المهدي بن بركة .. لغز يأبى الحل والنسيان
سلسلة، مغرب القرن العشرين -3-
تأبى قضية المهدي بن بركة أن تسند رأسها إلى وسادة النسيان ، رغم تعاقب السنين ووصول عقارب الزمن إلى ما يزيد عن نصف قرن منذ بعث لغز محير مازال أسير انتظار فك رموزه .. نصف قرن لم يكن كافيا لكشف الستار عن مكان جثة مهدي المفقودة . قضية مازالت تلوح بيدها يائسة في بحث عن الحل النهائي وطي صفحة قاتمة من مغرب القرن العشرين، مغرب الجمر والرصاص الذي هوى بـ المهدي وطموحه وقذف به صوب خانة المجهول، إلا أن قضية المهدي بن بركة كانت مباركة ولم يجد النسيان سبيلا لها ، فأبى الحق أن يعلى عليه وهو يبحث له عن مكان لسنين طويلة.
من هو المهدي بن بركة ؟
ولد المهدي بن بركة سنة 1920 في مدينة الرباط - عاصمة المغرب - درس في "ثانوية ﻟﻴﻮﻃﻲ" في مدينة الدار البيضاء وفي ذات المدينة أكمل تعليمه الجامعي .. منذ أن كان في عمر 16 سنة عرف عليه نضاله وسعيه وراء استقلال المغرب عن فرنسا ؛ بعد مغادرته طاولات التعليم ، انخرط في النضال السياسي بأكثر جدية، حتى كبر المهدي وكبر معه الطموح النضالي الذي أوصله إلى انشاء "جريدة العلم" الناطق الرسمي لحزب الإستقلال المغربي . في عام 1944 كان أصغر موقع على وثيقة الإستقلال بعمر 24 سنة رفقة سياسين ومثقفين مغاربة وقدموها للملك الراحل محمد الخامس . الوثيقة التي تطالب من السلطات الفرنسية مغادرة المغرب . سنة بعد ذلك صار المهدي بن بركة رئيسا لحزب الإستقلال.
في أواخر الأربعينات سافر إلى فرنسا لتقديم تقريرا حول أوضاع حقوق الإنسان بالمغرب بصفته رئيسا لحزب الإستقلال الذي يعتبر ركيزة أساسية في البلاد ، ومن هناك واصل مطالبه كما مطالب عامة الشعب المغربي بانهاء التواجد الفرنسي على الأراضي المغربية ؛ ما جعل الضباط الفرنسيين داخل المغرب يتخذون حذرهم من بن بركة وتحركاته، حتى طفح كيلهم من تمرد المهدي فتم إصدار الأمر باعتقاله في بداية الخمسينات من لدن السلطات ما يعرف بالحماية الفرنسية أو الإستعمار الفرنسي بالمعنى الصواب ، قضى بن بركة في سجون الإحتلال 3 سنوات .
هكذا طبع النضال ضد المستعمر حياة بن بركة السياسية داخل المغرب حتى شروق شمس الحرية والإستقلال على مملكة المغاربة عام 1956 . في فجر الإستقلال تم تعيينه رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري ، بعد ذلك بـ 3 سنوات ترك منصب الرئيس لحزب اﻹستقلال بعد 15 سنة تزعم فيها الحزب الأكثر قوة ومتانة في المغرب ، ليتحول إلى ناشط سياسي حر .
المهدي المعارض
مع انطلاق عقد الستين، بدأت أحول المغرب تتغير ؛ فالجالس على العرش لم يعد محمد الخامس الذي وافته المنية عام 1961 ليخلفه نجله البكر الحسن الثاني ، ومن معه من رجال مقربين من البلاط ، أبرزهم وزير الداخلية محمد أوفقير ، أكبر أعداء المهدي بن بركة.
يكتب الصحفي والكاتب الفرنسي جيل بيرو عن علاقة أوفقير و بن بركة :
" بين محمد أوفقير والمهدي بن بركة : كره ومقت متبادلان ، مشادة عنيفة علنية فرقت بينهما . لم يكن أوفقير يفوت مناسبة إلا ويغتنمها لتباهي بالأوسمة العديدة التي حاز عليها في خدمة فرنسا، ويعلقها دائما في بزته الرسمية . وقد أشار إليها يوما بن بركة، بازدراء وصرح بصوت مرتفع ساخرا : إنها خردة مرتزق، لا تليق بضابط مغربي . لم ينس أوفقير الشتيمة المهينة . ولو أن بن بركة وقع في قبضته خلال حملة تموز 1963 لتعرض دون شك لعدة دراجات من التعذيب التي يتفنن أوفقير بابتكارها في دار المقري . ما من أحد كان يتصور أن الرجلين يمكن أن يلتقيا أو يجتمعا جنبا إلى جنب في مجلس وزاء واحد ".
كانت كل السبل تقود المهدي ليكون معارضا في مملكة الحسن الثاني ويده اليمنى محمد أوفقير ؛ وكذلك كان ، فلقد بدأ مهدي يعارض سياسة الحكومة ويدعو لتغير . في الأثناء كان المغاربة على موعد مع الإستفتاء على أول دستور في عهد الحسن الثاني ، فكان موقف بن بركة هو مقاطعة الإستفتاء، معللا أن الدستور لم يأتي بالجديد بل يخدم مصالح القصر والمقربين منه ، وقبل موعد الإستفتاء تعرض المهدي لمحاولة اغتيال في مدينة الدار البيضاء نجا منها بمعجزة بعد إصابته بجروح بليغة ، ما جعله يضطر لسفر إلى ألمانيا لتلقي العلاج ، وبذلك نجحت السلطات المغربية بإبعاده على إثارة المزيد من الإحتقان قبل الإستفتاء على الدستور . عاد المهدي إلى بلده أكثر شراسة من ذي قبل، فواصل مساره في المعارضة ، كان بن بركة الوحيد القادر على انتقاد القصر والجالس على العرش، وكان يطالب بتجاوز الإستقلال الشكلي والمضي في سبيل الإختيار الثوري ؛ إلا أن اللعبة لم تبدأ بعد ، فمازال بن بركة لا يشكل خطرا على سياسة البلد حتى حلول عام 1963 واندلاع حرب الرمال بين المغرب والجزائر بسبب أزمة الحدود الموروثة من الإستعمار بين البلدين، حيث اختارت الرباط خيار رفع السلاح في وجه جارتها الشرقية التي مازالت في مهد استقلالها ولم يكن بمقدورها الدخول في حرب ، وقف المهدي بن بركة ضد هذه الحرب وحمل المغرب تابعاته ، وقال إن خيار السلاح يعتبر عدوانا على بلد جار وشقيق ، واعتبر أن المغرب يقاتل ثورة وليس دولة .. إلى هنا تحول المهدي بن بركة إلى شخص غير مرغوب فيه داخل المغرب، فلم يعد مجرد معارض سياسي بل تجاوز ذلك إلى حد الوقوف ضد مصالح البلاد ، ومع حلول عام 1963 أكد بن بركة للمعارضة أن ترسيخ الديمقراطية في المغرب تواجه عراقيل شتة تأتي من مسؤولين فاسدين يحتلون أمكنة مهمة في الدولة ، وبذلك قرر مغادرة المغرب للإستقرار في فرنسا ، وفي نفس العام بلغ المهدي أقصى درجات التمرد عندما تم اتهامه بمؤامر محاولة اغتيال الملك ، فأصدرت المحكمة عليه حكما غيابي بالإعدام .
