بكيتُ فابتسمت



كنتُ أبكي. أبكي بلا حزن على فقيد، ولا هجرة حبيب.  وهكذا عبثًا، حبات دمعي يطيب لها أن تحرق وجنتي! فماذا دهاني؟ أي مصاب جعل عينان تنطقان دمعًا؟ لا أدري ماذا حل بي، ودموعي تجري دون الشعور بما يستدعيها، وبديْمومتها، أيقظت - عنوةً -  في ذاكرتي كل ما مر عليّ من أحزان وأهوال، من يوم ودعت جدتي وشيْب رأسها يظهر تحت الكفن بينما عمي يعقده، والكل يتهيأ لكي تُرسل الجدة لملاقاة الأبد. يا له من رعب على طفل غرير يشهد على مراسم أعظم وداع، يحدث مرة واحدة في حياة الإنسان. خرجت جدتي محمولة من الباب ولم تدلف منه بعدُ كما دأبت وعكازها يسبقها، فرحلت عني قطع الحلوى وحبات البرتقال، كما سقط درْعي الذي يحصنني من أحذية أمي. كانت لحظة حزن عجيب على طفل يبكي رحيل جدته، والذي علم بشكل أو بآخر،  أنها لن تعود هنا، وبدأ يستوعب وجود شيء، اسمه الموت. 

تذكرت كذلك حزني على حبي الأول وأنا في السنة الثانية ابتدائي، يوم نفرت حسناء بعودها وهاجرتني عند زميل كان يملك حقيبة مدرسية ذات عجلات. منذئذ بدأت أتعلم كيف أن الحب - أحيانًا - يُرادف المادة. حسناء كانت أمام خياران، أنا أو أنس، فاختارت أكثرنا ترفًا. لم أكن ألوم حسناء رغم حزني بعدم الحظوة بها،  إنما ما لا تدريه المسكينة أن نوايانا معًا لم تكنا بيضاء كخديها، بل تُحاكي لون العجلات التي رجحت أحدنا على الآخر، وإن طغت عليها الطفولية وحب الاكتشاف. وبما أن الطرق اعتادت على أكل عجلات الشاحنات فكيف بعجلات الحقائب؟ فلم يمر من الأيام إلا القليل ما يكفي أن أنسى أمر حسناء، فتعرضت عجلات أنس للإتلاف، وهو الذي دأبى على جر حقيبته متبخترًا في ممشاه، فاعتزلته حسناء برغم من مكابدته في اصلاح عجلات حقيبته. حينها كنت قد حصلت على لوحة جد متطورة بشهادة زملائي المعوزين، إنها لوحة لا تحتاج إلى الطبشور للكتابة عليها، بل تملك قلمًا خاصًا بها، كما تمتاز بالمسح الذاتي. لقد كدت أن أسقط بها الجميلة ليلى، لولا أن معاذ اشترى له والده بذلة شرطي، فتهاوت قيمة لوحتي.   

آتاني كذلك يوم هبطت أمي إلى غرفة العمليات، وبعد ساعة مرت كما تمر العصور، صعد الطبيب لوحده، يخطو نحوي ويتحاشى النظر في عيني، وقبل أن يُكلمني، وضع يده على كتفي، فاكتسح الفراغ وجودي، وشعرت بوحدة عظيمة، وأيقنتُ أن رصيدي من الحنان انتهى. كان عليّ أن أعتاد على أن العالم مفرغ من أمي، وأن عليّ العودة إلى المنزل في كل مرة دون المناداة عليها. لقد شخت بغتةً! 

 ثم ليلة خلود أبي إلى الفراش ولم ينهض منه، وصار كل ما أراه مخيفًا، داعيًا للربية ما إن علمت أن لقاء أبي دُوّن مع المستحيل، فما عاد لي سند. الوحيد في العالم الذي يأمل أن أكون أفضل منه، والذي يُلقي باهتمامه لكل صغيرتي وكبيرتي، قد تركني مرغمًا لا مخيرًا، فكان عليّ أن أعتاد أن أترك كل أسراري لنفسي، حتى وإن شعرت أنها تخنقني. 

 ويا لرهبة انتظار ظهور نتائج الثانوية العامة، وكل الخوف من الرسوب. ليلة هبط فيها الخوف على سوادها فكاد الوقت بأن يكف على أن يكون الوقت، فما عاد له مُضيّ. ماذا لو سقط المعدل؟ أما من جهد لإعادة السنة؟ وماذا عن كل العائلة والأقارب وكل من يأتي من الباب والهاتف ينتظر رسوبي، ويُظهر غير ذلك؟! ووالداي يخشيان من احراج أكون أنا وراءه. إنها أحد أصعب لحظات الانتظار في حياة الطالب. ليلتها أليت على نفسي قيام الليل، وختمته بالتوجه للمسجد لصلاة الفجر، وهناك التقيت بزملائي ممن ينتظرون معي ظهور النتائج، وأمارة العجب تعلو سحنة الإمام مما استجد من مصلين غرباء، ونظراته إلينا تحوي سؤال مُلّح عن سبب اجتياحكم للمسجد. في الليلة الموالية التقينا جميعًا في مكان آخر غير المسجد.

 كل هذه الأطلال الحزينة وذات رهبة حاولت أن أصبغ بها مصابي الفجائي من الدمع، وأعطي له تعليلاً ما، فكانت بريئةً مما حل بي.  ثم أفرط الأمر وانفجرت عيوني دمعًا حتى ما عدت قادرًا أن أبصر بهما حتى! حينها فقط أدركتُ ماذا جرى، فكان عليّ أن أرمي بالبصلة التي أقطعها، وأستبدلها بالبطاطس، وها أنا أقشر حبتها وأبتّسم.

تعليقات

  1. عبد الرزاق ايدر20 يوليو 2024 في 8:19 م

    السلام عليكم كيف حال الكاتب الذي يظهر ويختفي ^^ واعذرني لأني استخدمت ابتسامتك المعهودة ههههه نرجع للقصة لقد جمعت فيها بين النقيضين بأسلوب جميل وفي الحقيقة أعدت قراءتها ثلاث مرات وقريبا ستكون الرابعة ولن أكذب إن قلت بأنها ضمن أفضل ما قرأت لك

    ردحذف
    الردود
    1. عليكم السلام،

      أنا بخير طالما أظهر وأختفي ^^ وأهلا بظهورك المعتاد.. لا بأس أن تستعير مني تلك البشاشة البسيطة، مسموح لك. وسأخبرك سرها البسيط، أنا لا أحبذ استخدام (الايموجي) إلا في حالات نادرة، هكذا لا أكثر.

      أنا راض جدا ما إن عالمت أنك قرأتها ثلاث مرات، وسيزاد رضاي إن صارت أربع ^^ ولا أخفيك أنا بدوري، أني شعرت بالارتياح عندما قلت " أنها ضمن افضل ما قرأت لك" هذا يدل أنني لم أخطو إلى الوراء وبشهادة أوفى الأوفياء لهاته المدونة البسيطة، فشكرا لك على وقتك، وتذكرك لنا الدائم، وترك ردود جميلة في النهاية. بارك الله فيك.

      (تم إعادة تنشر التعليق بعدما حُذف بسبب خطأ تقني)

      حذف
  2. عبد الرزاق ايدر21 يوليو 2024 في 9:50 م

    العفو أخي محمد ويشرفني أن أكون وفيا لمدونتك المتنوعة بالمواضيع وصاحبها كاتب متمكن يستحق المتابعة الدائمة
    بانتظار المزيد منك إن شاء الله

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-