التراب و العقيان

قصة قصيرة : لـ  محمد بنصالح 



ابتسمت الدنيا فبكت ثم  عادت نعرفها، فما عاد البلسم شافي ، ولا أريج الحسناء يسكر الأرواح ، ولا شعر إمرأة تغير ملابسها، يغري الأنظار . إلى هنا أجوس سائرا بين دروب الوحل نحوى معاد لم يكتب له التمام ، فما كان بيدي شيء سوى قدر قادر ، وتبقى الأشواق في الصمت المر ، ويبقى الصمت في التأنيه و تمرده، عدوا ، لازجا ، يكاد يلمس، ثم يستحيل شفافا ، أتى على صهوة جواد أغبر ، فختم دنياي على غرة ، لتبقى عبير الأماسي آتية هاربة، وتجعل مني عبدا لذكريات، إنما ، ومضات ،  ترهات .. ثم ما عاد يذهلني شيء ، فـ مساء التعاسة يا مدينتي .



***


- ﻫﻞ ﺳﺄﻣﻮﺕ ﻳﺎ ﺃﻣﻲ ؟
- ﻛﻼ.. ﺃﻧﺖ ﺟﺎﺋﻊ ﻓﻘﻂ ، ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﺘﻚ ، ﺇﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺒﻜﻲ ، ﻣﺎ ﺑﻚ ﺃﻧﺖ ؟
ﺃﻛﻒ ﻋﻦ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﺤﻨﺔ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺸﺎحبة، وعظام صدرها المقعر ،ﺃﺳﺄﻝ ﻧﻔﺴﻲ ﻫﻞ ﻣﺎﺯﺍﻟﺖ ﺣﻴﺔ ؟
ﻓﻲ ﺍﻟﻐﺪ ﻣﺎﺗﺖ ، ﻗﺘﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ . ﺃﻣﻲ ﺗﻨﺘﺤﺐ ﻋﻠﻰ ﺟﺴﺪ ﺃﺧﺘﻲ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ، ﻏﺎﺩﺭﻩ ﺍﻟﺮﻭﺡ ، ﺧﻴﻂ ﻟﻌﺎﺏ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﻓﻤﻬﺎ ، ﺇﺻﻔﺮ ﻭﺟﻬﻬﺎ ، ﻣﺨﻴﻔﺔ ﻫﻲ . ﻫﻜﺬﺍ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﻮﺗﻰ ﺇﺫﻥ.. ﺃﻣﻲ ﺗﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﺒﻜﺎﺀ ، ﺃﻧﺎ ﻻﺋﺬ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻤﺖ.. ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺗﻮﺟﻬﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻘﺒﺮﺓ ، ﺃﻣﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﺍﺧﺘﻲ ﺍﻟﻤﻴﺘﺔ ﻭﺧﻠﻔﻬﺎ ﺭﻫﻂ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺟﺎﻝ .. ﻗﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﺬﻱ دﻓﻦ ﺟﺴﺪ ﺃﺧﺘﻲ ﻷﻣﻲ :
- ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﺳﺒﺐ ﻣﻮﺗﻬﺎ ؟
- ﺇﻧﻬﺎ ﺍﻟﺤﻤﻰ

ﻗﻠﺖ ﻓﻲ ﺧﻴﺎﻟﻲ : ﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﻜذﺑﻴﻦ ؟ ﻻ ﻳﺎ ﺷﻴﺦ ، ﻟﻘﺪ ﻗﺎﺗﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ ، ﻗﺘﻠﻬﺎ ﺍﻟﺠﻮﻉ ، ﺇﻧﻪ ﺍﻟﺠﻮﻉ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ !
ﺳﺄﻟﻨﻲ ﺍﻟﺸﻴﺦ :

- ﻫﻞ ﺗﺤﺐ ﺃﺧﺘﻚ
- ﻧﻌﻢ.. ﻛﺜﻴﺮﺍ ، رحمها الله
- لا تقل  رحمها الله ، بل قل " تقبلها الله صالحة "
- لماذا ؟
- عندما تكبر ستعرف.. المهم ﻻ ﺗﺤﺰﻥ ، أختك  أصبحت عصفورة تطير في الجنة.. ﺃﻳﻦ ﻭﺍﻟﺪﻙ ؟
- ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺠﻦ
- ﻣﺎﺫﺍ ﻓﻌﻞ ؟
- ﻻ ﺃﻋﻠﻢ ، ﺃﻣﻲ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺮﻑ

ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺎﺀ ﺻﻔﻌﺖ ﺃﻣﻲ ﻭﺟﻬﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﻌﺐ ﻳﺪﻫﺎ

- ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻗﻠﺖ ﻟـ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺃﻥ ﻭﺍﻟﺪﻙ ﻣﺴﺠﻮﻥ ؟ ﻟﻤﺎﺫﺍ ﻓﻌﻠﺖ ؟
- ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻢ ﺃﻛﺬﺏ
- ﺃﺳﻜﺖ، ﺃﺳﻜﺖ، سألحقك ﺑﺄﺧﺘﻚ

تلعنني جهرا ، ألعنها في الخيال.. في اﻷخير نمت بأمعاء فارغة مغردة ، تنادي في آناء الليل عن الطعام.. لماذا الناس يشبعون ونحن لا ؟ سؤالي لا جواب له ، على الأقل عند أمي ، في الأخير أقنعت معدتي أني والشبع لا لقاء بيننا إلى الأبد ، هذا لا ريب فيه .

- استيقظ ، استيقظ
- ماذا هناك.. دعيني أنام
- أنا سأخرج إلى العمل ، اهتم بأخيك ، إياك وتركه وحيدا قبل عودتي
- حسنا
اذهب  بلا عودة.. قلت في نفسي .

واع واع واع.. أخي يبكي ويتقيأ ماء أصفر ، حتى تلطخ وجهه ، و يداه ، يهمهم بكلمات غير مفهومة.. أهكذا يبدأ الصباح عند الناس ؟ في الأغلب كلا ، عندنا فقط .
- لست أمك . أصمت ، ماذا تريدني أن أفعلك بك ؟ أرضعك ! مثلا .
- واع واع واع
- إليك عني يا هذا !
- واع واع واع
- ثم ماذا ؟
- واع واع واع

حتما يريد الخبز لكي يبلع به بكائه .. آه من الخبز حينما يصبح حلما ، مفقودا ، نفيسا.. آه من الخبز حينما يرعب الفقراء .. كم تمنيت أن أشبع في ليلة واحدة ، وفي الصباح مرحبا بالطاعون . وجدت بعض منه يابس قليلا تركته أمي ملفوفا في قماش . الصراصير فوقه ، وتحته ، لن أكل هذا الخبز

- هاااك وابلع معه لسانك !
صمت بينما يعض خبز الأمس ،أو قبل الأمس ، أو لا أعرف من أي قمامة أتت به أمي
خرجت وتركته وحيدا ، خلفت وصية أمي . فكرت : إنها ستضربني في كل الأحوال .. عدت في المساء ، وجدت أمي تنتظرني لتفرغ مني كل بؤسها ومعاناة يومها ، وهكذا صار جسدي في كل مرة، مقبرة آلامها .

***

كبرت قليلا و غادرت مدينة أكادير إلى الدار البيضاء ، لدراسة في الأقسام الداخلية ، تركت أمي صحبة أخي هشام لأتحرر من بؤسهما . في كازابلانكا تغيرت مع تعاقب السنين، صرت أعشق القراءة.. قرأت كل كتب العالم ثم بدأت في الكتابة ، كنت أقول لنفسي : إني أستطيع أن أكتب أفضل من هذا الذي قرأته..  حتى تخيلت نفسي قلما أو حرفا كبيرا.. و هكذا أكتب خواطر مبتورة ، نصوص مشوهة ،  قصص لا نهاية لها ..  في الثانوية  تعرفت على سارة ، أجمل جميلات مدرستي ، وكانت من نصيبي ، ما أثار بغض أصدقائي .. كنت أقول لها : إني سأجعلك يوما ما بطلة روايتي،  لكني سأقتلك في النهاية ؛ لأني لا أحبذ النهايات السعيدة .. كانت تقول لي : يعجبني فيك كل شيء يا عمر ، لكن أكثر ما يعجبني فيك، هي نظاراتك .
سارة غيرت رؤيتي إلى الحياة ، كنت أستمد منها وحي كتاباتي ، أر فيها الماضي المسروق و المستقبل الموعود .
في أحد الأيام زارنا في الثانوية الكاتب " عبد العالي العلوي " أخبرته أن لي محاولات في الكتابة ، في الأخير زرته في منزله ، عرضت عليه بعض كتاباتي.. كنت محظوظا لأني وجدته إبن مدينتي - أكادير -  ولنا بعض المعارف المشتركة ، ما جعلني قريب منه..  قال لي في أحد المرات عندما عرضت عليه قصص قصيرة :
- لديك تعبير جيد ، إلا أن كتاباتك ملعونة
- لأنني ملعون مثلها يا أستاذي

كانت أول نجاحاتي في الكتابة عندما نشر لي ( العلوي )  ثلاث قصص قصيرة  بإسمي في كتاب أصدره يحمل مجموعة من القصص القصيرة.. ثم صار عشير الفئران كاتبا . ابن الجوع صار أديبا يدعي أنه مرموق ، يكتب وينشر ، ويستلهم . ابن الصفيح  يبدع ويصف داخل القصور .


***

في كل عطلة أعود إلى مدينة أكادير ، لأقضيها عند أمي وأخي.. في أحد العطل أخبرتني أمي ان أبي مات في السجن ، لم أحزن عليه كثيرا ، لم أراه سوى في صباي ، حتى أني لا أتذكر ملامحه

- لماذا لم تخبرني بموته
- لأنه لا يهمك أمره
- لأخر مرة ، أسألك.. ما كان سبب سجنه ؟
- هذا لن يفيدك في شيء يا عمر

بسبب استمرار تعنت أمي عن كشف سبب سجن والدي ، عدت إلى الدار البيضاء ولم أنهي عطلتي في أكادير  ، نسيت مشاكل أسرتي في الحانات ، اندمجت مع ليل كازابلانكا المجنون ، إنها مدينة المجانين والعقلاء ، مدينة الليليون والنهاريون ، وحش أبيض يتوسط المغرب ، يلتهم كل عبير سبيل.. أشرب إلى  الثمالة حتى انتهت العطلة ، دخلت إلى الجامعة ، لم أرى سارة منذ بداية العطلة ، لم تأتي إلى الجامعة.. سألت عنها صديقتها المقربة :

- ماتت بسكتة قلبية !
- ماذا ؟!
- كما سمعت يا عمر
فقدت سارة ودخلت نفق الإكتئاب ، كرهت كل شيء يذكرني بها.. لم أعد أقرأ ولا أكتب ؛ حتى الأقلام والأوراق تذكرني بمحبوبتي .. طال انعزالي حتى تصادفت مع الكاتب عبد العالي العلوي

- ماهذا الغياب يا عمر ؟ أين جديدك الذي وعدت به ؟ أنا سأنشر كتابا جديدا يحمل قصصا قصيرة ، إذا كانت عندك قصص قصيرة جيدة سأنشرها لك .
- لقد فقدت لذة الكتابة يا أستاذي، لقد مات إلهامي
- كيف ؟
- ماتت سارة
شعر بالآسف علي ،  وضع يداه على كتفي وقال :
- اﻵن ستكتب أفضل من أي وقت
- لا أظن ذلك
- جرب فحسب ، صدقني يا عمر

فكرت في كلامه ، تذكرت حينما قلت ﻟـ سارة : سأجعلك بطلة روايتي وفي النهاية ستموتين . قررت أن أكتب قصة طويلة بطلتها سارة . تذكرت حينما قالت : " أحب فيك كل شيء ياعمر ، لكن أكثر ما يعجبني فيك ، هي نظاراتك "
" نصف أعمى " .. اخترت هذا العنوان لقصتي الطويلة ، قبل الشروع في الكتابة زرت قبرة سارة ،، وضعت نظاراتي على قبرها وعدت أدراجي نصف أعمى .


