جمهورية اعبابو !

سلسلة،  مغرب القرن العشرين -2-




هدأت مدافع الحرب العالمية الثانية ، فهبت رياح التغير على بلدان الشرق ؛ رياح استأصلت الملكيات من جذورها في عدة دول عربية ، حتى غدت على أبواب مملكة الشمس وواحدة من أكثر الملكيات صمودا عبر اثنا عشر قرنا : المملكة المغربية . بعد اغتيال مهدي بن بركة المعارض اليساري في البلد أوسط الستينات وما تلاه من صدى ذلك الذي زعزع أوصال البلد داخليا وكذا خارجيا . بدأ عقد السبعين بهدوء في مملكة الحسن الثاني ؛ لا شيء في بال قصر الرباط ولدى عامة الشعب سوى أن المغرب يسابق الزمن ليعانق القرن الواحد والعشرون بأبهى حلة ، إلا أن ذلك الهدوء كان يسبق عاصفة ستزلزل أركان المغرب الأقصى ، عاصفة رصاص سيقودها الكولونيل امحمد اعبابو قائد مدرسة أهرمومو العسكرية.

من هو امحمد اعبابو ؟

ولد امحمد* اعبابو في منطقة بورد قرب مدينة تازة شمال المغرب سنة 1935 .. تمدرس  في مدينة تازة قبل أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية الملكية حتى تخرج عام 1956 برتبة ملازم أول .. بعد تخرجه تعاقب على مناصب عدة ، في البداية صار مدربا في الأكاديمية العسكرية التي تخرج منها ، وبعد ذلك تم تعيينه في القصر مرافقا للملك ، ثم نال منصب الرئيس لبعض وحدات الجيش ونال اعجاب رؤسائه لصرامته وتفانيه في العمل ، حتى قرر استكمال دراسته العسكرية العليا في فرنسا ، وتحديدا في مدرسة أركان الحرب الموجودة في العاصمة باريس، إلى أن تخرج منها وعاد إلى بلده أكثرا نضجا وازداد رزانة عسكرية ، ليحظى بمناصب أخرى قيادية في الجيش حتى أصبح قائدا لمدرسة أهرمومو العسكرية للمشاة التي يدرس فيها أكثر من ألف تلميذ والواقعة على بعد 60 كيلو متر من مدينة فاس.. تغيرت أحوال مدرسة أهرمومو العسكرية على يد اعبابو ، حتى أصبحت أرقى مدرسة عسكرية في البلد، بل تجاوزت شهرتها الحدود . لقد وجد اعبابو في مدرسة اهرمومو ضالته وكان لا يتوانى في تطويرها بكل سبل الممكنة ، حلال أم حرام، ذلك سيان في رأس اعبابو الطموح ، حتى أنه كان يسرق مواد البناء في القرى المجاورة كي يبني بها أجنحة أخرى داخل المدرسة ،  كان طموح عبابو لا تتسع له الأرض ، رجل صارم لا يرحم حتى نفسه في العمل فما البال بمرؤوسه الذين أعجبوا به بالقدر الذي يهابونه ، بل إن اعبابو صار شخصية فرضت مكانتها داخل أركان الجيش .. وفي عام 1971 نال اعبابو رتبة  (ليوطنان كولونيل) في عمر 36 عاما ليكون أصغر ضابط يحصل على هذه الرتبة العسكرية في المغرب .


(*) عند أمازيغ المغرب، اسمين لا يفرق بينهما سوى الألف : «امحمد» وينطق الميم بالسكون -M'hamed- بينما اسم «محمد» الشهير، يكون الميم مضموما -Mohamed-

المذبوح و اعبابو .. نحو الجمهورية


الجنرال محمد المذبوح،  مواليد 1927 في منطقة بورد الريفية شمال المغرب ، قائد الحرس الملكي وأقرب الرجال إلى البلاط ، بطل حرب الهند الصينية وكذا حرب الرمال ، يعرف عليه النزاهة والطيبوبة  ويلقى احترام الجميع من سياسيين وعساكر في المملكة . إن الجنرال محمد المذبوح والكولونيل امحمد عبابوا ينتميان إلى بلدة واحدة في منطقة الريف شمال المغرب، وهذا أحد الأسباب في جعل الرجلين مقربين من بعضهما .. المذبوح الذي يفوق اعبابو مرتبة ومهابة وأحد رجال الملك الحسن الثاني ، هو صاحب فكرة الإنقلاب التي أملاها على ابن بلدياته الذي رأى فيه الشجاعة والطموح والشخص المناسب ليشاركه في كتابة التاريخ ، ليلقى الرد بالإيجاب لدى اعبابو ، فما الذي جعل المذبوح الرجل الطيب بأن يفكر بالقضاء على ولي نعمته ؟

يقول الصحفي والكاتب الفرنسي  جيل بيرو عن الجنرال محمد المذبوح :

"كان المذبوح نزيها، طاهر الذيل سليل قبيلة ميسورة ، يتميز بالرصانة مع الرزانة واتزان ، يزدري الطرف ويأبى الإنسياق لمنهج الفساد ، كان أكثر الشخصيات استقامة في حاشية الملك . إكتشف أثناء زيارة قام بها للولايات المتحدة أن الكثيرين من المسؤولين في المغرب ضالعين في الفساد".

عند زيارة محمد المذبوح  لأمريكا اكتشف هناك أن مسؤولين كبار داخل المغرب غارقين في الفساد ، وأن جهاز الدولة تحكمه الرشوة ؛ عاد المذبوح وأخبر الملك عن ما توصل إليه وطلب منه اتخاذ التدابر اللازمة والقضاء على الشخصيات الفاسدة ، وكذلك فعل الملك إلا أن المذبوح لم يكن مقتنعا بإجراءات الحسن الثاني التي رأى فيها تساهلا والتغاضي عن بعض الشخصيات المرموقة، وإلى هنا قرر محمد المذبوح قائد الحرس الملكي الإنقلاب على الملك ، إلا أنه لم يكن المذبوح يود قتل الملك الحسن الثاني ، بل أراد إنقلابا أبيضا ، لا دماء تسير فيها ، وكانت خطته تتمحور في نفي الملك وعائلته خارج البلد، بل وسيخير الحسن الثاني من اختيار منفاه؛ بين فرنسا والولايات المتحدة ، إلا أن شريكه الكولونيل امحمد اعبابو لا يؤمن بهكذا إنقلاب ، رجل مثله لا يرضى إلى بثورة تبنى على أسس رائحة الدم .. في الأخير إتفق الرجلين على إسقاط الملكية في المغرب ، ومصادر غير مؤكد تقول أن سياسيون وعسكريون آخرون متورطون في خطط المذبوح واعبابو ، أبرزهم وزير الداخلية حينها محمد أوفقير ، الذي قال لهم بالحرف :  "إذا نجحتم فأنا معكم وإذا فشلتم فسأذبحكم" .
مدرسة أهرمومو العسكرية للمشاة ، هي منبت خطط اعبابو والمذبوح ، حلم واحد يجمع بينهما وهو رد المغرب جمهورية وطي اثنا عشر قرنا من الملكية .. اتفق اعبابو والمذبوح على خطة الإنقلاب وشرعوا في تفيذها.

في مطلع يوليوز عام 1971 أعلن الكولونيل امحمد اعبابو لضباط وضباط الصف في مدرسة أهرمومو -التي يترأسها - أن المدرسة بصدد القيام بمناورة عسكرية مهمة في يوم العاشر من نفس الشهر ، فوجب الإستعداد لها لتكون مسك الختام للعام الدراسي ، وقبل يوم من تنفيذ المناورة المزعومة، حضر اعبابو إلى المدرسة من جديد لتأكد من سير الأمور على أكمل وجه ، فألقى خطاب على ضباط المدرسة ، خطاب مبهم أثار فضول الضباط وكذا التلاميذ، بحيث كان كلام اعبابو غامضا وهو يردد ويعاود أنهم بصدد القيام بمناورة غير عادية، فوجب القيام بها بالذخيرة الحية على خلاف المناورات السابقة التي اعتادت المدرسة القيام بها ، فختم خطابه بلهجة ملهمة : "غدا أنتم على موعد مع التاريخ ! ".