في الخارج كذلك لم تهدأ دماء النضال في عروق بن بركة ، فبدأ يجول العالم ويشارك في الفعاليات الثورية ، حتى صار زعيما لمنظمة دول القارات الثلاث التي تكافح ضد هيمنة الدول الإستعمارية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وقررت المنظمة اجراء مؤتمر كبير سيترأسه المهدي بن بركة في عاصمة كوبا "هافانا" عام 1965 هذا المؤتمر الهادف إلى بحث سبل تقديم المساعدات لبعض دول في القارات الثلاث السالفة الذكر، وصد إﻣﺒﺮﻳﺎﻟﻴﺔ الدول العظمى في أراضيها ، تحركات بن بركة أثارت شبهات أمريكا ومن يصطفون معها، وبالأخص بعدما بدأ المهدي يجالس الزعيم الكوبي فيدل كاسترو وشخصيات ثورية تضعها أمريكا في الخانة السوداء .. وفي خطوة جريئة غير متوقعة ، قررالمهدي التوجه إلى الجزائر وفيها أنشأ مدرسة لأطر مناضلي دول العالم الثالث ، حتى صار بن بركة مقربا من الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، والبعض يذهب بعيدا ويصفه بشبه مستشار الرئيس الجزائري . بين الجزائر والقاهرة يتنقل بن بركة بينما يثير غيظ الرباط وهو يرتمي في أحضان أكبر أعداء المغرب : الجزائر ، ومصر .. وهنا قد يسأل سائل : إن العداء بين المغرب والجزائر قائم على الحدود ، لكن ما بال العداء بين المغرب ومصر؟. في مصر آنئذ كان نظام ثوري المعادي للملكيات ، ثم إن مصر اختارت الاصطفاف مع الجزائر ضد المغرب في حرب الرمال وأرسلت إلى بن بلة 1000 جندي وضابط ، الفعل الذي لم ينساه الملك الحسن الثاني لـ جمال عبد الناصر . وظلت العلاقة متوترة بين الرباط والقاهرة ، وفي خطوة زادت الطين بلة، عند زيارة الحسن الثاني لمصر وأثناء مراسيم الإستقبال الذي خصها عبد الناصر لضيفه الملك ؛ خرج بعض الجنود والضباط مصريين من طائرة خاصة كانت ترافق الوفد المغربي ، إنهم بعض الجنود والضباط الذين أرسلتهم مصر للقتال في صفوف الجزائر في حرب الرمال وأسرهم المغرب . كان مشهدا يبز مدى العلاقات المتوترة بين البلدين، وكأن الملك يقول لـ عبد الناصر : لقد أعدت لك بضاعتك . وكان ضمن البضاعة الرئيس المستقبلي لمصر، حسني مبارك .. وهكذا كانت العلاقات المغربية المصرية تشهد فتورا وعدم الود طيلة فترة حكم جمال عبد الناصر ، إلى أن عادت المياه إلى مجاريها في عهد أنور السادات، وقررت القاهرة الوقوف عند مسافة واحدة بين المغرب والجزائر.
ماذا يفعل المهدي في الجزائر ومصر ؟!!
لقد بلغ المهدي أقصى درجات الطغيان بنظر الرباط ، وهو يجالس الأعداء في الجزائر والقاهرة، ولم يكتف بذلك ، بل أصبح ينتقد المغرب وسياسته خارج أسوار المملكة . لم يعد بن بركة معارضا ولا واقفا ضد مصالح البلاد ، بل إنه تجاوز ذلك إلى خائنا ارتمى في أحضان أعداء بلده .
يقول الملك الحسن الثاني :
"إذا كان بعض الأشخاص السيء النية قد أعطوا لتصرفاتنا تفسيرا خاطئا . فثابروا على ضلالتهم وتابعو العمل ضد بلدهم ومواطنيهم ، فالأمة بدورها تبرأت منهم والمجتمع لفظهم "
فيما بعد توجه الملك الحسن الثاني بدعوة إلى المهدي طالبه بالعودة إلى أرض الوطن وبداية صفحة جديدة.. سواء كان نية الملك صادقة أو لا، فإن المهدي اشترط أي عودة إلى المغرب في إزاحة العسكريون من مراكز السلطة ، ورأى أنهم لا يملكون الكفاءة المطلوبة كونهم عسكر يؤمنون بالقوة أكثر من إيمانهم بالعدل ، وكان يقصد بالخصوص وزير الداخلية محمد أوفقير ورئيس الأمن الوطني أحمد الدليمي .. بعد ذلك ، عبدالرحمن اليوسفي زعيم الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحد المقرابين من بن بركة، أخبر الملك الحسن الثاني أن صديقه المهدي بن بركة يرغب في العودة إلى أرض الوطن ، فرد الملك : "لا فائدة الآن ، فقد رفض عندما استدعيته."