***


» نصف أعمى «

السماء فوقي ورقة ناصعة تدعوني لمعاشرتها ؛ وأشجار الدنيا صارت اقلاما ، البحر مدادا ؛ سبيلا منهم إلى كل أشجاني، والجمرات الغلالة قد بعثرت الرياح رمادها وعادت أسرة متوهجة . لقد سحق النور أو بصيص ضياء . إبتسمت الدنيا فبكت ثم عادت كما نعرفها ، فما عاد البلسم شافي ، ولا أريج الحسناء يسكر الأرواح ، ولا شعر إمرأة تغير ملابسها، يغري الأنظار . إلى هنا أجوس سائرا بين دروب الوحل نحوى معاد لم يكتب له التمام ، فما كان بيدي شيء سوى قدر قادر ، وتبقى الأشواق في الصمت المر ، ويبقى الصمت في التأنيه و تمرده، عدوا ، لازجا ، يكاد يلمس، ثم يستحيل شفافا ، أتى على صهوة جواد أغبر ، فختم دنياي على غرة ، لتبقى عبير الأماسي آتية هاربة، وتجعل مني عبدا لذكريات، إنما ، ومضات ،
ترهات.. ثم ماعاد يذهلني شيء ، فـ مساء التعاسة يا مدينتي .
_________________________________

يا سارة ، حان وقت الإعتراف ولو جاء متأخرا.. لم أكن يوما كما تظنين..
بيني وبينك ما يفرق الأرض وأقصى الزرقة في السموات .
فهل يتساوى التراب مع العقيان ؟ أبدا لا .
فوراء تلك النظارات التي عشقتها في وجهي :
طفل كان يبحث عن فتات خبز وسط رهط من الكلاب
وراء تلك النظارات.. طفل ماتت شقيقته شاهدة الخبز أمام عيناه، فهل فهل يحق لي  أن أكتب يوما عن الأزهار .
وراء تلك النظارات.. طفل بائس سلخ منه القدر أزهى العمر ، وكاد رأسه في عز الشباب ينفجر شيبا وقهرا .
إن الألم عندي كف بأن يكون هو الألم ؛ ثم ما عاد له نقيض  .

***

كان هذا هو النص الأول والنص الأخير من قصتي الطويلة ( نصف أعمى  )
تفرغت كليا للكتابة - بعد الجامعة - وفي بعض الأحيان أجلس قرب قبر سارة بينما أواصل الكتابة.. حتى انتهيت من القصة .. كانت قصة طويلة متسلسلة أقرب إلى رواية .. عرضتها على الكاتب ( العلوي )  أعجب بها وقال بأنه لم يقرأ لكاتب في بداياته بهذا المستوى ، قال ايضا بأنه سينشرها في كتابه القادم بإسمي كما فعل سابقا ، وهكذا تركت له نسخة من القصة
مر الوقت ولم ينشر شيئا ،  في كل مرة أستفسره عن التأخر ؟ كان يقول بأن لديه مشاكل مع دار النشر .. وذات يوم وأنا أتجول في إحدى المكتبات المرموقة في المدينة ، ظهر لي كتاب يحمل إسم  " رواية نصف أعمى " وكان لـ عبد العالي العلوي .. إشتريت الرواية وبينما أقرأها.. فغر فمي ! غير مصدق ماذا أقرأه لتو ، إنها قصتي الطويلة  تحولت إلى رواية بإسم غيري ، ولم يكن سوى أعز الناس إلي ؛ من أعتبره أستاذي وفي حضوره أستحيي ، لقد سرق مني عملي وتمادى في فعلته بالإحتفاظ بنفس العنوان !
توجهت غاضبا إلى منزله حاملا معي العمل المسروق .