مجزرة في قصر الصخيرات 


في وقت باكر من صباح العاشر من شهر يوليوز عام  1971 انطلقت قافلة عسكرية تحتوي 24 شاحنة عسكرية و 16 سيارة مدنية ، القافلة تضم ما يقارب 800 جندي من التلاميذ و 70 ضابط و ضابط صف ، أما قائد المدرسة الكولونيل امحمد اعبابو فقد كان ينتظر  القافلة على بعد 13 كيلو متر في بلدية تدعى بوقنادل رفقة أخوه الأكبر المقدم محمد وبضع شخصيات عسكرية أخرى ، كان مجموعهم 7 أشخاص . كان الجنود والضباط مازالوا على اعتقاد أنهم في طريقهم لمناورة عسكرية عادية رغم أن هذه المرة يحملون معهم الذخيرة الحية ، إلا أن احد منهم لم يكن يدري أنهم في الطريق لحمام بل شلال هادر من الدماء .

توقفت القافلة بعد قطعها ثلاث عشر كيلو مترا وتحديدا في بلدية بوقنادل حيث اعبابو و أوخوه الأكبر ورجال آخرون بلباس مدني ، كان اعبابو هادئا لا تظهر على ملامحه أي انفعال أو توتر كأن به قادم لتقديم التهاني لعريس زفت له عروسه حديثا.. غير الكولونيل لباسه المدني بآخر عسكري وكذلك فعل أخوه المقدم محمد والمرافقين لهم؛ فأعطى اعبابو الأمر لتجهيز وجبة الغداء للقافلة ، وبعد ذلك ألقى آخر خطاب قبل أن تستأنف القافلة السير . قال اعبابو : " نحن بصدد التوجه إلى قرية الصخيرات لمحاصرة مبنى ، أريدكم أن تخرجوا الأجانب وتركبهم الشاحنات ، ولا تطلقوا النار إلى عند الضرورة . ستنقسم القافلة إلى فرقتين ، واحدة أترأسها أنا والثانية يترأسها أخي محمد ، فرقتي ستدخل من جهة الشمال والأخرى من الجنوب . أنتم  من هنا حتى الصخيرات في ساحة حرب ! ."

في هذا اليوم كان الملك الحسن الثاني يحتفل بعيد ميلاده الواحد والأربعون في قصر الصخيرات رفقة ضيوفه من سفراء وصفوة القوم وشخصيات مرموقة . كان ضيوف الملك يتجاوز عددهم الألف في قصر على شاكلة مباني متفرقة على على مقربة من البحر.
انطلقت القافلة من جديد يسبقها اعبابو بسيارة مدنية، حتى وصولهم إلى القصر الملكي بالصخيرات في الساعة الثانية بعد الزوال، حيث كان الجنرال محمد المذبوح شريك اعبابو يتوجس من تأخر القافلة ، وبدأ الشك يدب في نفسه على أي خيانة قد تصدر من امحمد اعبابو ، كان الجنرال المذبوح هو مهندس الإنقلاب وقائده الأول ، المذبوح الذي اتفق مع اعبابو بأن يحاصر الأخير القصر ولا يترك أحد يخرج منه ، ومن ثم سيتكلف هو بما تبقى ، إلا أن اعبابو كان عازم على سفك الدماء من أجل عيون ثورة مجيدة خالدة.
وصل اعبابو مع تلاميذ مدرسة أهرمومو وضباطها إلى الباب الشمالي من قصر الصخيرات، فأوقفه أحد ضباط الدرك قائلا باستغراب : "إلى أين أنت ذاهب يا سيد الكولونيل ؟! هذا قصر ، والملك يحتفل مع ضيوفه " .. طلب منه اعبابو أن يفسح له الطريق ، ثم قام الضابط الدركي بإطلاق النار عليه دون سابق انذار ! كانت أو رصاصة في مذبحة الصخيرات أطلقت على اعبابو نفسه ، لكنه لم يمت، إلا أنه أصيب في كتفيه اليسرى . ما لبث الدركي يضغط على الزناد حتى رده عليه اعبابو بالمثل للتو واللحظة وأرداه قتيلا، فالكولونيل لا يخطئ أهدافه البتة ، لكنه أصيب في أول لحظة من الإنقلاب ، إلا أنه لم يبد أي تأثر رغم أن رصاصة الدركي مازلت في كتفه الذي ينزف دما ، فواصل الكولونيل الملهم اقتحام القصر كأن لا شيء وقع . بعد نجاحه في اقتحام القصر استدار برأسه نحو الضباط والتلاميذ وصرخ قائلا : "أطلقوا النار!" . تفاجأ التلاميذ بهذا الطلب ، ومن بينهم من لا يجيد إطلاق النار كما يجب لحداثة التحاقه بالمدرسة . في هذه الأثناء كان شقيق اعبابو الأكبر المقدم محمد قد اقتحم القصر من الجهة الجنوبية مع فرقته ، فانطلق صدى الرصاص يحوم حول ردهات قصر الصخيرات . لقد تم حصار القصر وإغلاق كل المنافذ وصار كل الضيوف ومعهم الملك رهائن لدى اعبابو وجنوده ، مع أصوات الرصاص ظهر التوتر على الجنرال محمد المذبوح ، فليس هذا هو الإتفاق بينه وبين شريكه اعبابو .

