أحلام و شموع -5-

(قصة مسلسلة)


ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺣﻼﻡ ﻣﻴﺘﺔ ﻳﺄﺱ ﻛﻔﻨﻬﺎ .. ﻭﺇﺫﺍ ﻳﻮﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ ﻣﺘﺴﻮﻟﻲ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ ﻭﻳﺘﺎﻣﻰ ﺍﻷﻣﻞ؛ ﺇﻻ ﺃﻧﻲ ﺃﻋﺎﺭﻙ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻭﺃﺳﺘﺒﻘﻲ ﺍﻟﺤﻠﻢ، ﻭﺃﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻵﻻﻡ، ﻭﺃﺭﻯ ﺿﻴﺎﺀ ﺷﻤﻌﺘﻲ ﻧﻮﺭﺍ ﻭﺇﻥ ﻏﻠﺒﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻈﻼﻝ، ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻨﻬﻜﻪ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ، ﻭﺍﻟﻔﺠﺮ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻻ ﻣﺘﺨﻠﻔﺎ، ﻭﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺗﺎﺀ ﺗﺮﺍﺟﻌﺖ.

***


أبريل 1996
    فاس

كان الخجل يتقطر من وجهي بحضور ابن عمي عمر، لم ألق ما سأقوله في وجوده.. تمنيت لو الأرض تنشق وتبتلعني. أرفع أنظاري لأجد الأسف باديا على محياه. كأن لسان حاله ينطق: أي نهاية هذه التي نلتها يا أنور؟. قدري، إنه الإنطلاق بسرعة الميراج، ما أدى بي إلى هنا يا ابن العم.

عانقني عمر، قائلا : "لا بأس يا أنور، ستخرج من هنا قريبا". زاد كلامه من خجلي، كنت تمنيت لو عاتبني، وألقى علي توبيخا.. لأني أستحق كل عتاب العالم. سألته عن صحة والدته؟ أجابني بعدما صمت هنيهة : "لقد ماتت". جوابه شل لساني.. مكثت أحملق فيه كالمعتوه، باحسون يحرك رأسه إشارة منه بالحزن. لعنت هذا الصباح في خيالي، كل هذا بسبب ذلك بسبب صغير الحمار المدعو علال، تذكرته، أيكون قد مات؟ خشيت أن أطرح هذا السؤال، لكن عمر قال بأني سأخرج من هنا قريبا؟ إذن لم يمت. كأن كيان غامض يسكنني، وطرح السؤال بدلا مني:

- هل مات علال يا باحسون ؟

- لا لم يمت.

جوابه أراحني، وطرد مني أفكار القضاء في السجن. قبل انتهاء وقت الزيارة، قال عمر بنبرة الأمل : "سأزور علال وعائلته، وأطلب منهم الصلح" ثم رحلا. أعادوني إلى السجن الإحتياطي في ولاية الأمن، بانتظار تقديمي إلى القضاء. بعد يومين عاد عمر لزيارتي حاملا معه أخبارا سيئة:

- لقد رفض علال وعائلته الصلح.

- وبعد ؟

- قد تحاكم بجناية محاولة القتل.. وأتمنى أن لا يكون هذا.

- لماذا محاولة القتل؟ أليس فقط جنحة الضرب والجرح؟

- لقد تلقى علال ضربتين على رأسه، والضربة الثانية قد يراها القاضي بأنها محاولة القتل.. لقد أرسلت علال إلى غرفة الإنعاش؛ وعليك أن تحمد الله على بقائه حيا.. من كل هذا، لا يجب على والداك معرفة ماذا حصل، وسأرى كيف أتصرف.

عاد عمر في حال سبيله بعدما زف إلي أنباء تعيسة.. لم أكن أقصد قتله، فقط أن أرد له الصاع صاعين.. تساءلت كم يا ترى تكون مدة السجن؟ ثم تذكرت منصف وجواد، والعصابة (الهاي كلاس).. ألا يفترض بهم انقاذي؟ فكرت: عملية واحدة لا تجعلني فردا منهم. فكنت مخطئا.. قبل تقديمي للقاضي بيوم واحد؛ زارني شاب سيماه شبه مألوفة، لكني لم أفلح في تذكره، كأن غمامة تحجب عني أين رأيته. قال باستغراب: "ألا تذكرني؟!"

- أتذكرك ولا أتذكر !

- أنا صاحب كيس حلوى، والعرس؟

تبا، كيف خانتني ذاكرتي وطالها الوهن؟! لكن قد تغيرت فيه بعض الأشياء؛ لم يعد يرتدي النظارات، ونبت أيضا شعر رأسه.

قال والبسمة تملأ شفاهه:

- لا عليك، نحن لا ننس أفرادنا.. خصوصا الأذكياء والشجعان منهم، وأنت فيك الإثنين.

- وبعد، يا ما اسمك؟

- مهدي، المهدي اسمي. أما بعد؟  تعلم أنك تواجه جناية محاولة القتل، وفي أضعف الإيمان ستحظى ببضع سنوات سجنا نافذا؛ لكن هذا لن يحصل، فسيتم تغيير الجناية من محاولة القتل، إلى جنحة الإعتداء بضرب والجرح، وبدلا من بضع سنوات، ستلقى ثلاث أشهر تقريبا. ما رأيك؟

- لكن، كيف هذا ؟!

- أنت لا تعرف جواد بعد، "العود" أقصد.. إنه بامكانه حتى تبرئتك، وتخرج غدا حرا طليقا.. لكن هذا سيثير الشكوك حولك. إنك لا تحتاج أي توصية؛ لذا حتى نراك قريبا.

غادر بهدوء ينم على هالة المجرمين فوق القانون!.

***

ليلة إقرار الحكم علي.. كنت أنصرف إلى استحضار طفولتي، التي عشتها كما ينبغي وأكثر.. وبعض سنوات دراستي التي خلفت لي (ديبلومين) لا يسمن أيا منهما ولا يغني.. شهادة الإعدادي، وشهادة الفندقة والسياحة بتكوين لعام واحد.. في اﻷخير وجدت نفسي غير نادما على ما وصلت إليه، وما زال الحلم يراودني بأن أكون غير أنا !. حلم ركنته اﻵن جانبا بانتظار قضاء ثلاث أشهر؛ هذا إذا صدق المهدي.

فوجئت باصدار الحكم، بعدما نطق القاضي في حضرة عمر وباحسون؛ وأيضا والد علال : "حكم على المتهم أنور الرازي بالسجن لمدة شهر ونصف، بعدما تبت عليه جرم الإعتداء بالضرب والجرح". صرخ والد علال:

 "اللهم إن هذا منكر ! لقد أرسل ابني إلى غرفة الإنعاش، هذا أمامكم مجرم يا سيادة القاضي.. أو تنتظرون حتى يقتل بريئا!"

قلت له في خيالي : اللهم إن هذا من وراء "العود" ورجاله. عمر ينظر إلي نظر عدم التصديق ! باحسون تنفرج أساريره؛ فقد كانا ينتظران في الأقل الأضرار، حكما يتجاوز العامين، إنما هيهات هيهات، شهر ونصف وها أنا ذا معكم.

انطلقت الخمسة والأربعين يوما التي سأقضيها وراء أسوار سجن فاس.. احترم المنطق نفسه، فكانت زنازين السجن وممراته في حالة من العبث وقلة الإهتمام، إن لم نقل عدمه.. فراش النوم والغطاء مهترئان تفوح منهما رائحة الجرذان. لكنه السجن وماذا كنت أنتظر؟ أيحق لي الترفع عن الأغطية النتنة وأنا الذي كدت أقتل إنسانا أعزل؟. لا على اليقين التام. في كل زنزانة ثلاث مساجين، وفي زنزانتي كان أحدهم طاعنا في السن، وآخرين بين الثلاثين والأربعين.. بحضوري كسرت رتابتهم القاتلة، فكلهم مسجونين منذ سنوات، وقد بلغ فيهم الشوق أقصى مداه لتحرر من القيد وإلقاء نظرة عن الذي يجري في الخارج.

جلب لي صديقي عثمان كتب ومجلات لتمضية الوقت.. اندمجت مع كتاب "كفاحي" لـ أدولف هتلر؛ لقد زاد من إلهامي هذا الرجل النازي.. فكرت: هكذا يكون الرجال وملاحقة طموحهم؛ لا البكاء على الأقدار كالعوانس، وانتظار يد غامضة تهبط من السماء وتنتشلهم من مأساتهم. أقسمت لنفسي ولجدران زنزانتي وقضبانها؛ بأني يوما سأحكم فاس وأكون سيدها. نعم إن هذا الذي يقولون عنه راعي الحمير وعشير المعز، سيقبض على النجوم ليلة دوي الرعد وميض نار !.

***

يونيو 1996
     فاس


انقضت مدة الحكم، وبعث أنور إلى أزقة فاس مرة أخرى.. شهر ونصف جعلني أنزوي إلى نفسي ومعاشرتها أكثر وسبر أغوارها.. خرجت مفعما بجرأة أكبر للمبادرة، وأن أطرق كل الأبواب التي دون أعلاها "خطر!" علني أمتطي المجد يوما، أو أتلاشى في العدم في سبيل ذلك. وجدت عمر في دكانه يبيع المواد الغذائية لسكان مولاي عبد الله.

- ستعمل معي يا أنور، حتى تتعلم مني هذه المهنة، لأجد لك دكانا آخر تعمل فيه بجهدك، بينما رأس مال لصاحبه؛ وبذلك تتقسمان الأرباح.. هكذا بدأت أنا.

قالها عمر، والمسكين على نيته ظنا بل متوهما بأني سأكتفي ببيع الحليب والخبز والزيت لهذا الشعب المفلس، وأنتظر ربحا يجعلني أعيش مستورا.. أبدا لا يا ابن العم. أضاف:

- سأعطيك أجر خمسمائة درهم في الشهر. ما رأيك؟

قلت له سرا : بل سأبيع "الحشيش" في دكانك هذا كما فعلت بخضروات باحسون، وأكسب في اليوم الواحد عشر أضعاف هذا الأجر الزهيد. فقلت له جهرا:

- أنا موافق يا ابن عمي، إنه لأجر جيد أجده.