- هل يمكن أن تفسر لي ماذا قرأت هنا ؟!
- لا تغضب يا عمر ؛ فقط أعجبتني قصتك وجعلت منها رواية ، وأعدك أني سأعوض عليك ، لا تنس ؛ أنا كاتب مشهور
- لكنك سرقتني أيها الكاتب المشهور !
- أنا لم أسرق منك شيئا ، ربما نسيت فضلي عليك ، أنا من أخذ بيدك حتى نشرت لك أعمالك الأدبية ولم أطلب منك أي مقابل ، اﻵن اعتبر نفسك غير مدينا لي
- لا شيء يبرر السرقة أيها الأديب
- اسمع...
- لن أسمع منك شيئا .

انتهى كل شيء ؛ تكسرت الأقلام وتكمشت الأواق ، لم أعد أهتم لأي كتابة ولا قراءة ، اللعنة على الأدب . حاول ( العلوي ) التواصل معي لكني رفضت ، إني أمقت الخيانة ولا أغفرها مهما كان فاعلها .
من الجامعة  إلى حانات الليل ،  هناك عند حضرة الليليون ، إلي هنا سأطعمك لتراب يا بؤسي، وألهم الحلم المكسور،  وأجعل من المحال حقيقة ناظرة.. الليل كسوتنا،  العتامات ملاذنا . لكن؟  من بعد يا ليلى يستحق أن نبث له الهوى؟  وعند جنون سكري اسال عنك ، فاخبرني كيف السبيل لنسيان؟  حتى  صرخت بقوة وسط الخمارة.. سمعت إحداهن تقول : مسكين ، جننته الكتب.

ذات يوم بغيض ، عند مباهج الصباح ، وصلتني رسالة من أخي هشام ، بينما أنا عائد إلى غرفتي بعد ليل مديد  .
فتحت الرسالة :

» أخي عمر كيف أحوالك ، أخبرك أن أمي ماتت !
تلعنني جهرا ، ألعنها في الخيال.. أمي ، أمي ، أرجوك..  أسكت ! أسكت .
» أخبرك أن أمي ماتت !
ولدي ، ولدي عمر ، لن تموت يا ابني ، أنا معك ، انظر إلي ، إنها أمك
« أخبرك أن أمي ماتت !
أنت لست ابني ولو خرجت من أحشائي ! يا حسرتي وندمي على أختك ؛ لماذا لم ترحل في مكانها ؟.. وأنت أيضا لست أمي ، اللعنة على اليوم الذي لفظني فيه رحمك ، اللعنة على نطفة أبي !
« أخبرك أن أمي ماتت !
عمر ابني الصغير ، ستكبر يوما وتصير رجلا وتنتهي مأساتنا ، نعم ستنتهي ، ستنتهي.. كل شيء إلى الزوال يا عيوني ، هيا فالتأكل الآن وغذا أعدك بقطعة لحم . هيا افتح فمك
« اخبرك أن أمي ماتت !

لقد ماتت أمي ، وتبلبلت الكلمات، لقد مات الأحياء الأموات ، فلا داعي للعزاء ودرف الدمع على الفقيد.. أمي التي أحبها بقدر الذي أتوهم فيه أني أكرهها ، هي اﻵن راحلة إلى الخلود .. لا يعرف شعور فقدان الأم سوى فاقديها ، أبدا لا  . فهل لي أن أستحضر  الوحي اللغوي وأقدسه، وأجاري عباقرة الوصف ونحث آلام الفراق بالكلمات ؛ أو لربما يعجزني جمال التعبير ، ويكون في بؤسه ملاذ .
لطالما قلت أنا لنفسي وحدي ، وبعدي فلتغرب الشمس ولا يقدر لها الطلوع . إن  دنياي أنا ، و أنا الحياة في هذه الحياة ، واليوم الذي أموت فيه ، انتهت الحياة.. كنت كذبا متكبرا أنانيا عن عزة نفس واهية.. ومن ﺃعز ﺑﻌﺪ ﺍﻟﻠﻪ ورسوله ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﻟﺪ من الوالد .

بين مدينتي الدار البيضاء و أكادير، ثمان ساعات في الطريق ، قضيتها أنظر من نافذة  حافلة - الركاب - وأنا أتأمل الوجود الذي فقد أمي.. أرى سرب الطيور محلقا في عنان السماء، كأنها الحرية لو تجلت في مشهدا . أفكر لو كنت طائرا ، أعانق السحاب تاركا البشر يتناحرون فيما بينهم.. آه لو كنت غير الإنسان ، لما وجدت نفسي اﻵن يائسا في هذا القصدير السائر.. ظهر لي رجل فوق دراجة بائسة يدوس بعناء ، فكرت : إني ذاك الرجل ، وتلك الدارجة ما هي إلى  حياتي ، وأنا أدوس بعناء نحوى اللامكان ، باحثا عن العقيان من على قمم التراب.. صعب ان يفقد الإنسان الأمل على يمين الأصفار ، أو يتوهم ذلك في لحظة ظلماء.. إن الحياة عندي ؛ مثل حسناء فيحاء عارية السيقان ، مرت جنب فقير حقير ، لينظر إليها واهما مشتهيا حتى سكرت روحه و توالت عن أنظاره ، ثم أعاد برأسه إلى الأسفل ، وفي الأخير يكتفي بذاك الجسد الأخاذ ، عدما في الخيال ، ولولا ذاك الخيال ؛ لانفجر .

- كيف ماتت يا أخي
باكيا :
- كانت طريحة الوساد طيلة أسبوع ؛ وكان أخر كلامها عنك يا عمر

الكل ينتحب بينما تسقط حفناة التراب على قبر أمي ، إلا أنا . خالي يواسي الجميع ويغالب دموعه.. يبدو ان الجميع يتسأل لماذا لا يبكي ابن الفقيدة البكر ؟ ببساطة ، قد سقطت كل دموعي في صباي .
نفس الشيخ الذي دفن أختي، هو الذي يتكلف بـ مراسم دفن أمي ، لكنه تغير كثيرا ؛ أصبح عجوزا يلهث ويسعل ، لقد أزمن ، صار يجتر شيخوخته بين المقابر ، في صباي كرهته ، لأنه دفن أختي .

- هل أنت عمر ؟
- نعم يا شيخ ، وهذا أخي هشام
- لقد تغيرت كثيرا يا عمر 
قلت له في خيالي : لا يغرنك مظهري هذا أيها الشيخ ، ولا هذه النظارات التي توحي بالعلم . فمازل عمر أسير الماضي ، وعبير الأماسي ترفض أن تطلق سراحي .

تذكرت كلام الشيخ بعد دفن أختي :  "  لا تقل رحمها الله ، بل قل تقبلها الله صالحة.. عندما تكبر ستعرف .. لا تحزن ، أختك أصبحت عصفورة تطير في الجنة  "..   فكرت : لو مت في صباي لكنت الآن أحلق في الحنة ، مع أختي .
رحل الجميع ، بقيت أنا وأخي هشام، الذي تغالبه الدموع
- لا ﺗﺒكي يا أخي على جسد أمي ، فقد ووري تحت الثرى ، وأصبحت كأنها لم تكن ، هي الآن مع أبي عند ربهم يتخاصمون ، أختي صارت عصفورة تحلق في الجنة ، أنا وأنت ، سنختار ماذا سنكون .
كفاك بكاءا . أعدك أني سأغير  واقعنا ، والذي يعظم علي منه ، سأغيره بالأقلام ، كفاية على الأوراق، وإن كان الثمن عندنا، يكون مرعبا .  لكن.. لا تخف على أخاك ، فلا شيء يرعب ابن فتات الخبز مثلي ، فلا  تراب هنا  ولا العقيان ، أنا ؟ كيف أنتهي وليس كيف أبدأ . سواء فهمت أو لم تفهم ، هيا فلنرحل من هنا   .




