ألا تعرفون المهدي المنجرة ؟



قبل فترة زمن قصيرة، سألت طالبا يجهز أطروحة لنيل الماستر، إذا كان يعرف المهدي المنجرة؟ فأجابني - يا حسرة - كلا!.

المهدي المنجرة، مطرب الحي الذي لا يطرب، ولن يطرب أبدا، فقد غادرنا في عام 2014، وهو يكاد يكون مجهولا عند غالبية أبناء بلده، وقارته، في الوقت الذي نال فيها أرقى المراتب  وراء المحيطات.. هو مفكر، كاتب، وباحث سياسي، واقتصادي.. يعتبر أحد أبرع علماء المستقبليات  في القرن الماضي.

ولد المهدي، يوم 13 مارس 1933 في مدينة الرباط، لأسرة ذات صيت في المجتمع، فوالده هو الرائد محمد المنجرة، الذي أنشأ أول نادي لطياران في العالم العربي، وأحد الشخصيات الرباطية المرموقة. درس التعليم الأساسي في الرباط.. ثم انتقل إلى الدار البيضاء، هناك حصل على الثانوية العامة.. ثم أرسله والده إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه  وكذا، حتى يبعده عن الحركة الطلابية السياسية، التي انخرط فيها المهدي وتعلق بها، حيث كان وطنيا شرسا يكره المستعمر الفرنسي، وسبق أن تم اعتقاله.. اختيار الوالد لأمريكا، سيلعب - فيما بعد - دورا جوهريا في قصة نجاح وتميز نجله.. حصل المهدي المنجرة، على إجازة في الاقتصاد من جامعة كورنيل في نيويورك الولايات المتحدة.. أثناء دراسته في أمريكا، قال عنه أساتذته، إنه كان شديد البحث والسؤال، وشهدوا له بالتفوق.. بعد أمريكا، شد المهدي الرحال إلى انجلترا، هناك في عاصمة الضباب عام 1948 حصل على الدكتوراه في الاقتصاد مقدمة من جامعة لندن.. كان المهدي من بين الطلبة المغاربة الذين استقبلهم الملك  الراحل محمد الخامس، في باريس بعد عودته من المنفى.

بعد المشوار الدراسي، عاد المهدي إلى بلده، ليضرب موعدا مع التاريخ، حيث تم تعيينه في عام 1958 مديرا للإذاعة والتلفزيون المغربي، وهو في سن الخامسة والعشرين.. بذلك يكون أصغر من تقلد هذا المنصب في البلد حتى اليوم.. بموازاة مع ذلك، كان المهدي من أصغر الأساتذة في كلية الحقوق بالرباط.

استقل المهدي من من منصبه الإداري في الإذاعة والتلفزيون، وكذلك غادر كلية الحقوق بالرباط، وفضل استكمال تحصيله العلمي، ورفض ما عرض عليه من مناصب وزارية، أبرزها، حقيبة وزارة الاقتصاد والمالية. غادر المهدي المغرب من جديد، وحلق صوب الولايات المتحدة، هناك ليواصل ارتقاء مراتب العلم، ويصل إلى درجة البروفيسور في الاقتصاد.. عام 1961 شغل منصب  المدير العام لديوان "روني ماهو" المدير العام لليونسكو في ذلك الزمان..  ثم عام 1970 يعاود المهدي اختراق ضباب لندن، هذه المرة، أستاذا محاضرا وباحثا في الدراسات الدولية، في جامعة العلوم الاقتصادية بلندن. لم يعمر طويلا عند الإنجليز، أي بعد خمس سنوات،  تحديدا 1975 يعود إلى الولايات المتحدة، وتولى منصب المستشار الخاص للمدير العام لليونسكو، لمدة عام.. كما شغل مناصب قيادية أخرى داخل اليونسكو. 

مع انطلاق الثمانينات، بدا نجم المهدي المنجرة أكثر بزوغا، حيث صار خبيرا خاصا لدى الأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين.. بموازاة ذلك،  كان مستشارا  لمدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات بروما،  وكان كذلك أول مستشار للبعثة المغربية الدائمة في الأمم المتحدة.. ثم برق نجمه أكثر، حين تحصل على منصب الرئيس، للاتحاد العالمي لدراسات المستقبلية. فصار اسم المهدي المنجرة مرتبطا بمناصب مرموقة، وبدأ يجول مشارق الأرض ومغاربها، لينشر أفكاره وتوقعاته الاقتصادية المستقبلية، وما يشغل بال شعوب العالم الفقيرة.. فكان عضوا في عدة منظمات والأكاديميات الدولية، منها الأكاديمية الدولية للفنون والآداب، والأكاديمية الأفريقية للعلوم، كما كان من بين المؤسسين للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان..  فتم اختياره لتدريس في عديد الجامعات الدولية، منها انجلترا وفرنسا وايطاليا واليابان، كما قدم مئات المحاضرات في المغرب والعالم. دائما في المجال الجامعي، فقد نال المنجرة في التسعينات، عمادة الجامعات اليابانية.

المفكر المنجرة


ينحاز المهدي المنجرة  لشعوب العالم الثالث في كتبه ومحاضراته ومناصبه، ويتبنى قضاياهم، ويتصدى للشجع الإمبريالية التي تستهدفهم.. في مؤلفاته، يغوص المهدي في موضوع "الاستعمار لجديد" أو (النيوليبرالية) التي تنهجها الدول العظمى لتمتص خيرات دول العالم الثالث، تحديدا أفريقيا جنوب الصحراء، التي تتعرض لغزوات اقتصادية، يجدها المهدي، سياسة (رابح خاسر) كما ينتقد البروفيسور، زعماء الأنظمة المتخلفة، في ثقافة الخنوع والانبطاح في تعاملاتهم الاقتصادية مع الدول العظمى، وكذا إملاءات الصندوق الدولي، الذي يصطف إلى جانب دول على حساب أخرى - حسب رؤية المهدي - ما ينتج عنه  انتشار الفقر والأمية في مجتمعات العالم الثالث، ما يتناقض مع المواثيق الدولية. هكذا يجد المهدي الاستعمار الثقافي الديماغوجي، أكثر بأسا وضررا من الاستعمار الجغرافي، ويحذر من تابعاته مستقبلا. وكان لا يشك أن التغيير آت؛ في ذات الوقت يتساءل في كتبه ومحاضراته، عن مدى كلفة هذا التغيير.. وكان المهدي يستند لبراهين وتحليلات أكاديمية، ودراسات الأوضاع الأنية، في إطار علوم المستقبليات.

يكتب المهدي :
"إن المستقبلي الجيد يكتب لفترة، يكون مؤكدا أنه لن يكون متواجدا فيها، كالذي يركب طائرة، كلما ارتفعت كلما اتسعت أفق رؤيته"

قام المهدي المنجرة بتأليف عديد الكتب، باللغة العربية والفرنسية والإنجليزية واليابانية، وتم ترجمتها إلى لغات أخرى مختلفة حول العالم.. في هذه المؤلفات، يتحدث المهدي عن تحديات شعوب العالم الثالث، وقضايا القيم والعولمة، والتنمية الاستراتيجية.. كما تعتبر كتبه الأكثر مبيعا داخل فرنسا في عقد الثمانينات. بل حتى وصل إلى رقم ضخم في المبيعات؛ بحيث نفدت طبعة أحد كتبه في اليوم الأول من صدورها. بعد رحيل البروفيسور المنجرة؛ تبرعت زوجته بمكتبته الخاصة، للمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط.. وتم احصاء 5566 كتابا، و808 مجلة، و788 قرصا مدمجا، ومئات الصور والملصقات، في مكتبة المهدي الخاصة.

يكتب المهدي :
"أجدني متشائما على المدى القريب، لأني متفائل على المدى البعيد" 

أبرز الجوائز والأوسمة 

حاز المهدي المنجرة، بعديد الأوسمة الملكية في المغرب، كما حصل على جائزتين مقدمتين، من الأكاديمية الفرنسية للمعمار : الأولى عام 1981  وهي جائزة الحياة الاقتصادية، والثانية عام 1984 وهي المدالية الكبرى.. وقلادة الفنون والآداب في فرنسا عام 1985.. في اليابان نال قلادة الشمس المشرقة عام 1986، وفي نفس السنة، حصل كذلك على ميدالية السلام من الأكاديمية العالمية لألبرت أينشتاين. وفي عام 1991 نال جائزة الفدرالية الدولية  لدراسات المستقبلية. كما للمهدي تكريمات لا تحصى، وجوائز أخرى عديدة في مختلف جامعات دولية، وغيرها من مؤسسات تهتم بتخصص، المهدي المنجرة.

وداعا المهدي 


بدأ المرض ينال من المهدي، لكنه رفض دخول المستشفى، ففضل تلقي العلاج في منزله، بمساعدة زوجته أميمة المريني، شقيقة مؤرخ المملكة المغربية، عبد الحق المريني، وقد أنجب منها بنتين، كنزة  وحفصة.. تقول زوجته، إنه كان رغم مرضه يجر نفسه لأداء الصلوات في المسجد مع صديقه وشريكه في الاسم والفكر، المهدي بن عبود.. تضيف الزوجة، أن المهدي كان يصارع المرض بتحد كبير،  حتى تدهورت حالته الصحية، فسقط طريح الوساد وأصابه داء الارتعاش، لتظل الزوجة إلى جانبه لمؤازرة رجل العلم في محنته الصحية، لتتقمص دور الممرضة والزوجة المواسية في آن واحد : تناوله الأدوية، وتتأكد من الأنابيب البلاستيكية المتبثة في أنفه، وتستقبل زواره، وتستجيب لكل طلباته، حتى  يوم 13 يونيو عام 2014 فيه انتقل البروفيسور وعالم المستقبليات المغربي المهدي لمنجرة إلى جوار ربه، بعد مسار حافل ملؤه العلم ونجاح عظيم، تاركا أفكاره وكتبه، مراجعا عالمية، في العلاقات السياسية والدولية، والدراسات الاقتصادية والمستقبلية.  


(كلمة)

إنه المهدي المنجرة، الذي لم يسمع به الكثير.. فهو لم يكن يصيح في المسارح، ولا يقبل شفاه المتبرجات  على الشاشات.. المهدي الفذ، تعرفه حصرا، مدرجات أرقى الجامعات، وطاولات أكبر المؤتمرات، ومكاتب أثقف الأكاديميات، ورفوف أعظم المكاتب.. المنجرة، يدون أفكارا أرفع من أن يستوعب جوهرها، أيا كان.

ترحل الأسود، وتخلفوا سيادة الأدغال للأشبال. يرحل
الملوك، ويخلفوا العروش للأمراء. يرحل الرجال، ويخلفوا النسب للأنجال. رحل المهدي المنجرة، فمن هذا الذي يقدر على إرثه؟!. 




#محمد.  

تعليقات

  1. شاهدت وثائقيا عن الرجل بعنوان "المهدي المنجرة المنذر بآلام العالم" للأسف لم يلق الاهتمام الذي يستحقه وحتى إعلامنا جاحد بحقه

    ردحذف
    الردود
    1. أصبت الحقيقة يا سيدي.. شكرا على حسن التعليق والمتابعة.

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -