أحلام و شموع -4-

(قصة مسلسلة)


ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺣﻼﻡ ﻣﻴﺘﺔ ﻳﺄﺱ ﻛﻔﻨﻬﺎ .. ﻭﺇﺫﺍ ﻳﻮﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ ﻣﺘﺴﻮﻟﻲ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ ﻭﻳﺘﺎﻣﻰ ﺍﻷﻣﻞ؛ ﺇﻻ ﺃﻧﻲ ﺃﻋﺎﺭﻙ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻭﺃﺳﺘﺒﻘﻲ ﺍﻟﺤﻠﻢ، ﻭﺃﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻵﻻﻡ، ﻭﺃﺭﻯ ﺿﻴﺎﺀ ﺷﻤﻌﺘﻲ ﻧﻮﺭﺍ ﻭﺇﻥ ﻏﻠﺒﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻈﻼﻝ، ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻨﻬﻜﻪ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ، ﻭﺍﻟﻔﺠﺮ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻻ ﻣﺘﺨﻠﻔﺎ، ﻭﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺗﺎﺀ ﺗﺮﺍﺟﻌﺖ.

***


فبراير 1996
     فاس


من خلف العصابة أرى نورا، أقترب منه بخطى حثيثة. أيكون ما يتراءى لي تأويله مناي تغدو إلي وقد حقت؟ الأرجح أنه كان حُلمَ يقظة مبتذل. لا غمغمة في السيارة، كأنهم بلعوا ألسنتهم، حتى محرك السيارة لا يخلف صوتا.. ماذا أصاب العالم يلوذ ساكنا؟ تذكرت قول باحسون : "إنهم يسحقون بعضهم بعضا كما تُسحق أعقاب السجائر في قارعة الطريق". لكني لن أسحق الليلة، أعرف.. فما جدوى هذه العصابة إذن؟ إلا إذا كانوا خائفين بأن أعود طيفا بعد قتلي، وأنتقم من معلمهم؟ كلما أعرفه هو أني في أيدي أشخاص لا يعترفون بالقانون ولا الدين؛ فقط المال والمال، وبعده فليحترق العالم بمن فيه. ها أنا ذا على مرمى  عتبة باب ليس كغيره من أبواب فاس العتيقة. باب من يلجه يجد نفسه في قبيلة المجرمين.

خففت السيارة من سرعة سيرها، فشعرت بها تدخل إلى مكان مجهول.. حتما تطوقه أسوار ويستوطنه المعلم.. فبدأت الإرتجاجات تصيب العجلات حتى توقفت السيارة كليا.

دخلت برفقة هؤلاء القوم إلى جرف مجهول. باب يفتح ويغلق بهدوء مثير للأعصاب؛ ثم صوت الأحذية تطرق البلاط.. حتى أزالوا العصابة من عيناي لتتموج غمامة أمام أنظاري، تلاها منظر أرائك الحرير في بهو شاسع. جلسنا في صمت بانتظار قدوم هذا المعلم.. لفت أنظاري منظر السقف المزخرف بأرفع أنواع الجبس؛ إنها فيلا فخمة تتحدث عن نفسها. وفي لحظة ازدياد سهوي وأنا أسرح في هذا البهو الملكي؛ فإذا بشاب باسم يدخل علينا بلباس رياضي، يظهر في محياه بأنه دون الثلاثين سنة.. أظهر الكثير من الود للذين اصطحبوني إليه. فكرت: لا يمكن أن يكون هذا هو المعلم !. لكنه كان كذلك. تذكرت لصوص والخارجين عن القانون في حي مولاي عبد الله، أولاء ذو العاهات المستديمة والعيون الجاحظة، أين هم من هذا الشاب المليح الوجه الأنيق الطلعة؟ مع أنه يزن في خرق القانون زنة الأطنان.. إنها الأناقة في الإجرام، والشر مع وقف التنفيذ.

***

مارس 1996
    فاس


في مقهى ريجنسي، أجلس رفقة عثمان وبالي ليس هناك، بل بعيد بعيد، إلى منتهى حلم بات قريب. وجهي سوية الأرض، فلم يعد باديا على محياي ما يدعو لطمأنينة.. عثمان شعر بأني لست معه وإن كان جسدي هناك، إنما عقلي منصرف إلى مخططات شائكة.. ليغزوه الفضول لمعرفة ما دار بيني وبين أصدقاء منصف.. لكني أحاول أن أتيه به.

- ألن تقل لي ماذا وقع هناك ؟

- ليس بشيء المهم يا عثمان؛ فقط قابلت معلمهم الذي أراد التأكد بأني سألتزم الصمت حيالهم.

باحسون يسعل، يدخن، يلوك بعسر، يصلي.. وهكذا تتعاقب أيام العجوز وتتأرجح بين الليل والنهار، نظراته زائغة حزينة، أتساءل أيكون كل ما يتفوه به صدقا؟ أو لربما يجانب الصواب كما نتج عقله من فراغ عن جدار برلين؟ إنما يعزه الجميع في حي مولاي عبد الله، إنه من سكان الأولين لهذا الحي البائس الذي مر الزمن ولم يلتفت إليه، وظل غارقا في مستنقع البؤس ومرارة العيش.

منصف اختفى بعد لقائي مع معلمه، لم أره بعد تلك الليلة بانتظار اليوم الموعود؛ اليوم الذي صار اقترابه يرعدني؛ الخميس واحد وعشرون آذار.. كان علي أن أتأقلم مع ما آليت إليه؛ لكن صعب علي أن أفكر بأني وإن كنت أمشي حرا في الشوارع؛ إلا أن مكاني الأنسب في أقبية السجون! هذا الشعور كان يجب أن يكون على مقربة مني، إنما لا يستحوذ علي. أتساءل ترى فيما يكفر الذي يقتل إنسانا ويسحق وجوده، ثم يمضي في حياته؟ الأرجح أنه لا يفكر. إذن يتوجب علي أن لا أفكر، أن أتعلم كيف لا أكون أنا!.

ذات زوال تصادف وجودي في المنزل زيارة شاب غريب لباحسون، لم تره عيني من قبل، تساءلت أيكون ابن العجوز؟ فكان هو.. استوقفني فتور الود بينهما. شاب أنيق متوسط القامة ممشوقها، لم يلبث مع باحسون سوى القليل، قبل أن يهم بالمغادرة، إلا أنه تدارك وألقى علي التحية، ثم عرفنا باحسون.. اسمه رضوان الإبن الذي لا يفتخر به العجوز.. قال لي الإبن العاق : "إنك تذكرني بنفسي" ثم رحل. فيما بعد سأعرف عن طريق جزار الحي، بأنه يعمل في المطار، وله سوابق عدلية بعدما قضى عقوبة سجنية مجهولة الجرم خارج فاس.. باحسون لا ينفك يحذرني منه، حتى لا أبني معه أي صداقة.

الأربعاء 20 مارس 1996

ليلة الواحد وعشرون آذار، جفاني فيها النوم وتركني منفيا في العتمات؛ كأن الليل زاد قتامة وأنا أنصرف إلى تفكير في الغد وما ينتظرني فيه. إنه انطلاق الربيع، قلت في نفسي، لعله فال خير يكون.. عدت بذاكرتي إلى ليلة مقابلة المعلم رفقة منصف وأصدقاءه؛ لم تدم المقابلة سوى وقت قليل؛ إلا أن تلك المدة الزمنية الهينة كانت كفيلة لتشبك نفسيتي وتزرع في شك رهيب متماد.."المعلم" اسمه جواد، ينحذر من اقليم تطوان، حيث منبع تجار الممنوعات في المملكة. استقر في فاس منذ بضع سنين وأنعش تجارته في المدينة، ومعه قبيلة من المجندين، الذي قرر المعلم بأن أكون أنا واحدا منهم. وهذا الشرف نلته من المعلم بعد ما حصل بيني وبين يده اليمنى، منصف أقصد.. كل ما في الأمر أن العصابة (الهاي كلاس). تبيع شهريا كمية كبيرة من الممنوعات تصل إلى أكثر من ثمانون كيلو غراما من مخدر الحشيش، موزعة على كل زوايا فاس، حتى تمكر بعيون السلطة والواشون لهم أصحاب الحسنات منهم.. حسابات دقيقة لا تترك المجال لغير إصابة الأهداف، مع الإستعداد التام لإنهاء حياة أيا كان في سبيل أوراق البنك: المال، الفتنة، الحلم، الكابوس!.  وافقت أن أدخل إلى مملكة المجرمين المحترمين. لي ما لهم، وعلي ما عليهم.