بنصالح

تعليقات

  1. عبدالرزاق ايدر16 أكتوبر 2018 في 4:20 م

    اخيرا قصة حديثة لصديقي محمد كيف اصفها او بالاحرى كيف احللها دعني اقول لك انك لاتتغير في كتاباتك نفس الاسلوب نفس النقد ثم الام في النهاية لكن هذه المرة النهاية اقوى بكثير بل هي اقوى نهاية قراتها لك اخي (فلا شيء يرعب ابن فتات الخبز مثلي ، فلا تراب هنا ولا عقيان ، أنا ؟ كيف أنتهي وليس كيف أبدأ . سواء فهمت أو لم تفهم ، هيا فالنرحل من هنا ) نهاية مدمرة ايها البنصالح عن التحدي ومواجهة الفقر والفساد ومن يعتبر نفسه من العقيان والفقراء هم التراب لا الانسان هو الانسان
    respect خويا

    ردحذف
  2. صديقي العزيز عبدالرزاق.. في البداية أعتذر منك عن التأخر في الرد ،وأمام العالم ، ها أنا أفعل ^^ هنا و أيضا على الفيس بوك ، أعرف أني تماديت كثيرا لكن رغما عني يا أخي العزيز ؛ فمشاغل الحياة هوت بي حتى صرت لا أفتح النت سوى ليلا ، وما هي إلا هنيهات حتى يلقي علي النوم جلبابه الثقيل .. هل تصدق إن قلت لك أن لدي في الفيس بوك أكثر من مئتان إشعار بانتظار التفقد.. وبالمناسبة أنا لم أعد أكتب في صفحة الفيس بوك المعلومة عندك.. وفي الأخير أتمنى أن تعجبك القصة.. ومازال بنصالح كما تعرفه ؛ صعلوك متمرد ^^
    حياك الله

    ردحذف
  3. أنا من موقع كابوس بحث عن مدونتك وفرحت عندما وجدت فيها الجديد أنت كاتبي المفضل و قد تعلمت منك ومن أسلوبك وسأنشر قصة قريبا في موقع كابوس قصتك هذه لم أفهم مغزاها جيدا فهي غامضة قليلا لكنها رائعة وأعجبني أكثر النص المتعلق بي سارة أو نصف أعمي

    ردحذف
  4. أهلا بك أخي / أختي
    شرف لي أن أكون كاتبك المفضل وإن شاء الله أبقى عند حسن ظنك ، وأتمنى لك التوفيق في مجال الكتابة.. ذكرت أنك سنتشرين في موقع كابوس ، هذا جيد وأنصحك شخصيا بذلك، فالموقع مليئ بالمواهب ، صحيح أنهم مبتدئين لكنهم موهوبين، يحتاجون فقط إلى التشجيع لتقديم الأفضل في مجال القصة القصيرة ، وأنا قرأت عدة قصص هناك .. أما هذه القصة ، كتبت أنها ( غامضة ) : صراحة لا أجد فيها أي غموض، لذا أدعوك لقراءتها مرة أخرى .. شكرا لك ومرحبا بك في مدونتي المتواضعة .. حياك الله

    ردحذف
  5. لديك قدرة على تصوير المشاهد في اسطر و نقل الاحاسيس الى القارء , حييت اخي , انت موهوب استمر
    لكنني انا الاخرى مثل عمر لم افهم ماذا يعني الشيخ عندما قال " تقبلها الله صالحة "
    تحياتي و اتطلع لقراءة المزيد

    ردحذف
  6. أهلا بك أخي / أختي
    أشكرك على اعجابك بما أكتب ، وإن شاء الله أنشر المزيد في قادم الأيام.. أما عن سؤالك لماذا قال الشيخ ( تقبلها الله صالحة ) : لأن هنا الميت صبية لم تذنب ، واتفق العلماء أنه لا يستحب الدعوة بالمغفرة للصبي الميت ، لذا الصبي مصيره الجنة لأن الله لا يظلم أحد ، وهذا ما جعل الشيخ يقول تقبلها الله وليس غفر لها الله . والله أعلم .. حياك الله

    ردحذف
  7. لم أكن أعرف هذه المعلومة , شكرا لردك

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -