المساعدة". ياسين مر على قبيلة في دولة أنغولا ينام أهلها في شبه العراء، وبالكاد يملكون الملابس، وقد استقبلوا الشاب المغربي ورحبوا به، رغم أن لغتهم لا يفهمها ياسين، لكن لغة الإنسانية تكفي.. هذه القبيلة وأناسها، ستجعل ياسين يعود لزيارتها مرة أخرى قبل مغادرته للبلد، هذه المرة يحمل معه ملابس اشتراها لهؤلاء الناس الطيبين، فقد ألمه أن يرى أطفالهم حفاة وشبه عراة.


رحلة ياسين، لا تخلو من المخاطر، وأكثر ما عان منه الشاب، هي الطرق الوعرة والمنعرجات، وعبور البراري الموحشة، ولدغات الحشرات السامة، والاصابة بالأمراض.. وعرس الصعاب يكتمل بوجود قطاع الطرق، وقد تعرض ياسين للسرقة في جنوب أفريقيا وإثيوبيا، ومحاولات أخرى كثيرة عبر رحلته، وصادف أناس ينتابهم الشك من الغرباء، ولا يترددون في طلب رجال الأمن.. وقد تعرض ياسين لحصار أكثر من أربعين شخصا في دولة كينيا حتى لا يهرب منهم بانتظار وصول رجال الشرطة، لكأنه فريسة طُردت طويلاً!. وكم مرة زار فيها ياسين مخافر الشرطة، وقضى حتى ليلته هناك. في النهاية يواجه ياسين كل الصعاب بابتسامته التي لا تفارق وجهه، وببرودة أعصاب لا تكاد تصدق.


إلى حدود كتابة هذه السطور، فالرحالة ياسين الصقلي، عبر أصعب دولة مر عليها، ألا وهي إثيوبيا، التي حُذر منها ياسين كثيرًا قبل وُلوج أرضها، بسبب ما تعيشه من حروب أهلية وانعدام الأمن في الكثير من المناطق فيها، مع ذلك قرر الشاب المغامر المرور عليها متجاهلاً التحذيرات، التي ما كانت عبثًا، فقد عانى ياسين داخل هذا البلد أي معاناة، حتى أنه تعرض للاعتقال هناك، ومر في مناطق فيها حرب أهلية وسمع دوي إطلاق النار، وتعطلت دراجته في طريق ينعدم فيه الأمن وتسيطر عليه عصابات قطاع الطرق.. رغم تلكم الصعاب، فقد حافظ ياسين على ابتسامته البشوشة، وصبره الفولاذي، حتى تنفس الصعداء أخيرًا، عندما ولى وجهه على إثيوبيا ودخل إلى أرض الصومال.


اليوم وبعد مرور قرابة أربع سنوات غاب فيها ياسين عن أسرته وأصدقائه.. وحيدٌ يأبى الترجل عن دراجته الهوائية قبل تحقيق حلمه بدورة كاملة على قارة أفريقيا، وقد بات على مرمى  من أي يتأتى له ذلك، وهو يتواجد الآن في أرض الصومال، وبعدُ إلى السودان وصولاً إلى مصر، ثم ستسلك دراجة ياسين الصقلي الطريق إلى نقطة الانطلاق، نحو المغرب إن شاء الله.


قناة ياسين الصقلي الرسمية على اليوتيوب:

تعليقات

  1. هل يستحف لقب ابن بطوطة جديد ؟ وفي الحقيقة قارة الإفريقية أخطر قارة بين كل القارات لانعدام الأمن في الكثير من البلدان وانتشار قطاع الطرق ناهيك على الحيوانات المفترسة فعلا هذا الشاب مغامر شجاع .. ذكرت بأنه تم اعتقاله في اثيويبا لكن لم تذكر سبب الاعتقال ؟

    ردحذف
  2. ابن بطوطة لن يتكرر، هذا الرجل قدم نصف عمره للترحال، ثلاثون عاما قضاها بعيدا عن موطنه وأسرته.. لذا هناك ابن بطوطة واحد. أما ياسين فما زال في البداية، وحتما لن تنتهي أسفاره مع تحقيق حلمه في لف أفريقيا.. قد نلقاه راكبا دراجته يتجول في آسيا.

    لم أذكر في المقال سبب اعتقاله في إثيوبيا، لأن ياسين فضل عدم الكشف عن سبب اعتقاله، فقط أكد أنه كان مظلومًا.. وأُطلق سراحه بعد تدخل السفارة المغربية.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

تازمامارت .. أحياء في قبور !

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