يقول الملك الحسن الثاني :

" ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺍن الجنرال محمد المذبوح ﻣﺘﻮﺭﻁ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ ﻋﻨﺪ ﺷﺮﻉ ﺍﻟﺘﻼﻣﻴﺬ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﻓﻲ ﺇﻃﻼﻕ ﺍﻟﻨﺎﺭ، ﺗﻮﺟﻬﺖ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺁﺧﺮ ﺑﺎﻟﻘﺼﺮ ﺻﺤﺒﺔ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﻘﺮﺑﻴﻦ . ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍﺧﺬ ﺍﻟﻤﺬﺑﻮﺡ ﺑﻴﺪﻱ ﻗﺎﺋﻼ : ﺗﻌﺎﻝ ﻣﻌﻲ، ﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﺃﻧﻘﺬﻛﻢ، ﻟﺬﺍ ﻳﺘﻌﻴﻦ ﺃﻥ ﻧﺬﻫﺐ ﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻋﺒﺎﺑﻮ . ﻓﺄﺟﺒﺘﻪ ﻗﺎﺋﻼ : ﻻ، ﻟﻦ ﺃﺗﻔﺎﻭﺽ ﻣﻊ ﺿﺎﺑﻂ ﺗﺤﺖ ﺇﻣﺮﺗﻲ، ﻓﺎﺑﻌﺚ ﺇﻟﻰ ﺍﻋﺒﺎﺑﻮ ﻟﻴﺄﺗﻲ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﺕ، ﺃﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻓﻠﻦ ﺃﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ."

خرج المذبوح لمقابلة اعبابو ، فصرخ في وجهه قائلا : "ليس هذا هو اتفاقنا ، ماذا دهاك ؟" .. رد عليه اعبابو ببرودة : "أين هو ؟ (يقصد الملك) هل أخذت منه التنازل ؟".  أجاب المذبوح بالإيجاب وأن التنازل في جيبه وأردف : "إنه يريد مقابلتك ، هيا فلنذهب عنده" .. في هذه اللحظة بدأ الرجلين يشكان في خيانة كل واحد لآخر ، وفي الأثناء سقط الجنرال محمد المذبوح ميتا بعدما تلقى رصاصة في الصدر . من قتل المذبوح ؟ هنا وقع الالتباس ، مصادر تقول أنه تلميذ بأمر من اعبابو من أجهز على الجنرال، ومصادر أخرى تؤكد أنها رصاصة طائشة ، في كل الأحوال فقد مات مهندس الإنقلاب وقائده المفترض وبقي امحمد اعبابو وحيدا، إلا أن الكولونيل الشاب كعادته هز كتفه فوق جثة شريكه ووصل دهس الأرواح كما تداس أعقاب السجائر في قارعة الطريق ! ثم صرخ في وجه التلاميذ ، :"أنظر ماذا يأكلون ؟ إنهم مفسدون ". فأرشق  بعض التلاميذ النار على الموائد الفاخرة .. كان الرعب يسيطر على كل الضيوف بينما الأرواح تتساقط تباعا ، أما الملك والمقربين منه أمثال وزير الداخلية محمد أوفقير ومدير الأمن الوطني أحمد الدليمي فقد اختفوا عن الأنظار وبقي الضيوف تحت رحمة الكولونيل الشرس اعبابو . بعض التلاميذ عاتو فسادا وقاموا بادلال  الشخصيات المرموقة ، أحد التلاميذ كان يسير فوق جنرال منبطح بأوسمته ونياشينه مستسلما مستكنا  في قمة المهانة ، آخرون صوبوا رشاشاتهم إلى بعض الضيوف في تهديد مستمر بالقتل وأجادوا عليهم بالسباب ، أما اعبابو الجريح وهو يتني يده اليسرى المصابة وبيد أخرى يمسك مسدسا ويقتل كل من يراه خائنا. حتى ظهر له أحد المقربين من النظام وهو  العقيد أبو الحمص ، فقال له بهدوء يحسده عليه أبشع السفاحين : "تفضل سيدي العقيد " . ثم التفت إلى أحد الضباط قائلا : "أقتل هذا الحقير !" . كان الضابط هو أحمد المرزوقي أحد أشهر الناجين من معتقل تازمامارت . قال المرزوقي فيما بعد :"لقد تظهرت أن عطلا أصاب رشاشي ". فتطوع أحد التلاميذ وأطلق النار على العقيد أبو الحمص فسقط الرجل أرضا لكنه لم يمت بعد ، في هذه الأثناء وضع اعبابو قدمه على رأس أبو الحمص وأطلق النار على بطنه ، ثم إلتفت إلى التلميذ قائلا : "هكذا يكون القتل !"

لعلع الرصاص وتساقطت المزيد من الأرواح ، كان اعبابو فرعون ساعته ، فيكفي أن يشير بإصبعه إلى أي شخص من هؤلاء الضيوف المرعوبين ليغدو جثة بائسة يدوس عليها الجميع دون مبالات .. شخصيات أخرى مدعوة  انتصرت فيها غريزة البقاء ، حيث بدأ البعض من المدعوين بالتهنئة اعبابو على جمهوريته وإبداء سعادتهم لذلك ، لقد خانوا الملك في عيد ميلاد .. كان الجميع يعرف أن حياته بين يدي اعبابو وأي رد فعل غير محسوب فقد تزهق روحه.. هكذا غدا اعبابو بهدوء وثقة شبح موت يتجول في الأنحاء باحثا عن الملك وافتراس المزيد من الأرواح ، بينما أغلب الضيوف تحولوا إلى رهائن عنده رافعين أيديهم  يقتل منهم من يشاء ، إلا المحظوظين من نجحوا في الفرار بعيدا عن فوهة رشاشات الجنود وأوامر الكولونيل .. كان أغلب التلاميذ يطلقون النار عشوئيا ، حتى نالت الفوضى أرقى مراتبها ، فشرع التلاميذ بإطلاق النار على بعضهم بعضا ، التعساء غرر بهم فما عادوا يعرفون أين العدو من الصديق . وفي لحظة تغيرت لهجة امحمد اعبابو فبدأ يهتف بحياة الملك.. تساءل الضباط  المرافقين له وكذا الجنود عن ماذا أصاب قائدهم؟ أي خطة مجنونة هذه؟ .. في الأثناء أخرج اعبابو من بين الرهائن القبطان بوجمعة ، أحد المقربين من شقيق الملك وأكد على مسامعه أن الإنقلاب قد نجح ، فسأله أين هو الملك ؟ أجاب بوجمعة أنه لا يدري مكانه . استشاط اعبابو غضبا وكرر سؤاله ، ثم أرفد أن يختار بين الإثنين؛ أن يكون معه أو ضده ، توسل القبطان اليائس إلى اعبابو أنه صدقا ما يقول ولا يعلم شيئا عن مكان الملك . ثم صرف اعبابو نظراته إلى أحد مرافقيه من مدرسة أهرمومو وهو الضابط محمد الرايس ، فقال بهدوءه المعتاد : "الرايس ، أقتل هذا الخائن !" . بهذه البساطة كان اعبابو عازم على المشي على ركام من الجثث للوصول إلى مرفئ هدفه .

إنها العسكرية التي تسلخ من الإنسان إنسانيتة وتسلب تفكيره وتكسر شوكته ، ينبغي على العسكري أن يكون آلة تنفيذ الأوامر من دون تأويل ولا حتى غمغمة .. وجد محمد الرايس نفسه بين نارين ، يقتل أو يقتل ، ونظرات اعبابو تحذره من أن أي تمرد ولو بإطالة التنفيذ ، يجب عليه أن يفتح النار ويعلل لضميره في الآتي أنه عسكري مغلوب نفذ طلب رئيسه ، يجب أن يضغط على الزناد ليرسل روح بريئة إلى مستودع الأموات لأنها مشيئة اعبابو ، لا ، بل هي مشيئة العسكر .

يقول محمد الرايس :

حسبت أني أحلم ، واعتقدت أنها مجرد تهيؤات لا أقل ولا أكثر ، لكن اعبابو كرر الأمر بلهجة تهديد وقد صوب الماسورة نحوي . والتمعت في عينيه شرارة الحقد والرعب . كان ينتظر رفضي ليرديني قتيلا دون شفقة أو رحمة . نظرت إليه نظرة المتسول الذي ينتظر صدقة . كانت صدقة التي أنتظرها من هذا الإنسان البشع ومنعدم الضمير هي تراجعه عن قراره القاسي . والحال أنه أن أصر بإلحاح وهددني بالقول : "حذاري لا تدفعني لكي أقتلك ايضا " . هذا الإنذار هز كياني وارتعدت له فرائصي فطفى على السطح جبني التي طالما أخفته أنفتي الزائفة واحساس الإنساني المزعوم . استولى علي جبن رهيب وقاهر وتاهت نفسي في سراديب الموت في عز شبابي . اهتز جسدي وأنا أفكر بأني سأقتل انسانا لا شك عندي أنه بريئ وأعزل على الخصوص ".

وقف الرايس حائرا ماذا به فاعل ؛ أتراه يغلب جبنه ويرفض الإمتثال لأمر اعبابو؟ أو يدوس على انسانيتة ويسرق حياة رجل بريئ لا ذنب له سوى أن قدره التعيس قذف به صوب الكولونيل الشرس؟ وانتصر الجانب المدنس في الضابط محمد الرايس ، وإذ به يضغط على الزناد فسقط القبطان بوجمعة صريعا وسقط معه ماضي الرايس المجيد .

يردف الرايس :

"أصبحت انسانا محطما لأن محمد اعبابو نزع عني أعز مالدي : شرفي.  مكثت مسمرا في مكاني شارد الذهن أنظر إلى الفراغ الذي اكتسح حياتي منذئذ . أحسست أن الموج يأخذني بعيدا ، بعيدا عن الجثة الممدة أمامي وبعيدا عن امحمد الذي لا يهتم لما يدور حوله وواصل اصدار الأوامر".

غادر الكولونيل  امحمد اعبابو قصر الصخيرات رفقة أغلب الجنود والضباط صوب مدينة الرباط العاصمة لإستكمال الإنقلاب هناك وتشكيل مجلس الثورة ، وترك في قصر الصخيرات شقيقه الأكبر المقدم محمد رفقة بعض الضباط والجنود لإستكمال البحث عن الملك وكذا حراسة الرهائن .
هكذا إذن غادر اعبابو قصر الصخيرات تاركا وراءه صفحة حافلة من الإجرام . 99 قتيل وعشرات الجرحى خلفهم اعبابو وراء ظهره ، مصائب الدنيا والدين اقترفها الشاب الشرس الملهم الطموح في دقائق معدودات . في الرباط حاصر جنوده مبنى الإذاعة والتلفزة وأجهزوا على الوحدة العسكرية التي كلفت من النظام لحراستها ، اعبابو توجه إلى المستشفى وقام باستخراج الرصاصة من كتفه  بدون تخدير ، ثم توجه إلى مبنى الإذاعة والتلفزة ليبث للمغاربة الخبر التالي :"المغرب صار في يد الجيش وانتهى زمن الملكية ". في مبنى الإذاعة والتلفزة تم أسر رهائن أخرى كان من بينهم المطرب المصري الشهير عبد الحليم حافظ الذي بدا في حالة مرعبة ، وهو يرفع يديه ويتصبب عرقا ، لا أحد اهتم بشهرة العندليب الضاربة في العالم العربي في ذلك الزمان . حليم الذي يتساءل في نفسه عن أي ذنب اقترفه وأي مصيبة قادته إلى المغرب الذي يعتبر حينها من أكثر البلدان أمنا في القارة، إلا أن يومها كانت دولة الكونجو الثانية  على ضفاف الأطلسي وتطل على أروبا ، هذا أدق وصف لمملكة  المغرب في ذلك اليوم المشهود من قيظ يوليوز عام 1971 .. أعن الإنقلابيون في الإذاعة أن المغرب صار في يد الجيش وانتهت الملكية ومرحا بالجمهورية ، ويتم إعادة بث الإعلان كل ربع ساعة . بعد ذلك توجه اعبابو وزمرته إلى مبنى وزارة الداخلية وبدأ تشكيل مجلس الثورة ، حتى تفاجأ بقدوم أخوه الأكبر الذي تركه في قصر الصخيرت ، صرخ في وجهه عن سبب ترك القصر ؛ أجاب أخوه المقدم محمد انه ترك هناك بعض الضباط والجنود . في هذه الأثناء استعاد فيها الملك زمام الأمور وكلف وزير الداخلية محمد أوفقير بإنهاء الإنقلاب وعينه منذ حينها وزيرا لدفاع ، وبسرعة تحرك الجنرال أوفقير واستعاد السيطرة في قصر الصخيرات وتم القبض على الضباط والجنود الموالين ﻟـ امحمد اعبابو في أنحاء الصخيرات ثم أرسل أوفقير الجنرال البشير البوهالي إلى الرباط لوقف جنون امحمد اعبابو ، في الأثناء مازال الكولونيل اعبابو غارقا في أوهامه وهو يشكل مجلس ثورة مثير لسخرية ، لم يكن يدري أنه بموت الجنرال وشريكه ومظلته محمد المذبوح انتهى شيء اسمه جمهورية . وصل الجنرال البشير البوهالي إلى  مبنى وزارة الداخلية فخرج لمقابلته امحمد اعبابو وورائه جنوده والمرافقين له ، الجنرال البهالي في الجهة المقابلة يتقدم فرقته العسكرية، حتى أصبح كل واحد منهما على مرمى من اﻵخر ، فتوقف الإثنين ، فبادر البشير البوهالي بالحديث شاتما اعبابو وفعلته ، وكذلك رد عليه الكولونيل الحالم ، وفي مشهد لا يحدث إلا في صناعة السينما، أطلق اعبابو والبهالي النار على بعضهما في لحظة واحدة بعد تلسان حاد ؛ فسقطا الإثنين أرضا، مات الجنرال البشير البوهالي لحظتها أما الكولونيل امحمد اعبابو فمازال حيا لكنه مصاب إصابة بليغة ، فأمر أقرب المقربين إليه الضابط الوافي عقا بالإجهاز عليه برصاصة الرحمة ، رفض عقا فتح النار على قائده ؛ فنظر اعبابو بحدة في عيني عقا قائلا : "قلت لك أطلق علي النار  وهذا آخر أمر أصدره لك". فأطلق عقا النار على اعبابو . ومع صدى رصاصة عقا ؛ انتهت جمهورية اعبابو التي دامت لساعات، وانتهى معها فيلم أكشن ورعب بدون مخرج ولا كاميرات .

إنها العسكرية التي تسلخ من الإنسان إنسانيتة وتسلب تفكيره وتكسر شوكته ، ينبغي على العسكري أن يكون آلة تنفيذ الأوامر من دون تأويل ولا حتى غمغمة .








الاصدارات السابقة في السلسلة :



بنصالح

تعليقات

  1. راائع.. مقال فريد وأسلوبه جميل..
    إذن فهذه صورة امحمد أعبابو، لا يبدو عليه كل ذلك الشر.. هو ليس مسؤولا فقط عن مقتل الكثير يوم الانقلاب المضحك بل مسؤول عن النتائج التي ترتبت عليه ودفع ثمنها المستغفلون ممن كانوا تحت امرته، لا مانع أن يحلم ولكن ليس الثمن شلال دماء، أكبرتُ شجاعة المذبوح وطموحه النبيل ولكن للأسف اختار الشخص الخطأ ليشاركه به..
    عموما استمتعت كثيرا بالمقال، سأبحث عن تفاصيل أكثر لقضية المهدي بن بركة فلقد مررت عليها سابقا لكن دون الغوص في أحداثها..
    من التالي في السلسلة؟؟ ههه

    تحياتي لك:)

    ردحذف
  2. ياسين الرامي5 فبراير 2019 في 12:12 م

    تحية إلى صديقي العزيز سيمو

    مقال هارب بزاف نيفوا طالع طالع

    سمعت طبعا عن محمد اعبابو أو نابليون الريف لم أقرأ عنه كثيرا وهناك معلومات في المقال لأول مرة أعرفها مثلا اعبابو والمذبوح من نفس البلدة وأيضا اعلان نجاح الإنقلاب في الإذاعة

    وأنا أتفق.معك أنه بموت المذبوح انتهى كل شيء لأنه هو الوحيد الذي يستطيع تحريك الجيش كله واعبابو ليس سوى ضابط في رتبة كولونيل أما شريكه فهو جنرال وقائد الحرس الملكي وفي يده سلطة يعني اعبابو بعد موت المذبوح كان يعلم أن الإنقلاب فشل فبدأ يقوم بتصفية الحسابات مع أعدائه وقتل المزيد وتدمير ما أمكن لأنه ميت ميت لكن أعجبتني شجاعته عندما يأمر الضابط بإطلاق النار عليه ويقول هذا اخر امر اصدره لك وأيضا هدوءه حتى النهاية يدعو للإعجاب بصراحة لكنه مجرم في الأخير
    أعتقد في المرة القادمة سيكون الشيطان الجديد هو الجنرال أحمد الدليمي لكني واثق أنك ستكتب عن مهدي بن بركة لأنه يعقل أت تمر عليه مرور الكرام

    تحياتي أخي محمد وبانتظار المزيد من هذه المقالات المثيرة للجدل

    ردحذف
  3. هلا أختي .. أسعدني أن المقال نال رضاك .. أما صورة اعبابو فأنا أعتقد العكس ، لاحظ نظراته الغامضة ههه .. نعم المذبوح اختار الشخص الخطأ لكنه ابن بلدته وصديقه وقائد مدرسة فيها ألف تلميذ و ما يقارب 70 ضابط يعني بنسبة له هو الشخص المناسب لكن المذبوح لم يكن يعرف أمد الجنون عند شريكه ههه .. نعم لقد دفع الكثيرين ثمن اخطاء اعبابو بأعمارهم وضاعت زهرة الشباب الفائحة في السراديب والأقبية .. في الأغلب ليس هناك شيطان آخر ؛ أوفقير و اعبابو نالوا نصيب الأسد من البشاعة .

    شكرا على المرور ^^

    ردحذف
  4. زوينة عندك هذ سيمو ^^ آ سمحمد ههه

    إذن لقد أفدت معلوماتك ، هذا جيد .. نعم يلقب ب نابليون الريف وقد اخترت عنوان فرعي للمقال هكذا : " امحمد اعبابو .. النابليون الصغير " لكني فضلت في الأخير "جمهورية اعبابو" .. نعم صحيح المذبوح هو القائد ولحظة موته حكم على الإنقلاب بالفشل . يقال أن قائد القاعدة الجوية الأكبر في البلد عندما طلب منه اعبابو قصف القصر رد عليه بأنه يحتاج إلى أمر موقع من طرف المذبوح ، هذا يعني أن الكثيرين متوطين معهما لكن بموت المذبوح تراجعوا وبقي اعبابو وحيدا رفقة جنود وضباط مدرسته .

    لا لن أكتب عن الجنرال الدليمي لأنه لا يصل إلى مرتبة أوفقير و اعبابو ، نعم هو أيضا سار في طريقهم لكن وجد أن أحوال البلد تغيرت في الثمانينات ، لكن موته لغز إلى يومنا هذا .. أما مهدي بن بركة فلا بدا من الكتابة عنه من زوايا مختلفة لكن قبل ذلك يجب جمع المعلومات مرة أخرى من مصادر فرنسية لأنها أكثر مصداقية وإن شاء الله سأخصص له مقال في القريب

    تحياتي لك صديقي ياسين

    ردحذف
  5. مقال ولا اروع رغم الدماء والبشاعة شكرا جزيلا هذه المعلومات

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

تازمامارت .. أحياء في قبور !

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

ياسين الصقلي : رحالة مغربي يطوف أفريقيا فوق الدراجة الهوائية

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