يقول المهدي بن بركة :
"كان علي العودة أثناء فترة المفاوضات من أجل ميثاق مع المعارضة، أما الآن فقد فات الأوان، غير أنني آمل أن تسوى الأمور"
إلا أن المهدي ظل وفيا لقناعاته باتجاه محمد أوفقير، كان يردد : " أنا، أو أوفقير"
يوم الإختفاء
في عام 1966 ومع اقتراب تنظيم مؤتمر منضمة دول القارات الثلاث ، تحول المهدي إلى شبه مطارد وأصبحت حياته مهددة ؛ ما جعل الجزائر تشدد الحراسة على منزله.. في ذات العام كان بن بركة ينتقل خفية بين الدول تارة بجواز سفر جزائري وتارة أخرى بجواز مزيف، وهو يتابع أنشطته من أجل تنظيم مؤتمردول القارات الثلاث ، حضر إلى الصين ليقنع القيادة هناك بحضور السوفييت في المؤتمر ، من بكين صوب باريس ثم إلى عدة عواصم افريقية، وفي الأخير توجه إلى كوبا لملاقاة الزعيم فيدل كاسترو والوقوف عند آخر الإستعدادات قبل اجراء المؤتمر المنشود . في هافانا أخبره الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أن الملك الحسن الثاني يمارس الضغط عليه لإزاحته من ترأس المؤتمر المقرر إجراءه في أواخر السنة في هافانا ، ثم عاد المهدي إلى باريس وهو يضع آخر اللمسات على مشروعه . إلا أن يوم 29 أكتوبر عام 1965كان يوما فرقا في حياة المهدي بن بركة وفي تاريخ المغرب المعاصر ، في هذا اليوم تلاشى مهدي في العدم كأن لا أمس له ولا ذكرى . ما الذي حدث؟
تلقى المهدي بن بركة دعوة من مخرج فرنسي للمشاركة في انتاج فيلم وثائقي عن الإستعمار والحركات الثورية تحت عنوان "باستا " دعوة استجاب لها مهدي . وفي منتصف يوم 29 أكتوبر عام 1965 إلتقى المهدي بالمخرج المزعوم في مقهى "ليب" lipp في سان جرمان، ضواحي باريس، وعلى مقربة من المقهى السالفة الذكر؛ اعترض شرطيان سبيل مهدي وأطلعوه على بطائقهم وأمروه بمرافقتهما ، أمر انصاع له بن بركة بدون جدل رغم أنه يعرف جيدا أن رأسه مطالب من عدة جهات؟ في الحقيقة إن المهدي كان على موعد بعد يوم فقط مع الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول، لأن الأخير يتابع باهتمام نشاطه في منضمة دول القارات الثلاث ، فهنا مهدي لم ينتابه شك من مرافقة الشرطيان، كون الجنرال ديغول ينتظره غدا في قصر الإليزيه.. وإلى هنا، ضاع رأس الخيط الواحد وأحكم الالتباس والغموض قبضته فيما حصل بعد ذلك :
الرواية الأولى
كان من الواضح أن المغرب لن يسمح لأحد العارفين بخباياه أن يجالس الجنرالات في الجزائر والقاهرة .. في البداية كانت خطة محمد أوفقير وزير الداخلية و أحمد الدليمي رئيس المخابرات المغربية اغتيال المهدي بن بركة داخل التراب الجزائري ، لضرب كل العصافير بحجر واحد ، إلا أن شيئا حدث في آخر لحظة فتم تأجيل أمر المهدي لعام آخر ؛ بعد تخطيط دقيق قادته المخابرات المغربية بمساعدة الجواسيس داخل التراب الفرنسي ، وصل أوفقير والدليمي إلى خطة تمكنهم من المتمرد مهدي . كانت خطة في غاية الإتقان أبطالها أشخاص فرنسيين جندتهم المخابرات المغربية وبرعوا في أدورهم . ظن مهدي أنه بصدد جلسة عمل مع مخرج لإنتاج فيلم وثائقي عن الحركات الثورية ، وحتى الشرطيان فقد كانا متواطئين مع المخابرات المغربية.
رافق بن بركة الشرطيان نحوى فيلا فاخرة ضواحي باريس، وهناك تم سجنه بانتظار قدوم وزير الداخلية المغربي محمد أوفقير ورئيس المخابرات أحمد الدليمي ، ولدى وصولهما قاما بتعذيب المهدي بن بركة حتى الموت ، ثم أعادوا جثته إلى المغرب وتم إدابتها في الأسيد (حمض الهيدروفلوريك).
الرواية الثانية
المهدي بن بركة تعارك مع الشرطيان بعدما تأكد له أن وجهتهم ليست قصر الإيليزيه ، وأثناء العراك تلقى المهدي ضربة قاتلة في عنقه فارق على اثرها الحياة فتم دفن جثته في مكان مجهول في غابة باريس ، والسؤال هنا يطرح نفسه : من كان وراء الشرطيان ؟ البعض يرى مما لا يدعو لشك أنها المخابرات المغربية ، آخرون يرمون الإتهامات نحوى الموساد الإسرائيلي الضالع في زمنها في عدة اغتيالات سياسية .. وفي العودة إلى الشرطيان، فهناك مصادر تقول أنهما اعترافا بكونهما يعملان لصالح المخابرات المغربية ، إلا أن هذا الإعتراف أيضا شاهد تناقضا في تداوله، بحيث لم تؤكده المصادر الرسمية في فرنسا ، وظل هذا الإعتراف أسيرا في أوراق الصحف .
الرواية الثالثة
اعترفت أمريكا فيما بعد أنها كانت تملك 1850 ملفا يخص المهدي بن بركة ، وهذا يتجاوز اهتمام واشنطن بـ الأيقونة الثورية، الكوبي تشي جيفارا ، كون بن بركة زعيم في العالم الثالث ومناضل شرس وعنيد ضد الإمبريالية ، وفي باريس ألقى خطابا عنيفا حول الحرب في فتنام استفز فيه بلاد العام سام، وهو كذلك أكبر المطالبين بإزاحة القواعد الأمريكية في أفريقيا ؛ كل هذا جعل منه هدفا للمخابرات الأمريكية التي نالت من المهدي وذكراه.
بعد اختفاء المهدي في باريس ، وجدت فرنسا نفسها في موقف لا تحسد عليه، بعدما أصبحت قضية اختفاء مهدي بن بركة قضية رأي دولي ، لكونه مناضلا ومعروفا في أقطار العالم وهو كان يستعد لترأس مؤتمر دول القارات الثلاث في هافانا ؛ قضية مهدي ألقت بظلالها على العلاقات بين فرنسا والمغرب ، باريس كانت تحت الصدمة وهي تتابع تداول الأخبار عن اختفاء بن بركة على أرضها، بينما الإعلام الفرنسي يتساءل كيف للمخابرات المغربية أن تنفذ خططها على أرضهم بهذه السهولة؟ أين حرمة فرنسا؟ جرعة سامة تجرعها قصر الإليزيه، والسبب كان الحليف الأكبر في افريقيا : الرباط . فدخلت العلاقات بين البلدين إلى نفق مظلم ، رغم أن فرنسا لم تود أن تخسر حليفها الكبير المغرب ، إلا أن صورتها اهتزت في الإعلام الدول بسبب ذلك الحليف .
أين الصواب ؟
عندما سئل الملك الحسن الثاني عن مصير المهدي بن بركة ، أجاب بأنه لم يكن يرى في مهدي عدوا ؛ قال بأن بن بركة لم يكن ضد الملكية في المغرب، بل كان يطالب بإزاحة البعض من السلطة ، وأضاف : "إن الذين قتلوا المهدي بن بركة هم أنفسهم من خططوا لقتلي." وهنا يقصد الجنرال محمد أوفقير وأحمد الدليمي.
في سنة 2001 نشرت الجريدة المغربية "لوجرنال" مقالا مفصلا عن قضية اختفاء المهدي بن بركة ، المقال الذي حمل اعترافا صارخا لعميل المخابرات المغربية السابق السيد ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻮﺧﺎﺭﻱ ، فكشف العميل المتقاعد للجريدة أن المخابرات المغربية والمخابرات الأمريكية بتواطؤ مع الشرطة الفرنسية وراء خطف وقتل ومحو آثر المهدي بن بركة ، اعتراف نفخ الروح في قضية مهدي من جديد ، إلا أنه لم يجد الصدى المطلوب.
وتواصل مسلسل الحقيقة الضائعة ، وكثرت الإتجاهات المزيفة ، والقذف باتهامات صوب المخابرات المغربية أو نظيرتها الأمريكية وتارة صوب الموساد الإسرائيلي ، وكل يغني على ليلاه.
فمن قتلك يا المهدي؟.
(كلمة)
يبقى المهدي بن بركة بما له وما عليه ؛ رمز النضال الذي تجاوز القومية العربية وكل المنادين بتلك الترهات التي عفا عنها الزمن . المهدي، الذي جند نفسه لدفاع عن حقوق البشرية جمعاء، ولم يحصر نفسه في إقليم الأحياء الأموات الذين لا يجمعهم سوى القاعات الفخمة لإستعراض بيانهم وبلاغتهم التي لا محل لها في لغة الضاد، وكل ما في جعبتهم من الهذيان ، ثم الإنصراف لخدمة أولياء نعمهم : نعل مهدي ؛ أكبر منهم جميعا.
ويبقى السؤال الملح، الشائك، الأبدي : من قتل المهدي؟
نصف قرن عجز عن وضع الصواب أمام هذا الإستفهام ، ويبقى المشتبه فيه الأول فيما آل إليه مصير المهدي ، هو وطني : المغرب . وإذا افترضنا جدلا أن المغرب بريئ من قتل المهدي براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، غير أن مواطنه قتل أو اختفى في ظروف مبهمة ، أليس من الواجب البحث عن الحقيقة وتقديم التوضيحات لعائلته التي شاخت وتهدمت قواها وهي تطالب لعقود طالت بمعرفة مصيره ، وكذا الرأي الدولي؟. ثم تأتي فرنسا بلد الأنوار والديمقراطية المزعومة ، أليس من واجب سلطة باريس وكل المتعاقبين على قصر الإليزيه فتح تحقيقا يصل إلى نتيجة نهائية في جريمة شنعاء وقعت على أرض فرنسا؟ أليس المهدي بن بركة ضيفا لديهم، بل ويستعد للقاء زعيم البلاد الجنرال ديغول؟ هل هكذا يعامل الضيف في القرن العشرين؟ .. وإلى هنا نصل إلى استنتاج واحد : أن المغرب وفرنسا هما المتهمين الرئيسيين في قضية المهدي بن بركة.
في الأخير ؛ مات المهدي بن بركة وهو يستعد لدفاع عن الإنسان البائس المقهور المسلوب الحق حول العالم ، مات واقفا في سبيل تحقيق الحق.
الاصدارات السابقة في السلسلة :
جمهورية اعبابو !
محمد اوفقير .. جنرال الدم !
الكاتب محمد بنصالح
bensalahsimo018@gmail.com
تأبى قضية المهدي بن بركة أن تسند رأسها إلى وسادة النسيان ، رغم تعاقب السنين ووصول عقارب الزمن إلى ما يزيد عن نصف قرن منذ بعث لغز محير مازال أسير انتظار فك رموزه .. نصف قرن لم يكن كافيا لكشف الستار عن مكان جثة مهدي المفقودة . قضية مازالت تلوح بيدها يائسة في بحث عن الحل النهائي وطي صفحة قاتمة من مغرب القرن العشرين، مغرب الجمر والرصاص الذي هوى بـ المهدي وطموحه وقذف به صوب خانة المجهول، إلا أن قضية المهدي بن بركة كانت مباركة ولم يجد النسيان سبيلا لها ، فأبى الحق أن يعلى عليه وهو يبحث له عن مكان لسنين طويلة.
من هو المهدي بن بركة ؟
ولد المهدي بن بركة سنة 1920 في مدينة الرباط - عاصمة المغرب - درس في "ثانوية ﻟﻴﻮﻃﻲ" في مدينة الدار البيضاء وفي ذات المدينة أكمل تعليمه الجامعي .. منذ أن كان في عمر 16 سنة عرف عليه نضاله وسعيه وراء استقلال المغرب عن فرنسا ؛ بعد مغادرته طاولات التعليم ، انخرط في النضال السياسي بأكثر جدية، حتى كبر المهدي وكبر معه الطموح النضالي الذي أوصله إلى انشاء "جريدة العلم" الناطق الرسمي لحزب الإستقلال المغربي . في عام 1944 كان أصغر موقع على وثيقة الإستقلال بعمر 24 سنة رفقة سياسين ومثقفين مغاربة وقدموها للملك الراحل محمد الخامس . الوثيقة التي تطالب من السلطات الفرنسية مغادرة المغرب . سنة بعد ذلك صار المهدي بن بركة رئيسا لحزب الإستقلال.