لقد شعرت بالتعاطف اتجاه عمر، المسكين يتخذ الدكان مسكنا في الليل، حتى يوفر ثمن الذي سيستجير به شقة. إنه يفكر بالمستقبل والزواج والأولاد.. هو في فاس منذ أكثر من عشرين سنة، واليوم يطرق أبواب الأربعين ربيعا. يعبد الله كثيرا، ويعاتبني على ترك الصلاة. التقيت مع منصف في مقهى رجينسي؛ وهو يرفض اتمام العمليات في حي مولاي عبد الله.. يقول بأنه يتوجب علي أن أعود إلى بن دباب وبيع الخضروات.. إنها أوامر المعلم، فلا بيع في مولاي عبد الله.

سعاد فتاة تبلغ سبعة عشرة سنة،  من زبائن عمر.. نمت علاقة غربية بيننا، التنمر والمزاح المبتذل.. حتى بدأت العلاقة تميل إلى الحب. لم أحب يوما من غير نفسي وكسب المال.. لكن سعاد توشك أن تغير فيّ بعض المكتسبات. لاحظت أنها تختار ملابسها عندما أكون أنا في الدكان، إنها تبرز أنوثتها لي. دعوتها ذات يوم لنزهة فوافقت؛ هناك انطلقت علاقة أكثر جدية بيننا، لكني سريع الضجر، الحب في دستوري ليس فقط المحدثات والتعبير عن المشاعر؛ بل يتوجب على المحب تقبيل حبيبته، وتحسس ثديها.. أخبرتها أن علينا نعيش الحب لا مجرد كلمات لا تغني شيئا، فوافقت للتو.. كنا ننتظر حتى تظلم فاس لنتبادل العناق والقبلات؛ لكنها تحافظ على عفتها وتخشى عليها؛ تقول إن البكرة لزوج فقط... كنت على يقين بأني لن  أصير يوما زوجها، لذا لا داعي لكي تشتري مني وهما. ذات يوم نحس بغيض، بعد زواله، بينما أغلب الناس في موائد الغداء؛ كنت أتحسس ثدي سعاد، بينما والداتها تقصد الدكان في غفلة منا.. لم أعرف أي مصيبة قد حلت بي وقد وجدت والدتها أمامي تلهث وترميني بالسلعة، وهي تشتمني وتشتم أهلي وجميع أسلافي. هربت سعاد وتركتني داخل الدكان والسلعة تتساقط على رأسي مثل القذائف.. لقد جنت أمها : "إنه يتحرش بابنتي، ابن البادية عشير الكلاب الذي رضعته حمارة!". اجتمع الناس حول الدكان بينما والدة سعاد تواصل الصراخ : "أين عمرررر؟ أين عمرررر؟" من بين الجموع الفضوليون عثرت على مسلكا ولذت بالفرار تاركا الدكان بلا رقيب، حوله مسرحية رديئة بطلتها والدة سعاد التي مسها الجنون مسا. مسكين عمر لا يدري ماذا ينتظره.. المسكين حقا.

في الليل عدت إلى مولاي عبد الله، وأنا أخطو بثقل وتوجس.. توجهت إلى منزل باحسون لأستفسر كيف انتهت المسرحية. وقد تغاضيت عن مقابلة عمر لشدة خجلي منه. وجدت باحسون يتهيأ لنوم ويسعل على عوائده. حدجني بنظرات زائغة مخيفة ! بدرت إلى الحديث:

- أقسم لك ياباحسون أني لم أرغمها على فعل شيء معي، كل ما حصل نابع من إرادتها.

- لقد قالت بأنك تحرشت بها.

- لكني لم أفعل، هي تكذب، تكذب ياباحسون تكذب!

أشعل سجارة، وصمت لبرهة قبل أن ينفجر سعلا:

- كح.. كح.. كح.. وهل تظن بأنها ستعترف بالحقيقة حتى تمس كرامتها ؟ ألا تعرف النساء؟ عمر المسكين قبل رأس والدة سعاد حتى تغفر لك.

- إذن ياباحسون ألا لعنة على نساء العالم.

نظرات باحسون تنم على أن الكيل قد طفح مني ومن كل مصائبي التي لم تنته منذ أول خطوة خطوتها في حي الشؤم هذا.. خرجت من منزل باحسون لأصادف  ابنه رضوان في الباب وقد تبضع لوالده.. سألني:

- ما بك يا أنور (متنرفز) هكذا ؟

- لا أعرف بضبط.. إنما أتركني في حالي يا رضوان أفضل لك ولي.

- إني أعرف ماذا حصل هذا الزوال.. ألم أقل سلفا بأنك تذكرني بنفسي؟

ثم أخرج من جيبه بطاقة:

- هذا عنواني إذا احتجت أي مساعدة.

لم أنظر حتى إلى البطاقة ودفنتها في جيبي؛ ثم شكرته ووصلت سبيلي مغادرا حي مولاي عبد الله إلى الأبد.



"أحـــــلام و شـــــﻤوع"


يتبع

تعليقات

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

بنت الدراز