***

لقد حل الخميس الموعود، فتبدو شمس صباحه أكثر سطوعا، كأن بها تنذرني من غيب يحمل ضررا لي.. أمشي قاصدا حي بن دباب، بخطوات ثقلية كما لو كنت أمشي في الأوحال، خطوات ممزوجة بالخشية على حلمي، أن يفنى اليوم وأصير إلى سراديب السجون؛ وراء القضبان الصدئة مع كمية كبيرة من السنين، فيها ما يكفي لتكفير عن ذنب الإغتناء السريع، وتحسر والندم على زهرة الشباب الفواحة، التي نتنت في سبيل حلم لا تضيئه من غير شمعة ذائبة تعد بظلام آت.

حولت جعل يومي على طبيعته، بانتظار ما هو القادم؛ وما هي إلا لحظات بعدما جهزت خضرواتي وفواكهي وميزاني؛ حتى توقفت سيارة كبيرة من نوع "ترانزيت" تبيع الخضر بالجملة، وكان ذلك أول مرة تتوقف لكي تبيع لي بالجملة.. نزل منها رجل في ملامحه اجتياز الأربعون سنة، ألقى التحية قائلا : "كيف حالك يا العود؟" . لقد ذكر "العود" وهي كلمة سر يقصد بها "المعلم"، أي جواد، والعود تعني بالعامية "الفرس" واسم لمعلم يحمل هذه الدلالة: الجواد.

جمعت شتات ذهني وقلت بصوت واثق:

- أهلا بلمعلم؛ أحتاج صندوق تفاح، وآخر شهدية؛ على أن يكون الثمن يناسب بائع بائس مثلي.

- طبعا، بل مناسبا جدا.

وضع لي السلعة المطلوبة ودفعت له الثمن، ثم قصد  البائع الآخر على جنبي ليجعل كل شيء عاديا إلى أبعد الحدود.. كنت أعرف أن السلعة تقبع في صندوق التفاح.. صندوق يحتوي على خمسة عشر كيلو غراما من مخدر الحشيش، نثر فوقه كمية تفاح لحجب السلعة من البروز.. هكذا يبيع المعلم سلعته، لا بدفعة واحدة؛ بل على تقسيط في أنحاء فاس لتمويه حتى العفاريت والأشباح. وضعت صندوق التفاح جانبا غير معروض للبيع، بانتظار كيف ينتهي فيلم العود هذا؟.

أبدا لم يكن اليوم طبيعيا، وأنا أجلس على مقربة من صندوق، يكفي ما فيه لإرسالي وراء القضبان ما تبقى لشيخوختي.. إلى هنا كنت أعرف المخطط، إنما الذي سيستلم مني هذا الطاعون؛ لم يكن لي به علم.. كلما قاله المعلم ويده اليمنى منصف، هو تذكر كلمة السر، ألا وهي "العود". العود، العود.

أتى الليل وحان وقت الجمع والرحيل.. لم يأت أحد ليخلصني من صندوق التفاح المزعوم.. تساءلت لماذا هذا التأخر؟ أيكون قد تم القبض على المستلم؟ أو تراهم عازمون لتخلص مني؟  و..؟ و..؟ و..؟ أسئلة شتة تنهار على رأسي، ولم أجد لها صوبا.

في الغد عدت أجلس قرب الطاعون، وأوصالي ترتعد خوفا من حضور رجال الشرطة بغتة، وليغتنموا بصيد ثمين، يكون أنا، وصندوق طاعوني.. مع آذان صلاة المغرب، توقفت أمامي سيارة بيضاء من نوع "مرسيدس 240" نزل منها شاب حليق الرأس يضع نظارات طبية، رفقة مراهق أنيق ذو شعر كثيف. ألقى التحية وبدأ يحملق في السلعة  كأيها زبون. ثم قال بصوت مرتفع لرفيقه المراهق :"نسيت أن أضيف بأننا الأمس كنا نلتقط صورا مبهرة مع العود". ثم كرر ذكر كلمة "العود" كثيرا وهو يحدث صاحبه. للتو عرفت يقينا بأنه من سيخلصني من الطاعون، فها هو يأتي بكلمة السر مرة أخرى، دون أن يقصدني بها.. ثم التفت إلي قائلا : "عندنا عرس هذه الليلة يا صديقي؛ لذا نحتاج إلى صندوق موز وآخر تفاح". بدون تردد ومع ابتسامة النجاة، جهزت له طلبه، ووضع بضاعته في صندوق سيارته.. ثم بدأ معي الدردشة والمزاح المبتذل، حتى أخرج محفظة نقود ودفع لي ثمن البضاعة، ثم التفت إلى مرافقه قائلا :"اجلب من السيارة كيس حلوى العرس، ليذوق منه صاحبنا". بعد ذلك رحلا.

كيس حلوى، وأي حلوى هذا؟ إنها حلوى ممزوجة بخمسة آلاف درهم، الثمن المتفق عليه مع المعلم من جراء عملية واحدة.. قال بائع يشاركني بيع الخضروات جنبي : "يالك من محظوظ يا أنور! في آخر ساعة تبيع صندوقين من الموز والتفاح لأصحاب العرس.. لا شك أنك كسبت أزيد من مئة درهم.. أنا أبغضك هذا المساء". قلت له في خيالي بينما أسلمه كسرة حلوى: بل كسبت خمسة آلاف درهم يا غافل، التي ما كنت لأكسب عشرها في اليوم الواحد، حتى لو كنت أبيع بن الدباب مع سكانه!.

عدت إلى حي مولاي عبد الله، وفي سبيلي إليه، لم يكن الكون بسعته يسعني من فرط الفرح ونشوة النصر، وانقلاب التوجس سعادة.. في جيبي مبلغا لم يزره يوما.

بعد يومين اشتريت ملابسا جديدة وأحذية، وغدوت أنيقا كأني ابن حي نرجس في فاس؛ لا ابن بادية طرحت به أقداره في دركات فاس؛ دروبها المنسية.. باحسون يوصيني بعدم اسراف المال وجمعه للمستقبل.. المسكين يظن أن ما أكسبه من بيع الخضر من جعلني أنيقا. قلت له بيني وبين نفسي: حتى لو كنت أبيع خضرواتك لقرن ونيف في حي بن دباب، ما كنت اشتريت حذاء مقلدا.

***

أبريل 1996
   فاس


في حي مولاي عبد الله، لم أستسغ فيها شاب حقير يدعى علال، لا أنا أحببت خليقته ولا هو منذ أول يوم لي في الحي. لقد سبق وتعاركنا قبل أن يتدخل الجيران لإنهاء المعركة، هو يظن أن فاس في ملك أمه، ويرى نفسه فاسيا أصيلا، وما دون سواه، مستوطن آت من رؤوس الجبال بعد عشرة طويلة مع المعز.. حتى اسمه العتيق "علال" يكمل ما تبقى من عرس الغرور، فهو يتشاركه مع الزعيم السياسي وأحد رجال فاس: علال الفاسي. ذات ليلة وهو رفقة أصحابه بينما أمر جنبه، بدر إلى الإهانة والسخرية : "أنظروا، إنه ابن البادية الذي كان يسرح بالحمير في الأمس، صار اليوم أنيقا يظن نفسه فاسيا، ولا نعرف كل طموحه المزيف؟".  لم أسرها في نفسي، وكان لا مرد بأن أبديها له، وأنا كذلك مسني الغرور بعد فلاح عملية الطاعون. وصرت أرى نفسي عظيما. رددت الإهانة بمثلها : "ألا تعرف ما هو طموحي القادم؟ أن أنام مع أمك لتلد غيرك". انتفض علال من مكانه جاهلا، فتبين أن معركة جديدة تتهيأ للقيام.. لم يمهلني حتى وقت لتفكير، فلكمني على وجهي، حتى أحسست بأسناني تحركت من مكانها.. مع آلام لكمته، أجمعت كل قواي في يدي، ولكمته في منتصف وجهه جعلته يحلق في الهواء ويرتطم بالأرض، ثم تهيأت لركله، قبل أن أفاجأ بأصدقائه يقدمون له عونا، فانهالوا علي ضربا  حتى سقطت أرضا، وكان معهم علال الذي استعاد قوته، ولم يكن بمقدوري الوقوف وصراعهم جميعا. حتى تعبت أرجلهم من الركل فرحلوا خشية تدخل رجال اﻷمن. وكان آخرهم علال، الذي بصق علي ثم اقتفى اثرهم. تركوني مرميا في الأرض كما لو كنت كيس قمامة؛ يحدوني ألم شديد في كل مفاصلي..  عجوز يقدم لي المساعدة لنهوض، وهو يردد : "لا حول ولا قوة إلا بالله". قلت له بينما صرت واقفا : "لا تأسفنا علي يا عجوز، أقسم لك أنه كما بصق علي، لأتقيأ على أمه. لا، بل سأخلع سروال العاهرة أمه أمام الملأ".

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- فلتصمت يا هذا العجوز !

- حسبي الله ونعم الوكيل.

- إلى منزلك !

كح كح كح.. باحسون ينفجر ساعلا، يوبخني، يحذرني.

- ألم أقل لك لا تتشاجر مع أحد في هذا الحي.. لماذا أنت عنيد؟!

- هو من بدأ.

- أنا أعرف طباعك، هل تظن نفسك بريئا؟ كم مرة اشتكوا منك هنا في الحي،  وأيضا في بن دباب؟.. أأنت حقا ابن عم عمر؟ فلا أكاد أجد فيكما ما تتشركانه.

بقيت صامتا، لم ألقى ما سأقوله، العجوز على حق. أضاف :

- لماذا لا تصلي؟

أجابه كيان غامض، أسمعه وحدي : "أرأيت يوما يا باحسون شيطانا يصلي؟"

في صباح الغد عزمت على الإنتقام، فلن أنسى علال وبصقه علي، أقسمت أني سأتقيأ عليه، ثم سأتوب من العراك كما وعدت باحسون.

انتظرت ذهابه إلى الفرن الشعبي، لإيصال العجين الذي أعدته العاهرة والدته، لكي يخبز هناك.. حتى ظهر أخيرا، ثم اعترضت طريقه:

- أين أصدقاؤك اﻵن لكي يدافعون عيك؟

- هل تظنني أخشاك يا ابن البادية؟

ثم انطلقت أول معارك فاس في هذا اليوم.. سقط منه العجين ولطخ الأرض، بينما نتشابك بالأيادي، فانطلقت اللكمات.. أنا أقوى منه، فسقطته أرضا: "لن ينقدك مني أحد، سأخلع سروالك البالي، وأبصق في مؤخرتك". التقط حجارة فضربني بها على رأسي، أحسست بدماء تصل إلى عنقي ثم انسالت عبر ظهري. التفت برأسي لتتبين لي قنينة خمر فارغة، كأن الشيطان يمدها لي، فكسرتها بما أتيت من قوة على رأس علال، فهزت صرخته أسوار الحي.. عاودت ضربه بنفس القنينة المكسورة.. الدماء زخات من رأسه، كأنه خروف مذبوح مُمّرغ في دمائه.. هلّني مشهد جريان الدماء، ثم أطلقت سيقاني رفقة الريح.. أسمع شقيقه الأكبر يهرع إليه وهو ينبح بكلمات لم أفهمها:

 "أنا الذي البادية فاس عاهرة أمه!"

 أركض ولا مقصد لي، وخلفي رهط من السكارى، يدلهم شقيق علال وهو ينبح:

"لقد قتله، قتله، أمسكوا راعي الحمير". 

 ثم تذكرت، إني أركض باتجاه باب القصر الملكي حيث رجال الأمن والحرس، إنما لا مجال للإستدراك، فورائي كلاب بشرية. حتى تحقق الكابوس، فأضحيت إلى باب القصر الملكي حيث رجال الأمن، وأنا في مشهد يرثى، بوجه وشعر  ملطخان بالدماء. شقيق علال ما زال ينبح :"أوقفوووه لقد قتل أخي!".  وانتهى العدو بتوقيفي متلبسا.

***

تم احتجازي في الحراسة النظرية لدن ولاية أمن فاس.. هذه المرة زيارتي إلى مركز الأمن لم تكن بذنب خفيف؛ فأنا هنا لأجل جريمة قد تصل إلى قتل، أو محاولة القتل.. وحلمي المفرط في جماله، غدا اﻵن متماديا في قبحه. يوم كامل أنصرف فيه إلى تفكير عميق، منتهاه نتيجة واحدة : انتهى كل شيء. في صباح اليوم الموالي، أخبرني الحارس بوجود زيارة. بعد هنيهات دخل إلي باحسون رفقة عمر ابن عمي، وهذه أول مرة تقع عليه عيني منذ أربع سنوات. تلاقت نظراتنا، ثم أطرقت رأسي من فرط الخجل.. تذكرت الماضي وأنا طفل مفرغ من كل الطموح، ما عاد اللهو واللعب بألعاب تافهة. كنت أنتظر عمر هذا لكي يعود من المدينة ويجلب لي حذاء جميل، أسعد به وأفخر، حتى تصل بي حالة الفرح إلى أن أركن الحذاء الجديد جنب مخدتي نائما.. كنت أحب عمر في صباي، وهو يبادرني الشعور.. نلعب سويا رغم فارق العمر بيننا.

رفعت أنظاري، لأجد عمر ما زال يحدق إلي، وفي عينه نظرة التحسر والأسى، وهو ينظر إلى ابن عمه، وقد تحول إلى شيطان.






"أحـــــلام و شـــــﻤوع"


يتبع

تعليقات

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

تازمامارت .. أحياء في قبور !