في أواخر الأربعينات سافر إلى فرنسا لتقديم تقريرا حول أوضاع حقوق الإنسان بالمغرب بصفته رئيسا لحزب الإستقلال الذي يعتبر ركيزة أساسية في البلاد ، ومن هناك واصل مطالبه كما مطالب عامة الشعب المغربي بانهاء التواجد الفرنسي على الأراضي المغربية ؛ ما جعل الضباط الفرنسيين داخل المغرب يتخذون حذرهم من بن بركة وتحركاته، حتى طفح كيلهم من تمرد المهدي فتم إصدار الأمر باعتقاله في بداية الخمسينات من لدن السلطات ما يعرف بالحماية الفرنسية أو الإستعمار الفرنسي بالمعنى الصواب ، قضى بن بركة في سجون الإحتلال 3 سنوات .
هكذا طبع النضال ضد المستعمر حياة بن بركة السياسية داخل المغرب حتى شروق شمس الحرية والإستقلال على مملكة المغاربة عام 1956 . في فجر الإستقلال تم تعيينه رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري ، بعد ذلك بـ 3 سنوات ترك منصب الرئيس لحزب اﻹستقلال بعد 15 سنة تزعم فيها الحزب الأكثر قوة ومتانة في المغرب ، ليتحول إلى ناشط سياسي حر .
المهدي المعارض
مع انطلاق عقد الستين، بدأت أحول المغرب تتغير ؛ فالجالس على العرش لم يعد محمد الخامس الذي وافته المنية عام 1961 ليخلفه نجله البكر الحسن الثاني ، ومن معه من رجال مقربين من البلاط ، أبرزهم وزير الداخلية محمد أوفقير ، أكبر أعداء المهدي بن بركة.
يكتب الصحفي والكاتب الفرنسي جيل بيرو عن علاقة أوفقير و بن بركة :
" بين محمد أوفقير والمهدي بن بركة : كره ومقت متبادلان ، مشادة عنيفة علنية فرقت بينهما . لم يكن أوفقير يفوت مناسبة إلا ويغتنمها لتباهي بالأوسمة العديدة التي حاز عليها في خدمة فرنسا، ويعلقها دائما في بزته الرسمية . وقد أشار إليها يوما بن بركة، بازدراء وصرح بصوت مرتفع ساخرا : إنها خردة مرتزق، لا تليق بضابط مغربي . لم ينس أوفقير الشتيمة المهينة . ولو أن بن بركة وقع في قبضته خلال حملة تموز 1963 لتعرض دون شك لعدة دراجات من التعذيب التي يتفنن أوفقير بابتكارها في دار المقري . ما من أحد كان يتصور أن الرجلين يمكن أن يلتقيا أو يجتمعا جنبا إلى جنب في مجلس وزاء واحد ".
كانت كل السبل تقود المهدي ليكون معارضا في مملكة الحسن الثاني ويده اليمنى محمد أوفقير ؛ وكذلك كان ، فلقد بدأ مهدي يعارض سياسة الحكومة ويدعو لتغير . في الأثناء كان المغاربة على موعد مع الإستفتاء على أول دستور في عهد الحسن الثاني ، فكان موقف بن بركة هو مقاطعة الإستفتاء، معللا أن الدستور لم يأتي بالجديد بل يخدم مصالح القصر والمقربين منه ، وقبل موعد الإستفتاء تعرض المهدي لمحاولة اغتيال في مدينة الدار البيضاء نجا منها بمعجزة بعد إصابته بجروح بليغة ، ما جعله يضطر لسفر إلى ألمانيا لتلقي العلاج ، وبذلك نجحت السلطات المغربية بإبعاده على إثارة المزيد من الإحتقان قبل الإستفتاء على الدستور . عاد المهدي إلى بلده أكثر شراسة من ذي قبل، فواصل مساره في المعارضة ، كان بن بركة الوحيد القادر على انتقاد القصر والجالس على العرش، وكان يطالب بتجاوز الإستقلال الشكلي والمضي في سبيل الإختيار الثوري ؛ إلا أن اللعبة لم تبدأ بعد ، فمازال بن بركة لا يشكل خطرا على سياسة البلد حتى حلول عام 1963 واندلاع حرب الرمال بين المغرب والجزائر بسبب أزمة الحدود الموروثة من الإستعمار بين البلدين، حيث اختارت الرباط خيار رفع السلاح في وجه جارتها الشرقية التي مازالت في مهد استقلالها ولم يكن بمقدورها الدخول في حرب ، وقف المهدي بن بركة ضد هذه الحرب وحمل المغرب تابعاته ، وقال إن خيار السلاح يعتبر عدوانا على بلد جار وشقيق ، واعتبر أن المغرب يقاتل ثورة وليس دولة .. إلى هنا تحول المهدي بن بركة إلى شخص غير مرغوب فيه داخل المغرب، فلم يعد مجرد معارض سياسي بل تجاوز ذلك إلى حد الوقوف ضد مصالح البلاد ، ومع حلول عام 1963 أكد بن بركة للمعارضة أن ترسيخ الديمقراطية في المغرب تواجه عراقيل شتة تأتي من مسؤولين فاسدين يحتلون أمكنة مهمة في الدولة ، وبذلك قرر مغادرة المغرب للإستقرار في فرنسا ، وفي نفس العام بلغ المهدي أقصى درجات التمرد عندما تم اتهامه بمؤامر محاولة اغتيال الملك ، فأصدرت المحكمة عليه حكما غيابي بالإعدام .
في الخارج كذلك لم تهدأ دماء النضال في عروق بن بركة ، فبدأ يجول العالم ويشارك في الفعاليات الثورية ، حتى صار زعيما لمنظمة دول القارات الثلاث التي تكافح ضد هيمنة الدول الإستعمارية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وقررت المنظمة اجراء مؤتمر كبير سيترأسه المهدي بن بركة في عاصمة كوبا "هافانا" عام 1965 هذا المؤتمر الهادف إلى بحث سبل تقديم المساعدات لبعض دول في القارات الثلاث السالفة الذكر، وصد إﻣﺒﺮﻳﺎﻟﻴﺔ الدول العظمى في أراضيها ، تحركات بن بركة أثارت شبهات أمريكا ومن يصطفون معها، وبالأخص بعدما بدأ المهدي يجالس الزعيم الكوبي فيدل كاسترو وشخصيات ثورية تضعها أمريكا في الخانة السوداء .. وفي خطوة جريئة غير متوقعة ، قررالمهدي التوجه إلى الجزائر وفيها أنشأ مدرسة لأطر مناضلي دول العالم الثالث ، حتى صار بن بركة مقربا من الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، والبعض يذهب بعيدا ويصفه بشبه مستشار الرئيس الجزائري . بين الجزائر والقاهرة يتنقل بن بركة بينما يثير غيظ الرباط وهو يرتمي في أحضان أكبر أعداء المغرب : الجزائر ، ومصر .. وهنا قد يسأل سائل : إن العداء بين المغرب والجزائر قائم على الحدود ، لكن ما بال العداء بين المغرب ومصر؟. في مصر آنئذ كان نظام ثوري المعادي للملكيات ، ثم إن مصر اختارت الاصطفاف مع الجزائر ضد المغرب في حرب الرمال وأرسلت إلى بن بلة 1000 جندي وضابط ، الفعل الذي لم ينساه الملك الحسن الثاني لـ جمال عبد الناصر . وظلت العلاقة متوترة بين الرباط والقاهرة ، وفي خطوة زادت الطين بلة، عند زيارة الحسن الثاني لمصر وأثناء مراسيم الإستقبال الذي خصها عبد الناصر لضيفه الملك ؛ خرج بعض الجنود والضباط مصريين من طائرة خاصة كانت ترافق الوفد المغربي ، إنهم بعض الجنود والضباط الذين أرسلتهم مصر للقتال في صفوف الجزائر في حرب الرمال وأسرهم المغرب . كان مشهدا يبز مدى العلاقات المتوترة بين البلدين، وكأن الملك يقول لـ عبد الناصر : لقد أعدت لك بضاعتك . وكان ضمن البضاعة الرئيس المستقبلي لمصر، حسني مبارك .. وهكذا كانت العلاقات المغربية المصرية تشهد فتورا وعدم الود طيلة فترة حكم جمال عبد الناصر ، إلى أن عادت المياه إلى مجاريها في عهد أنور السادات، وقررت القاهرة الوقوف عند مسافة واحدة بين المغرب والجزائر.
ماذا يفعل المهدي في الجزائر ومصر ؟!!
لقد بلغ المهدي أقصى درجات الطغيان بنظر الرباط ، وهو يجالس الأعداء في الجزائر والقاهرة، ولم يكتف بذلك ، بل أصبح ينتقد المغرب وسياسته خارج أسوار المملكة . لم يعد بن بركة معارضا ولا واقفا ضد مصالح البلاد ، بل إنه تجاوز ذلك إلى خائنا ارتمى في أحضان أعداء بلده .
يقول الملك الحسن الثاني :
"إذا كان بعض الأشخاص السيء النية قد أعطوا لتصرفاتنا تفسيرا خاطئا . فثابروا على ضلالتهم وتابعو العمل ضد بلدهم ومواطنيهم ، فالأمة بدورها تبرأت منهم والمجتمع لفظهم "
فيما بعد توجه الملك الحسن الثاني بدعوة إلى المهدي طالبه بالعودة إلى أرض الوطن وبداية صفحة جديدة.. سواء كان نية الملك صادقة أو لا، فإن المهدي اشترط أي عودة إلى المغرب في إزاحة العسكريون من مراكز السلطة ، ورأى أنهم لا يملكون الكفاءة المطلوبة كونهم عسكر يؤمنون بالقوة أكثر من إيمانهم بالعدل ، وكان يقصد بالخصوص وزير الداخلية محمد أوفقير ورئيس الأمن الوطني أحمد الدليمي .. بعد ذلك ، عبدالرحمن اليوسفي زعيم الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وأحد المقرابين من بن بركة، أخبر الملك الحسن الثاني أن صديقه المهدي بن بركة يرغب في العودة إلى أرض الوطن ، فرد الملك : "لا فائدة الآن ، فقد رفض عندما استدعيته."
يقول المهدي بن بركة :
"كان علي العودة أثناء فترة المفاوضات من أجل ميثاق مع المعارضة، أما الآن فقد فات الأوان، غير أنني آمل أن تسوى الأمور"
إلا أن المهدي ظل وفيا لقناعاته باتجاه محمد أوفقير، كان يردد : " أنا، أو أوفقير"
يوم الإختفاء
في عام 1966 ومع اقتراب تنظيم مؤتمر منضمة دول القارات الثلاث ، تحول المهدي إلى شبه مطارد وأصبحت حياته مهددة ؛ ما جعل الجزائر تشدد الحراسة على منزله.. في ذات العام كان بن بركة ينتقل خفية بين الدول تارة بجواز سفر جزائري وتارة أخرى بجواز مزيف، وهو يتابع أنشطته من أجل تنظيم مؤتمردول القارات الثلاث ، حضر إلى الصين ليقنع القيادة هناك بحضور السوفييت في المؤتمر ، من بكين صوب باريس ثم إلى عدة عواصم افريقية، وفي الأخير توجه إلى كوبا لملاقاة الزعيم فيدل كاسترو والوقوف عند آخر الإستعدادات قبل اجراء المؤتمر المنشود . في هافانا أخبره الزعيم الكوبي فيدل كاسترو أن الملك الحسن الثاني يمارس الضغط عليه لإزاحته من ترأس المؤتمر المقرر إجراءه في أواخر السنة في هافانا ، ثم عاد المهدي إلى باريس وهو يضع آخر اللمسات على مشروعه . إلا أن يوم 29 أكتوبر عام 1965كان يوما فرقا في حياة المهدي بن بركة وفي تاريخ المغرب المعاصر ، في هذا اليوم تلاشى مهدي في العدم كأن لا أمس له ولا ذكرى . ما الذي حدث؟
تلقى المهدي بن بركة دعوة من مخرج فرنسي للمشاركة في انتاج فيلم وثائقي عن الإستعمار والحركات الثورية تحت عنوان "باستا " دعوة استجاب لها مهدي . وفي منتصف يوم 29 أكتوبر عام 1965 إلتقى المهدي بالمخرج المزعوم في مقهى "ليب" lipp في سان جرمان، ضواحي باريس، وعلى مقربة من المقهى السالفة الذكر؛ اعترض شرطيان سبيل مهدي وأطلعوه على بطائقهم وأمروه بمرافقتهما ، أمر انصاع له بن بركة بدون جدل رغم أنه يعرف جيدا أن رأسه مطالب من عدة جهات؟ في الحقيقة إن المهدي كان على موعد بعد يوم فقط مع الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول، لأن الأخير يتابع باهتمام نشاطه في منضمة دول القارات الثلاث ، فهنا مهدي لم ينتابه شك من مرافقة الشرطيان، كون الجنرال ديغول ينتظره غدا في قصر الإليزيه.. وإلى هنا، ضاع رأس الخيط الواحد وأحكم الالتباس والغموض قبضته فيما حصل بعد ذلك :
الرواية الأولى
كان من الواضح أن المغرب لن يسمح لأحد العارفين بخباياه أن يجالس الجنرالات في الجزائر والقاهرة .. في البداية كانت خطة محمد أوفقير وزير الداخلية و أحمد الدليمي رئيس المخابرات المغربية اغتيال المهدي بن بركة داخل التراب الجزائري ، لضرب كل العصافير بحجر واحد ، إلا أن شيئا حدث في آخر لحظة فتم تأجيل أمر المهدي لعام آخر ؛ بعد تخطيط دقيق قادته المخابرات المغربية بمساعدة الجواسيس داخل التراب الفرنسي ، وصل أوفقير والدليمي إلى خطة تمكنهم من المتمرد مهدي . كانت خطة في غاية الإتقان أبطالها أشخاص فرنسيين جندتهم المخابرات المغربية وبرعوا في أدورهم . ظن مهدي أنه بصدد جلسة عمل مع مخرج لإنتاج فيلم وثائقي عن الحركات الثورية ، وحتى الشرطيان فقد كانا متواطئين مع المخابرات المغربية.
رافق بن بركة الشرطيان نحوى فيلا فاخرة ضواحي باريس، وهناك تم سجنه بانتظار قدوم وزير الداخلية المغربي محمد أوفقير ورئيس المخابرات أحمد الدليمي ، ولدى وصولهما قاما بتعذيب المهدي بن بركة حتى الموت ، ثم أعادوا جثته إلى المغرب وتم إدابتها في الأسيد (حمض الهيدروفلوريك).
الرواية الثانية
المهدي بن بركة تعارك مع الشرطيان بعدما تأكد له أن وجهتهم ليست قصر الإيليزيه ، وأثناء العراك تلقى المهدي ضربة قاتلة في عنقه فارق على اثرها الحياة فتم دفن جثته في مكان مجهول في غابة باريس ، والسؤال هنا يطرح نفسه : من كان وراء الشرطيان ؟ البعض يرى مما لا يدعو لشك أنها المخابرات المغربية ، آخرون يرمون الإتهامات نحوى الموساد الإسرائيلي الضالع في زمنها في عدة اغتيالات سياسية .. وفي العودة إلى الشرطيان، فهناك مصادر تقول أنهما اعترافا بكونهما يعملان لصالح المخابرات المغربية ، إلا أن هذا الإعتراف أيضا شاهد تناقضا في تداوله، بحيث لم تؤكده المصادر الرسمية في فرنسا ، وظل هذا الإعتراف أسيرا في أوراق الصحف .
الرواية الثالثة
اعترفت أمريكا فيما بعد أنها كانت تملك 1850 ملفا يخص المهدي بن بركة ، وهذا يتجاوز اهتمام واشنطن بـ الأيقونة الثورية، الكوبي تشي جيفارا ، كون بن بركة زعيم في العالم الثالث ومناضل شرس وعنيد ضد الإمبريالية ، وفي باريس ألقى خطابا عنيفا حول الحرب في فتنام استفز فيه بلاد العام سام، وهو كذلك أكبر المطالبين بإزاحة القواعد الأمريكية في أفريقيا ؛ كل هذا جعل منه هدفا للمخابرات الأمريكية التي نالت من المهدي وذكراه.
بعد اختفاء المهدي في باريس ، وجدت فرنسا نفسها في موقف لا تحسد عليه، بعدما أصبحت قضية اختفاء مهدي بن بركة قضية رأي دولي ، لكونه مناضلا ومعروفا في أقطار العالم وهو كان يستعد لترأس مؤتمر دول القارات الثلاث في هافانا ؛ قضية مهدي ألقت بظلالها على العلاقات بين فرنسا والمغرب ، باريس كانت تحت الصدمة وهي تتابع تداول الأخبار عن اختفاء بن بركة على أرضها، بينما الإعلام الفرنسي يتساءل كيف للمخابرات المغربية أن تنفذ خططها على أرضهم بهذه السهولة؟ أين حرمة فرنسا؟ جرعة سامة تجرعها قصر الإليزيه، والسبب كان الحليف الأكبر في افريقيا : الرباط . فدخلت العلاقات بين البلدين إلى نفق مظلم ، رغم أن فرنسا لم تود أن تخسر حليفها الكبير المغرب ، إلا أن صورتها اهتزت في الإعلام الدول بسبب ذلك الحليف .
أين الصواب ؟
عندما سئل الملك الحسن الثاني عن مصير المهدي بن بركة ، أجاب بأنه لم يكن يرى في مهدي عدوا ؛ قال بأن بن بركة لم يكن ضد الملكية في المغرب، بل كان يطالب بإزاحة البعض من السلطة ، وأضاف : "إن الذين قتلوا المهدي بن بركة هم أنفسهم من خططوا لقتلي." وهنا يقصد الجنرال محمد أوفقير وأحمد الدليمي.
في سنة 2001 نشرت الجريدة المغربية "لوجرنال" مقالا مفصلا عن قضية اختفاء المهدي بن بركة ، المقال الذي حمل اعترافا صارخا لعميل المخابرات المغربية السابق السيد ﺃﺣﻤﺪ ﺑﻮﺧﺎﺭﻱ ، فكشف العميل المتقاعد للجريدة أن المخابرات المغربية والمخابرات الأمريكية بتواطؤ مع الشرطة الفرنسية وراء خطف وقتل ومحو آثر المهدي بن بركة ، اعتراف نفخ الروح في قضية مهدي من جديد ، إلا أنه لم يجد الصدى المطلوب.
وتواصل مسلسل الحقيقة الضائعة ، وكثرت الإتجاهات المزيفة ، والقذف باتهامات صوب المخابرات المغربية أو نظيرتها الأمريكية وتارة صوب الموساد الإسرائيلي ، وكل يغني على ليلاه.
فمن قتلك يا المهدي؟.
(كلمة)
يبقى المهدي بن بركة بما له وما عليه ؛ رمز النضال الذي تجاوز القومية العربية وكل المنادين بتلك الترهات التي عفا عنها الزمن . المهدي، الذي جند نفسه لدفاع عن حقوق البشرية جمعاء، ولم يحصر نفسه في إقليم الأحياء الأموات الذين لا يجمعهم سوى القاعات الفخمة لإستعراض بيانهم وبلاغتهم التي لا محل لها في لغة الضاد، وكل ما في جعبتهم من الهذيان ، ثم الإنصراف لخدمة أولياء نعمهم : نعل مهدي ؛ أكبر منهم جميعا.
ويبقى السؤال الملح، الشائك، الأبدي : من قتل المهدي؟
نصف قرن عجز عن وضع الصواب أمام هذا الإستفهام ، ويبقى المشتبه فيه الأول فيما آل إليه مصير المهدي ، هو وطني : المغرب . وإذا افترضنا جدلا أن المغرب بريئ من قتل المهدي براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، غير أن مواطنه قتل أو اختفى في ظروف مبهمة ، أليس من الواجب البحث عن الحقيقة وتقديم التوضيحات لعائلته التي شاخت وتهدمت قواها وهي تطالب لعقود طالت بمعرفة مصيره ، وكذا الرأي الدولي؟. ثم تأتي فرنسا بلد الأنوار والديمقراطية المزعومة ، أليس من واجب سلطة باريس وكل المتعاقبين على قصر الإليزيه فتح تحقيقا يصل إلى نتيجة نهائية في جريمة شنعاء وقعت على أرض فرنسا؟ أليس المهدي بن بركة ضيفا لديهم، بل ويستعد للقاء زعيم البلاد الجنرال ديغول؟ هل هكذا يعامل الضيف في القرن العشرين؟ .. وإلى هنا نصل إلى استنتاج واحد : أن المغرب وفرنسا هما المتهمين الرئيسيين في قضية المهدي بن بركة.
في الأخير ؛ مات المهدي بن بركة وهو يستعد لدفاع عن الإنسان البائس المقهور المسلوب الحق حول العالم ، مات واقفا في سبيل تحقيق الحق.
الاصدارات السابقة في السلسلة :
جمهورية اعبابو !
محمد اوفقير .. جنرال الدم !
الكاتب محمد بنصالح
bensalahsimo018@gmail.com
زمان لم أعلق في مدونتك أخي العزيز بنصالح وها أنا أعود لأجد فاتني الكثير والكثير هي ظروف خاصة لا أكثر المهم أخي محمد مقالك هذا عن مهدي بن بركة كان مفيدا واستمتعت بكل حرف كتبته كالعادة أسلوبك مميز في تناول المواضيع ربما سأطالبك بالكتابة المزيد عن هذه الأحداث التاريخية هي حقا مفيدة والكثيرين لا يعرفون هذه المعلومات أما كلمة الختام فليست غريبة على محمد بن صالح ههه
ردحذفتحياتي تحياتي الحارة
أهلا بك أخي العزيز عبد الرزاق وبعودتك الحميدة .. أرجو أن تكون بخير وعافية.. سعيد حقا أن المقال أعجبك وأتمنى أن أضيف لمعلوماتك ، وإن شاء الله سأحاول كتابة المزيد من المقالات من هذا النوع الذي يفيد معلومات القارئ ، فكما قلت إن الكثرين لا يعلمون عن مهدي بن بركة سوى أنه اختفى ولم يظهر له آثر ..
ردحذفشكرا على مرورك الطيب
مقال رائع وأسلوب مميز وسلس، اندمجت في القراءة حتى وصلت للكلمة وهذه الأخيرة لا بد من قراءتها بتمعن...
ردحذفرجل ثوري ومناضل بحق، أحترم شجاعته وبسالته وأنه لم يقتصر على محاربة الفساد داخل وطنه بل رفع راية التمرد ضد كل الفاسدين في العالم ..
رغم اختلاف الروايات فليس بشيء جديد ما حصل له، تلك نهاية العظماء الذين يسيرون على نهج التمرد ورفض الخنوع والاستسلام.. لا يقدرون على مواجهتهم فيأخذون حياتهم غدرا..
أوافق رأي الحسن الثاني لا أظن أن له علاقة بمقتله.. مؤكد أن أوفقير وعصبته كانوا وراء الأمر .. أظنتي قرأت مرة أن أوفقير منع من دخول فرنسا بسبب قضية المهدي لأنه كان المتهم الأول بقتله وطبعا هذا لا ينفي التهمة عن فرنسا فأظنها قتلت القتيل وسارت بجنازته ..
الحديث متشعب ويطول.. باختصار المقال رائع ومفيد وأنتظر مقالات كهذه دائما ..
تحياتي لك أخي الكريم:)
أهلا بك ^^
ردحذفسعيد حقا أن المقال نال اعجابك .. وطبعا أوافقك الرأي على أن أي مناضل ثوري في الأغلب لا تكون نهايته حميدة ، ربما تشي جيفارا خير مثال .. المهدي كان مناضلا وصل للعالمية بأفكاره الثورية وهذا لا يعجب الكثيرين ..
أشكرك على معلومة "أوفقير تم منعه من دخول فرنسا" لكنها المعلومة في الأغلب ليس صحيحة لأن فرنسا لا تنسى الذين خدموها والدليل احتضانها لعائلة أوفقير وأي احتضان لقد وفرت لهم كل سبل الراحة لأن والدهم خدم يوما فرنسا ..
في الأغلب الملك الحسن الثاني عنده حق ، محمد أوفقير هو عدو المهدي وليس شخص الملك وسبق وأن تطرقت ل محمد أوفقير في مقال سابق وكيف كان يزيح أعداءه لأنه كان يجهز للإنقلاب
فرنسا في كل الأحول ليست بريئة ربما ليست الفاعل الوحيد لكنها في الأغلب عندها يد في قضية بن بركة من قريب أو بعيد
في الأخير أشكرك على وقتك ومشاركتنا رأيك المفيد وإن شاء أقدم المزيد على آمل البقاء عند حسن الظن.