أحلام و شموع -1-

(قصة مسلسلة)


في كل أحلام ميتة يأس كفنها.. وإذا يوما كنت من متسولي المعجزة ويتامى الأمل؛ إلا أني أعارك اليأس وأستبقي الحلم، وأتعالى على الآلام، وأرى ضياء شمعتي نورا وإن غلبت عليه الظلال، إيمانا بأن الليل سينهكه الحضور، والفجر سيكون مختلفا لا متخلفا، وما بينهما سوى  تاء تراجعت.

***

جنّت السماء بالمطر.. أمشي لوحدي في مكان لا أعرفه، أواصل السير غير آبه بما يطوح به السحاب من ماء، لكن عقلي كان بعيدا عن هنا إلى أمد لا مد له.. لا أكاد أجد من يشاركني المضي غير أبواق السيارات الغاضبة وهي تأمرني بفسح الطريق.. لكني لست هنا، هناك حيث جُعل المستحيل متقوقعا ينتظر وصولي.. وفي لحظة ازدياد سهوي، بدّت لي شاحنة تتقدم نحوي بسرعة خارقة كأنها ومضة برق، حتى صارت أمامي مستعدة لدّهسي، فلم أستّطع تجنب عجلاتها فأغلقتُ عيناي، ثم سمعت أحدهم ينادي: "لقد وصلنا ".  لأستيقظ من حلم لا يبشر بالخير، ووجدت نفسي في حافلة عجوز متوقفة في المحطة الطرقية، وهي ترتعد وسط ضجيج محركها العتيق. لا أكاد أُصدق أن هذه الحافلة قطعت ما يقارب ألف كيلو متر.. حتى يُخيّل لراكبها أنها اخترقت بوابة سحرية، وليس السير في منعرج الطرقات.. أو تراها كانت تسير بفضل دعاء مجهول مستجاب له؟.



نونبر 1995
فاس

نزلت من الحافلة.. الجو يميل إلى البرد قليلا، الساعة في المحطة تُشير إلى نحو الخامسة صباحا؛ وجوه من في المحطة يعلوها التعب والنعاس، بعض المتشردين يتخذون مقاعد الانتظار منضدة باردة للنوم، أو فقدان للوعي.. رائحة السجائر وقهوة الصباح تفوح في الأرجاء، ممزوجة بصرخات عمال الحافلات وهم ينادون ملء حناجرهم بأسماء المدن، باحثين علي اصطياد أي مسافر تائه في هذا الصباح البارد: "كازا، كازا..  مكناس، مكناس..  مراكش، مراكش."

جلستُ في مطعم صغير داخل المحطة واضعا حقيبتي على حجري، خشية اللصوص.. أتى لي النادل بكأس من الشاي مع خبز مدهون بالزبد والعسل.. لم آكل سوى القليل، فمعدتي تؤلمني.. بقيت جالسا منتظرا طلوع الشمس وانطلاق النهار.. أغفو وأصحو وسط صيحات عمال الحافلات، حتى بزوغ الشمس واستّقرار دفئها على المدينة؛ لتطرد الناس من قعر نعاسهم، ثم لينتشروا في أرض المدينة، كل واحد منهم يسترزق في يومه.

حملتُ حقيبتي  وغادرت المحطة الطرقية، حتى وجدت نفسي في مرمى شارع بائس تصطف فيه بنايات عتيقة منظرها يوشي بغياب الحياة عنها منذ أغبر العمر.

كان عليّ في البداية السؤال عن "حي مولاي عبد الله".. لم أشأ الركوب في سيارة أجرة، قد يكون الثمن مكلفا، فلا ذخيرة مال تكفي لدي. سألت عجوزا عن الحي، فقال إنه بعيد جدا عن هنا، واقترح عليّ ركوب حافلة المدينة تحمل رقم ستة، حتى شارع الحسن الثاني، ومن هناك أسأل عن حي مولاي عبد الله.

كان عليّ تذكر اسم الشارع الذي قال عنه العجوز، ثم انتظرت الحافلة كثيرا، حتى يأس صبري.. مرت حافلات تحمل  مختلف الأرقام إلا رقم ستة، كأن العدد حُذف في الترقيم هذا الصباح؟. ثم بدّت لي حافلة تهم عرجاء باتّجاهي، ويعلوها رقم ستة مائل، حتى يوشك بأن يكون تسعة !. تقول أمي : "إن حظوظ اليوم تظهر في مطلعه" والحافلة هذه توشي بأي نهار ينتظرني.

في حافة المدينة كنت أفكر في حالي، لقد تركت قريتنا قادما إلى فاس لغرض العمل، كلما أملكه هو مبلغ مال زهيد في جيبي، وعنوان مدّون على ورقة مهترئة قد يَصْدق أو لا. وإذا تحقق الاحتمال الثاني؛ فليس غير الخلاء يرحب بي.

عند وصولي إلى شارع الحسن الثاني، بدّت لي مدينة فاس في قمم زينتها، فنادق ومطاعم فاخرة، مباني أنيقة تصطف من حولي.. أناس كثر في حال سبيلهم لا يبدو على ملامحهم أي اكتراث لما يجري حولهم.. ثم كان عليّ السؤال عن حي مولاي عبد الله، كما هي وصيّة العجوز.

- في أي اتجاه حي مولاي عبدالله، يا سيد (سألت أحد المارة)

رد ببشاشة :
- إنك تقصده في اتجاهك هذا.. إنما مازال عليك أن تواصل السير حتى أبواب القصر الملكي، ومن ثم يمكنك سؤال أحدهم  عن الحي، حتى ينعته لك.

شكرت السيد، ووصلت قدما، أراقب المارة. المحلات التجارية تفتح أبوابها. المقاهي تبتلع البشر. هي مشاهد من التسعينات، والشعب المغربي يحدوه عنفوان أمل إلى مستقبل الألفية الثالثة.  فيظهر المغرب يسلخ قشرته القديمة، وينفض غبار الماضي من محياه.. تتغير الأوضاع، عقارب العالم تركض لمعانقة القرن الواحد والعشرون.. الملك يكبر، يشيخ، لم يعد حتى يرتجل في خطاباته الموجهة لشعب. الأمير محمد صار شابا ناضجا يقترب من عرش والده. التكنولوجيا تطرق الأبواب، الكل يتحدث عن الهاتف النقال، الحواسب، القنوات الفضائية.. بعض الناس تأثروا بالدراما المكسيكية المدبلجة. القناة الثانية في المغرب تشكل نزعة إلى الأمام، برامج الواقع تغزوا بيوت المغاربة.

الشارع ما زال يمتّد أمامي كأنه يقود إلى الأبد. فيما بعد سأعرف أنه أطول شارع في قارة أفريقيا.. أتخيل أني أمتطي طائرا عملاقا يبسط جناحيه ويحملني إلى الحي المطلوب. لا، قلت في نفسي، بل سيعرج بي إلى السماء لدن حوريات بجمال لا هو في الأرض، وتكون إحداهن من نصيبي، كما في حكاية "حمو أو نامير" التي كنت أسمعها في صغري من أفواه الجدات في قريتي. فكرت إني أحتاج حقا إلى رفيقة تؤنسني في درب حياتي كيف ما كان جمالها. لكن ماذا سأفعل بها بعد الأنس وأخشى الضجر؟ على الأرجح سأعريها. تلك أفكار شيطانية كانت تمس خيالي في قريتنا.

 وبعد؟ إن شارعنا لم ينته بعد، ولا يبدو بأن له أمد يا هؤلاء.. هل تراه يصل إلى يوم القيامة؟

تعبت وأنا أمشي. قد تتورم قدماي في هذا الصباح وأجلس القرفصاء في مكاني. أبواب القصر الملكي لا تظهر من بعيد، وأخشى أنها لن تظهر ! تساءلت أيكون ذو الوجه البشوش دلني على اتجاه مزيف؟

دفعت نفسي نحو الأمام، نحوى الأمام، نحو... (أوف!) ها هي أبواب القصر أمامي، شعرت بنشوة النجاح، وقفت قليلا لأحتفل بانتصاري التافه.. لقد صدق ذو الوجه البشوش، وصرت على أعتاب حي مولاي عبد الله.. أول ما لفت انتباهي، كانت هي الأسوار العتيقة التي تطوق المكان، كأن هي من تحصن المدينة من الغزاة، وتبث الأمان في نفوس الفاسيين، فتبدو لناظرها في الوهلة الأولى، بأنها ليست في زمانها. وقفت أنظر إلى تلك الأسوار العتيقة ومعها باب القصر الملكي، الذي تجلى فيه الطول والعرض والزخرفة ما لم تره عيني يوما.. آه من عيش الملوك والأمراء، وأين منه في عيش البؤساء أمثالي، الذين عركتهم الحياة وقاس عليهم الدهر؟ لربما نقول آخرها موت ونلبث سيان؛ لكن تلك مقولة الجبناء.

بعدما نزهت أنظاري في تلك الأسوار، وكذا باب القصر الملكي؛ وصلت المشي قدما وسألت أحدهم كان يدفع عربة التين الهندي بعناء شديد، حتى بهرت أنفاسه فيُخشى عليه من الإختناق :

- أهذا طريق حي مولاي عبد الله ؟

قال من فمه وأنفه :
- لا ليس هذا، إنك تائه. أترى تلك الزنقة هناك؟ إنها تقود إلى حي مولاي عبد الله.

- وكيف سأعرف بأني وصلت؟

-  ستجد بابا ضخما، وهو المسمى باب مولاي عبد، ألجه واعتبر نفسك قد وصلت مقصدك. 

- أشكرك.

مسكين، يا لحاله ؟ لو كان عندي ما يكفي من مال، لكنت قد اشتريت منه بضاعته.. لكن هوانا سيان يا حسرتاه.





"أحلام و شموع"


يتبع 

تعليقات

  1. ﻭﺃﺭﻯ ﺿﻴﺎﺀ ﺷﻤﻌﺘﻲ ﻧﻮﺭﺍ ﻭﺇﻥ ﻏﻠﺒﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻈﻼﻝ، ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻨﻬﻜﻪ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ، ﻭﺍﻟﻔﺠﺮ ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻻ ﻣﺘﺨﻠﻔﺎ، ﻭﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺗﺎﺀ ﺗﺮﺍجعت.

    قرأت هذا النص أكثر من عشرين مرة . القصة مشوقة جدا والأسلوب روعة لا يمل منه وهادئ وواثق من نفسه . صراحة لمست في هذا الجزء احترافية كبيرة في الكتابة وأعتقد أن القصة طويلة جدا حتى اﻵن لم نعرف اسم البطل وأين يقصد بالضبط ؟ جرعة التشويق عالية . لكن أتمنى أن لا تتأخر في نشر بقية الأجزاء

    ردحذف
  2. جميلة.. والوصف رائع، بانتظار بقية الأجزاء .

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بنت الدراز