أحلام و شموع -2-

(قصة مسلسلة)


في كل أحلام ميتة يأس كفنها.. وإذا يوما كنت من متسولي المعجزة ويتامى الأمل؛ إلا أني أعارك اليأس وأستبقي الحلم، وأتعالى على الآلام، وأرى ضياء شمعتي نورا وإن غلبت عليه الظلال، إيمانا بأن الليل سينهكه الحضور، والفجر سيكون مختلفا لا متخلفا، وما بينهما سوى تاء تراجعت.

***


نونبر 1995
    فاس

ما لها فاس ضاقت في هذا الدرب الغريب؟ أين سعتها؟. أمشي في درب تصطف فيه محلات تجارية شعبية.. الناس في كل مكان، لا أكاد أتجنب الإحتكاك بأكتاف الآخرين، ولا أرى غير رؤوس البشر حتى آخر بصري، وها أنا مرة أخرى في (ماراثون) المشي، بل هنا أكثر تكلفا من ذي قبل.

أتقدم إلى الأمام في الكثير من الضجر، حتى فوجئت بباب ضخم حوله مساحة فارغة.. أهذا باب مولاي عبد الله؟ قلت في نفسي. فكان كذلك، بعدما زكت لي لوحة أعلى الباب دون عليها، "باب مولاي عبد الله"  ولجت الباب، ثم وقفت أتساءل أين فاس مما أراه هنا ؟ تغير كل شيء، كأني غادرت فاس إلى مدينة أخرى. أزقة ضيقة لا تتسع سوى لشخص واحد، منازل كئيبة حقيرة يطوف حولها شعب مسحوق.. ملامح بعض الشباب يظهر عليها الإدمان وأيضا الإجرام. أعيدوا إلي فاس فضلا!

أخرجت من جيبي ورقة  دوّن فيها مقصدي "حي مولا عبد الله درب زاوية رقم المحل 13" وسألت صاحب بقالة عن العنوان، فدلني عليه.

وقفت في مكاني تائه العقل مخيب الرجاء، رغم أني اهتديت إلى ضالتي.. محل بقالة كتب أعلاه رقم ثلاثة عشر بلون أصفر باهت. وبابه يتوسطه قفل بدين أوصد المحل، وشباك مفرغة من قنينات الغاز على يمين المحل، توشي بأن لا أمل بأن يفتح هذا الباب الخشبي مرة أخرى.

هذا هو مقصدي الذي من أجله قطعت ما يقارب ألف كيلو متر، قادما إلى الفراغ وإلى اللاشيء. وهم، غمامة، حلم فاس يموت قبل أن يولد.. وبعد؟ إلى أين؟ حتما إن كل الاتجاهات تفي بالغرض.. لكن، أقنعت نفسي أن أسأل أولا عن صاحب المحل السيد عمر، وأين شد الرحال؟

استدرت برأسي ثم تبين لي عجوز يراقبني وهو يجلس فوق كرسي خشبي صغير، حتى كادت مؤخرته تلمس الأرض.. توجهت إليه لأسأله عن غياب عمر:

- هل تدري أين ذهب صاحب هذا المحل؟.

- تقصد عمر؟

- بلى.

- إنه مسافر إلى الرباط عند والداته المريضة.

لقد سافر عمر إذن في غياب حتما سيطول، ولم يبق لي سوى أزقة فاس مرتعا.. حتى العودة من حيث أتيت لا يمكن لها؛ لأن جيبي مثقوب.. إلا إذا كنت سأعود راجلا! أو ربما أتسول صدقة تعيدني إلى قريتي.. لا، لن أعود حتى لو أتيت لي سانحة؛ سأظل في فاس ونرى ماذا بعد؟!

بدت نظرات الفضول في ملامح العجوز وهو يحدق إلي.. في الواقع لم يكن عجوزا بما جاز به الوصف؛ بل رجل باسق يميل إلى السمرة؛ عيناه بريئتان يرتاح لهما الخاطر، وبعض تجاعيد مرور الزمن في ملامحه تعطي له تقديرا بأنه تجاوز السبعين عاما.. سألته إذا كان يعرف عمر خير معرفة؟ أجاب بابتسامة الواثق :

- أعرفه أكثر مما تظن، إن محله هذا الذي يبيع في المواد الغدائية؛ أنا من استأجرته له منذ عشر سنوات.. ما اسمك أنت، وماذا تريد منه؟

- اسمي أنور، وهذا الذي تتحدث عنه، هو ابن عمي، سلمني عنوانه منذ أربع سنوات، إذا يوما انقطعت عن التمدرس، حتى يجد لي عملا في فاس.. ولم أره منذ ذلك الحين، لكني مازلت أحتفظ بعنوانه.

- هل بحوزتك بطاقة وطنية؟

- نعم.

- إذن يمكنك العمل معي، بانتظار عودة ابن عمك.

- فيما سنعمل يا ترى، هل سأجلس معك هنا، لنراقب معا مؤخرات النساء؟

ضحك مقهقها، حتى رد صدى الأسوار ضحكته. ثم قال:

- لا، عندي بضاعة أبيعها في سوق قريب من هنا.

- أقلت بضاعة ؟!

- لا تحتقرني يا فتى ! كم عمرك وما هو مستواك التعليمي؟

- تسع عشر سنة، وحاصل على شهادة الإعدادية.

- جيد جيد، أنت مناسب.

عرف أن لا مكان يحتويني، فاقترح علي غرفة في سطح منزله.. في سبيلنا إلى منزله؛ كنا نمر على مباني مهترئة لا يكاد يصدق بأن البشر يسكنها.. لاحظت بأن الناس ينظرون إلي كثيرا.

- هييه يا عجوز، لم تقل لي ما اسمك؟

- حسن.. والناس ينادونني باحسون.

- يا باحسون، لماذا ينظروا الناس إليّ هكذا؟

- لأنك جديد عن حيهم.

- إذن يعرفون الغرباء من أنفسهم؟

- وماذا تظن أنت؟

فجأة توقفنا أمام باب حديدي قرضه الصدأ، فأخرج من جيبه كومة مفاتيح ضخمة، كأنها كل مفاتيح  أقفال المدينة!

- هيا يا أنور ادفع معي الباب.

- هل سنخلعه ؟

- بل سنفتحه.

أزيز يصم الآذان، ثم فتح الباب أخيرا، لترحب بي نسائم الكحول والسجائر.. صعدنا إلى غرفة في السطح فيها سرير عتيق وإحدى البطانيات كُتب عليها تاريخ 1963 لا أعرف إذا كان تاريخ اصدارها، أو انتهاء صلاحيتها؟

- هل تدخن يا أنور ؟

- أجل.

أخرج من جيبه بضع سجائر من النوع الرديئ، وسلمني واحدة، وأوقد أخرى، ليسعل قليلا ثم التفت إلي بنظراته البريئة قائلا:

- أود أن أعرف قصة حياتك؟

- يا باحسون إن لا قصة في حياتي تستحق الذكر، فمازلت في المقدمات.. إنما يغزوني الفضول لمعرفة أي الأقدار التي قاست عليك حتى ساقتك إلى هذه الزنزانة؟

- لقد كنت في ألمانيا مجندا مع الجيش الفرنسي يا أنور.. عمك هذا يدعو للفخر (فضحك وهو يراقب الدخان الخارج من فمه)

(أوف!) ها نحن ذا بدأنا في البطولات المزيفة.. إذا تركت جدي في القرية وهو يدّعي بأن قنبلة انفجرت في حجره ولم يمت أثناء الحرب العالمية الثانية؛ لأجد في فاس من يشاطره جنونه.

- وبعد يا باحسون؟

- حتما سمعت بجدار برلين يا أنور؟ أتصدق، أنا قد شاركت في بناءه.. سقط كل الجدار إلا الجهة التي شاركت في بناءها، ووضعت أسفلها مخرج ماء مازال صامدا إلى يومنا هذا.

- وماذا عن بوابة (براندنبورغ) يا باحسون؛ ألم تشارك في بناءها هي الأخرى؟

- لا فقط جدار برلين.

بعد برهة دخل عجوز آخر يبدو أكثر أناقة من باحسون؛ إنما محياه عركه الدهر فتكمش انكماشا.

قال باحسون :

هذا صديقي اليزيد، وكان معي أيضا في حرب ألمانيا. (ثم التفت إلى العجوز المدعو اليزيد ليردف) هذا أنور، ابن عم عمر صاحب البقالة في الحي. كنت أقص عليه مغامراتي في الحرب أيام العز والفخر.

أشعل العجوز اليزيد بدوره سجارة، وهو يطرق برأسه كأن به مستعيدا أيام الشباب والبطولات الغابرة، ثم قال وهو ينظر إلي:

- آه، لو تعلم يا أنور ما قسينا في الجبهة ونحن نعارك جنود هتلر؟ آه من زمن العز.. ما أزال أتذكر أن جنودا ألمان أسروا منا ثلاثين جنديا وكنت من بين الأسرى؛ قتلوا نصفنا واغتصبوا النصف اﻵخر.

- وأنت يا عمي في أي فريق كنت؟

- طبعا كنت من الذين قتلوهم!

- اللهم ارحمك يا عمي وألحقنا بك مسلمين.. باحسون، أعتقد بأني سأنام.

***

كان لي علم بحلمي المنفي بعيدا عني، وللوصول إليه كان علي أن أعزم على اجتياز ليل أشيب مُفرّغٌ من نجومه، من قمره، من نسيمه الحالم.. آه من أحلام الفقراء، وما يتخللها من جنون المحال. تساءلت يوما، ترى بماذا يحلم الأغنياء؟ هل يكون كسرة من السماء؟ لم أهتد إلى الجواب بعد.. ربما يكون مرتعا في آخر الكون؟ أو لا يحلمون البتة. إنما أرى نفسي أصبو إلى قبس نور، فيكون ضرامًا ويحرق جناحي.

فاس تنفس صُبحها، وأطلت الشمس على أسوار بوجلود، لتذكرنا بعبير العصور.. قال باحسون بينما نخطو معا إلى حي بن دباب:

- أتعرف لمن تعود هذه الأسوار يا أنور؟ إنها تحصن جامعة القرويين، أول جامعة في التاريخ.

- أعرف أنها أول جامعة في التاريخ، لأنهم يُعلمون  لنا هذه المعلومة منذ أول إبتدائي.. في نظرك يا باحسون، هل هذا يدعو للفخر؟

- طبعا يا أنور، إن في مدينتنا أول جامعة عرفها العالم.

- وأنا أرى غير ذلك.. فإذا كنا سنفتخر بالماضي؛ فيجب أن يكون الحاضر متفوق عليه، أو على الأقل يماثله.

لم يرد علي باحسون، كأن ما تفوهت به أرفع من أن يستوعبه عقله الذي وهنّ من الأزمنة.. بقينا واقفين نحملق في باب الجامعة:

- باحسون، إني أفكر في أرملة مفلسة تفتخر بزوجها كبير القوم الراحل!

- ماذا تقصد ؟

- لا تكترث لي كثيرا.

واصلنا السير باتجاه حي بن دباب، حيث العمل الذي اقترحه علي باحسون يوم الأمس.. قال بأن له بضاعة هناك، وسأتكلف ببيعها. واصلنا قدما حتى تجاوزنا الأسوار العتيقة.. فجأة توقف باحسون وأمسكني من يدي قائلا:

- استّدر برأسك يا أنور لترى فاس.

توقفت، ثم التفت برأسي ليتبين لي مشهدا مهيبا؛ مباني بيضاء تمتد مد العين كسهول ثلج.

- ياااه ! أهذه كلها فاس، أو تندمج مع مكناس؟

ابتسم باحسون كأنه يفتخر بفاسيته:

- فاس لوحدها يا أنور، إنها ثاني أكبر مدن بلدنا.. أنت لم تر شيئا في فاس بعد (صمت قليلا قبل أن يردف) إن أبناء هذه المدينة هم من يحكمون المغرب منذ اثنا عشر قرنا، ومازال يفعلون إلى يومنا هذا.. هل سمعت بحزب الإستقلال؟

- أجل، الحزب السياسي الذي أنشأه علال الفاس.

- هو أول حزب سياسي في العالم العربي، وقد رأى النور في هذه المدينة.. وأيضا ذكرت علال الفاسي. هل تدري يا أنور أن عائلة الفاسي الفهري هي من تحتكر المناصب الكبرى في المغرب، وربما في المستقبل أيضا؟

- أنا لا أحبذ السياسة يا باحسون.

وصلنا إلى حي بن دباب.. لا، إن حي مولاي عبد الله أرحم من هذا المستنقع الذي أنا فيه اﻵن!. لاحظ باحسون اشمئزازي من هذا الحي البائس، فقال:

- فاس يا أنور شأنها شأن المدن الكبرى، فيها أحياء راقية وبالمقابل أحياء بائسة.. فكان نصيبنا منها ناحيتها القبيحة.

كنت على يقين بأني أتواجد في ألعن حي في فاس.. حي بن دباب.

***

فاس جميلة بقدر قبحها.. خيرها كشرها. هذا ما يجول في خاطري وأنا أتجول مع باحسون في سوق بائس في حي بن دباب، حتى وصلنا إلى زاوية فيها  غطاء بلاستيكي يحجب سلعة باحسون، وضع فوقه بعض الحجارة خشية أن يحلق به الريح.
أزال باحسون الغطاء عن بضاعته، فأطلت بائسة على غرار ما يعرض في هذا السوق.

- ما هذه القمامة يا باحسون ؟!

- أي قمامة؟ هذه بضاعة ستبيعها.

- أهذا جهاز راديو، أين نصفه الثاني؟

- هذا لا يهمك.

- وأين عقارب هذا المنبه؟

- إنه لا يحتاج إلى عقارب.. قلت لك لا تسأل كثيرا.

رحل باحسون بعدما أوصاني بأن لا أبيع بأقل من عشر دراهم.. هكذا إذن صرت أبيع الخردة في أول مشواري نحو القبض على الأحلام.. جلست أراقب بضاعة باحسون، ولا أدري ماذا بي فاعل، هل أضحك أو أبكي؟ حتى وقف أمامي شرطيان، فقاما بمصادرة البضاعة وطلبا مني مرافقتهما.

- أقسم لك يا سيدي الضابط أن هذه النفايات ليست لي، إنها تعود إلى عجوز مجنون.

اللعنة على باحسون وسبله.  لقد حشرت في سيارة شرطة مليئة بباعة آخرون يبدو في محياهم التشرد والإدمان.. فكرت بينما تطلق سيارة الشرطة أصوات الإنذار : إذا كانت هذه هي البداية؛ فيا ترى كيف هي النهاية؟.



"أحلام و شموع"


يتبع

تعليقات

  1. هذا الجزء رائع جدا وفيه معلومات ثقافية لديك قدرة رهيبة في تحكم في زمام النص و تعرف كيف تمزج بين الفقر وقساوة الحياة مع الطرافة بدون زيادات ولاحظت أن أسلوبك في الكتابة يختلف عن الأساليب العربية المعروفة بل أجده أقرب إلى الأدبي الفرنسي منه إلى العربي فهل أنت متأثر بالأدب الفرنسي ؟؟

    ردحذف
  2. أهلا بك صديقي..

    أتمنى أن تكون قد استمتعت بهذين الجزئين.. وما زالت القصة طويلة.

    الأرجح عندك حق.. لأن أسلوبي في الكتابة أقرب إلى الأدب الفرنكوفوني، لأن ببساطة قراءتي العربية ضئيلة بالمقابل ما أقرأه غربيا، ولهذا لم أتأثر كثيرا بالمتأدبين العرب.. أنا عازم في الفترة المقبلة ان أقرأ اكثر وأهتم بالأدب العربي علني أستفيد منه وأتحرر قليلا من هذه الفرنكوفونية.. وهناك من يشاركني هذه اﻵفة من الشباب المغاربة؛ لأننا فتحنا أعيننا على الأدب الغربي كونهم أقرب إلينا جغرافيا واختلاطا بنا.. عكس الأدب العربي فحتى حدودنا البرية مغلقة معهم ^^

    أشكرك

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

تازمامارت .. أحياء في قبور !