الوزيرة راعية الغنم !



كثير من الشباب الفقراء حول العالم حققوا أحلامهم، التي كانت تبدو للوهلة الأولى بأنها تتجاوز عتبة المستحيل.. في المغرب أمثلة كثيرة للذين حفروا الصخور بأسنانهم، وأصبحوا اليوم مشاهير العالم، كأنهم نزلوا بالمظلة على القمة.. أحد الأمثلة تتجلى في ملحن وموزع موسيقى عالمي يدعى ريدوان.. إنه العربي والإفريقي الوحيد الحائز على جائزة الغرامي للموسيقى، وحصل عليها ثلاث مرات، وقد لحن ووزع الموسيقى لأساطير الغناء، أبرزهم ملك البوب مايكل جاكسون، وليونيل ريتشي.. لكن كيفية وصول ريدوان إلى القمة تدعو لدهشة والإعجاب، فقد نعته المحيطين به أثناء حلمه الكبير، بأنه مجنون لا أكثر.. مجنون مغربي آخر كان له حلم بأن يكون أشهر  رابور في أمريكا والعالم، من الدار البيضاء انطلق ليغني الراب في أزقتها رفقة أصدقائه، ويزعج سكان المدينة، ليركض أمام دوريات شرطة، ثم رحل إلى أمريكا ليكرر نفس السيناريو في شوارع أشهر مدنها، حتى تلقى رصاصة في مؤخرة رأسه كادت أن ترسله إلى مستودع الأموات قبل المسارح والأضواء.. اليوم اسمه فرانش مونتانا، أحد أشهر فناني الراب في أميركا والعالم.. لكن، ما رأيك عزيزي القارئ  بحلم طفلة مغربية راعية الغنم، بالكاد تجد ما تسد به رمقها، تحلم بأن تكون شخصية مرموقة في المستقبل، ربما أول وزيرة تعليم في فرنسا !.. ربما.  


نجاة بلقاسم 


ولدت نجاة بلقاسم في قرية بني شيكر نواحي مدينة الناظور شمال المغرب، أو الريف الأمازيغي، عام 1977 لأسرة فقيرة،  كان والدها مهاجرا في فرنسا، ويشتغل عاملا في أشغال البناء.. عاشت نجاة صباها في ظروف قاسية،  في قرية معزولة لا ترى فيها سيارة إلا مرة كل شهر، وكانت عائلتها ترعى بضع رؤوس الغنم،  وقد اعترفت نجاة في حوارها مع جريدة نيويورك تايمز، أنها كانت ترعى الغنم وهي دون الخامسة من عمرها.. حتى اليوم الذي قرر فيه والدها أن يصطحبهم معه إلى فرنسا، وتحديدا نحو مدينة أبيفيل شمال البلاد.. ترعرعت نجاة في حي فقير ضواحي المدينة الشمالية لفرنسا، في ظروف قد تكون أكثر قساوة وأشد وطئة من تلك التي كانت عليها في قريتها الأم في المغرب..  أثناء دراستها، تعرضت لمختلف المضيقات في المدرسة، بين العنصرية والسخرية من هندامها، وعدم قدرتها على التواصل جيدا بللغة الفرنسية، ولم يتصور أحد في المدرسة أن هذه الطفلة الإفريقية الرثاء، ستكون ذات يوم  أول سيدة تشغل منصب وزيرة التعليم في بلدهم !.

تكتب نجاة بلقاسم : 

" أولئك المجانين الذين يحاولون تغيير العالم؛ هم من يغيرونه فعلا" 

رحلة كفاح وصمود، والتفوق الدراسي طبعت حياة نجاة في فرنسا..  عام 1995 حصلت على الجنسية الفرنسية، وفي نفس العام  نالت شهادة البكالوريوس في علم الإجتماع الإقتصادي.. خمس سنوات بعد ذللك، تحديدا عام 2000 نالت شهادة في القانون من جامعة بيكاردي في مدينة أميان.. كما درست في معهد الدراسات السياسية في باريس

تقول نجاة في تصريح صحفي لجريدة نيويورك تايمز، أن المدرسة هي من غيرت حياتها، وكان لها الدور الأكبر في بناء شخصيتها واثراء ذاتها.. وقد مكنها التعليم بالانفتاح على العالم، والمجتمع الفرنسي على الخصوص.

استهلت نجاة ميشوارها الوظيفي، مستشارة قانونية في مكتب المحاماة بمجلس الدولة، بين عامي 2000 و 2002 بموازة ذلك اشتغلت كذلك مستشارة قانونية في محكمة النقض.

نجاة، سياسية ومدافعة عن حقوق الإنسان

منذ أن كانت طالبة جامعية، انخرطت الشابة نجاة في أعمال حقوقية، وتأثرت بأفكار ومبادئ "اليسار" ليكون العام 2002 بداية نجاة الفعلية في عالم  السياسة ومجال الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث قررت الإنضمام إلى حزب الإشتراكيين.. وبحلول عام 2004 تم انتخابها مستشارة في منطقة رون آلب شرق فرنسا.. عام بعد ذلك نالت منصب عضو المجلس الوطني لحزب الإشتراكيين..  فبدا واضحا أن نجاة أحد النجوم الصاعدة في الحزب. في عام  2007 كانت هي الناطقة الرسمية للمرشحة الرئاسية  سيغولين رويال، وفي نفس العام اقتحمت نجاة مجلس مدينة ليون، وبعد مرور سنة، أضحت هي مساعدة عمدة المدينة.. عام 2010 التحقت بمعهد السياسية بباريس، أستاذة محاضرة، حتى 2012.. كما كانت أحد أعضاء مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج بين عامي 2007 و 2011.

 كانت من أشهر الوجوه النسائية المدافعة عن حقوق الإنسان في فرنسا.. وبتحديد حقوق المرأة والمثليين، ومكافحة العنصرية والتمييز الديني والعرقي، وأزمة الهوية التي يعاني منها الكثير الشباب المسلمين في فرنسا.. وتم تكليفها من طرف الرئيس الفرنسي السابق فراسو هولاند بعد أحداث (شاري ايبدو) الارهابية، أن تربط جسور التواصل مع مسلمي فرنسا ووضع النقاط على الحروف  كون أن البلد دخلت حربا مع الإرهاب، ما اعتبره بعض مسلمي فرنسا أن في الأمر استهدافا لهم ولعقيدتهم، لا محاربة الجريمة والتطرف.. اختيار نجاة كان موفقا، نظرا لأنها امرأة معروف عليها النضال والدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات في بلاد الأنوار، إضافة أنها مسلمة تحمل جنسية مزدوجة، المغربية والفرنسية.  

نجاة بلقاسم : الوزيرة


في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2012 اختار المرشح الرئاسي عن الحزب الإشتراكي فرانسو هولاند، نجاة بلقاسم لتكون ناطقة رسمية  لحملته الإنتخابية.. أبانت من خلالها نجاة قوة اقناع وحلاوة الخطاب ورزانته، وكانت بين الأسباب التي أرسلت المرشح هولاند إلى قصر الإليزيه، رئيسا للجمهورية الفرنسية.. فاز فراسو إذن بالإنتخابات الرئاسية، وعين نجاة بلقاسم في منصب وزيرة حقوق المرأة، والناطقة الرسمية باسم الحكومة، المنصب الذي لم يكن غريبا على وجه بشوش اعتاد الفرنسيين رؤيته مناضلا مدافعا عن حقوق الإنسان منذ أزيد من عشر سنوات، وكما تعتبر من أصغر الوزيرات في تاريخ فرنسا، وهي لا يتجاوز عمرها 35 سنة. وفي عام 2013 أنشأت المجلس الأعلى للمساواة بين المرأة والرجل، وكانت أول شخصية في الوزارة، تخصص كل شهر وقتا للإجابة على أسئلة المواطنين عبر الإنترنت.  في 2014 بعد تعديل حكومي، انضافت حقيبة وزارية لنجاة، لتشمل وزارة الشباب والرياضة، وفي نفس العام ضربت نجاة بلقاسم موعدا مع التاريخ، عندما تم تعيينها في منصب وزيرة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، لتكون السيدة الأولى في تاريخ فرنسا، التي تنال هذه الحقيبة الوزارية المرموقة التي كانت حكرا على الرجال إلى يومها.

تقول نجاة : 

"كنت خجولة ومتحفظة جدا، والانخراط في العمل السياسي كان أمرا يتعارض مع شخصيتي.. لكني قررت أن أعلن التزامي مدى الحياة، بمحاربة الظلم الاجتماعي ومناهضة عدم المساواة.. كان ذلك هو السبب في كوني يسارية حتى النخاع"

معارضو نجاة

لم يكن كل شيء على ما يرام لدى نجاة بلقاسم، وضريبة النجاح لا مفر منها.. فقد انتقدها بعض مسلمي فرنسا، بسبب بعض أفكارها العلمنية، ثم دفاعها عن حقوق المثليين، الذي لا يروق للمتديين عامة.. تدافع نجاة عن نفسها وتقول في هذا الصدد، أنها اجتهدت كثيرا لدفاع عن حقوق المسلمين داخل فرنسا، والدليل على ذلك، فقد كانت وراء تخفيف القيود على الأمهات المسلمات المرتديات للحجاب في البلد.. فيما يخص دفاعها عن المثليين؛ ترى نجاة أنهم بشر في الأخير، وواجب المجتمع حمايتهم وايجاد حل لهم، بدلا من نبذهم واعتبارهم دون غيرهم من  المواطنين،  ما يزيد هوة التمييز، والتفرقة داخل المجتمعات. في الوقت ذاته، تعرضت نجاة لهجوم عنيف قاده اليمين المتطرف في فرنسا، وسخر أسلحته الصحفية، المكتوبة منها والمسموعة، وكذا مواقع التواصل الإجتماعي، لنيل من الوزيرة الشابة وغزالة قصر الإليزيه، ومدللة أعدائهم في الحزب الإشتراكي.. ونشروا شائعات مغرضة في فرنسا تسيئ لنجاة. أما الجبهة الوطنية الفرنسية، فقد اعتبر مدراؤها أن نجاة بلقاسم خائنة، ومثال سيء لمهاجرة وصلت إلى مركز القرار في بلدهم، بسبب احتفالها برأس السنة الأمازيغية ! ودعوها لذهاب إلى هناك (يقصدون المغرب) واستعراض مواهبها. 

نجاة تودع عالم السياسة


خسر الحزب الإشتراكي في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، ومعه قررت نجاة بلقاسم طي صفحة السياسة في حياتها، لتنسحب نهائيا من المشهد الفرنسي.. وأعلنت السيدة ذات الأربعين عاما، أنها لن تترشح لرئاسة الحزب الإشتراكي الذي كان بصدد اختيار رئيس جديد، بعدما اعتقد الجميع أن نجاة هي الأقرب لتزعم الحزب؛ لكن الأمازيغية الريفية انصرفت إلى حياتها الشخصية مبتعدة عن الأضواء، فتم تعيينها مديرة عامة مندوبة لدراسات والابتكارات الدولية في معهد ايبسوس.. نجاة بلقاسم متزوجة منذ عام 2005 من بوريس فالو، الإسم المعروف في الحزب الإشتراكي، ولها توأم ذكر، نور ولويس.. يذكر أن نجاة تتحدث الأمازيغية بطلاقة، بينما لا تجيد التحدث بالعربية. وقد كانت شخصية ذات شعبية كبيرة في فرنسا، وتم اختيارها عام 2012 شخصية سياسية ملهمة في السنة.. وقد أصدرا الصحفيين فيرونيك بيرنهام وفالنتين سبيتز،  كتابا بعنوان : "نجاة بلقاسم غزالة في بلد الفيلة".. حيث تطرقا في الكتاب، لمشوار نجاة الملهم وقصة نجاحها، التي انطلقت من العدم.

تقول نجاة :

"ليس من العيب أن نفشل طالما أننا سنستمر في المحاولة. لقد كانت أمي تقول لي : لا تقليقي، إن الحياة خيالا وأحلاما أكبر مما تتصورين".


(كلمة)

مثال حي لأكبر النجاحات، إن لم نقل المعجزات في فرنسا القرن الواحد والعشرين..  راعية غنم في صباها، ووزيرة في كبرها : إنها نجاة بلقاسم، القادمة من سحق دركات المجتمع، وانطلقت (كالميراج)  نحو قمم السلطة في الجمهورية الخامسة، بكل آفاتها اتجاه المهاجرين، والأفارقة المسلمون تحديدا..  كأن حال لسان نجاة يقول  : استعمرونا يوما بقوة السلاح؛ واحتللت أنا مراكز قرارهم؛ بقوة العلم، الفكر، الإنسانية.  



محمد

تعليقات

  1. يا لها من قصة نجاح !!! لقد أحببت هذه السيدة لأنها ملهمة جدا ♡ وانجاز عظيم أن تكون أول وزيرة التعليم في تاريخ فرنسا هي مسلمة من بلد عربي
    نسيت شيئا هي وسيمة أيضا ههههه

    ننتظر المزيد

    شادية

    ردحذف
    الردود
    1. أرأيت أن لا شيء مستحيل.. لكن في نجاحها، خلاصة، وهي أن التعليم يصنع المعجزات.. فهذه الشابة تسلحت بالعلم ونجحت. إذن التعليم ثم التعليم.. وعلى البلدان العربية أن تعي مكانة التعليم في المجتمع.. اليابان دمرت بعد الحرب العالمية الثانية، ونهضت تحت الانقاض بفضل "العلم" وليس السلاح.

      شكرا شادية على المرور الطيب ^^

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -