فوق رماد الرجال

قصة  قصيرة : محمد بنصالح



- عيونها واسعة، شفتيها حمراء، قوامها رشيق، أنيق، إنها تحبني، تحبني
أشعلت سجارتي بأخرى فانية
- أنت تكذب يا أسامة، تكذب

مسكين ، جننته إحداهن .. كان يقول لي : أنا مع المرأة أتحول إلى شيطان.

فتحت أول زجاجة
- هاك.. اشرب يا أسامة ، واترك عنك أجساد النساء ، دع خيالك المجنون يستريح
- أنا لم أكن أكذب ، أنت الكذاب الوحيد هنا
- اشرب، واصمت
- إنها من عائلة غنية و عريقة، لم لا تصدقني؟
- تقصد نفرتتي !
- اللعنة

عجوز ألقى التحية على أسامة وجلس في طاولتنا ؛ بدأ يدخن ويسعل، يسعل ويدخن :
- من يكون هذا يا أسامة ؟ كح كح كح...
- إنه صديقي عدنان
- كح كح...
- إنه كاتب
- لم أرى في حياتي أديبا يرتد الخمارات كح كح..!
أكملت كأسي بخفة :
- ويستلهم فيها أيضا
- إذن تكتب عن شعر العاهرات
- لا، بل سيقان الغوريلات
- كتاب أخر الزمان

لقد انتهى ليل هذه المدينة مع نهاية الستينات. هكذا يقول العجوز كل حين.. بدأ يتحسر على أمجاد ماضيه ، على الذكريات المهزومة
- ليلنا ليس مثل ليلكم يا شباب اليوم، أنتم لا تعرفون شيئا عن الليل
- إنه عندي مديد، يعظم  على من يجتر شيخوخته جاهلا. أيها الوجه الذي لطخته الأزمان، أيها المراهق ؛  لست أنت في مقامي ، أنا؟ يا بعد منك وإن كنت جالسا جنبي، وتقرأ كلماتي ؛ فمن هنا أبث هواي لليلاي.
- لم أفهم
- ولن تفهم
- أولم أقل لك يا أسامة ؛ إنه من كتاب أخر الزمان
ابتسم اسامة نافتا أدخنته :
- ما رأيك أن يكتب عنك رواية؟  إنه عبقري، يجيد وصف حياة البائسين أمثالك
- لكن البؤس الذي أحمله قد يفوق قدرة قلمه.. أنا اﻵن أحاول النسيان بالأحلام ، أحلم ليل نهار . فلا يحلم سوى الفقراء

فكرت. العجوز قال شيئا مفيدا أخيرا : " لا يحلم سوى الفقراء" إنه على حق. تساءلت في نفسي : ياترى، بما يحلم الأغنياء؟  امتلاك كسرة من السماء، مثلا..
- فقط تكلم أيها العجوز ، أخبرنا عن قصتك ؛ وماذا عن بؤسك ؛ وأعدك أن قلمي سينفجر واصفا آلامك
- أنا ضابط..
- ماذا؟ ضابط ! أسامة نحوى الباب
قال أسامة :
- سابقا سابقا
- أنا ضابط في الجيش سابقا ، لكنهم جردوني من رتبتي ، وانتهى بي الحال كما ترى.
- كيف ؟
- لقد قضيت في معتقل سري  عشر سنوات ظلما ، لا ذنب لي سوى أنهم جعلوني كبش فداء لغيري .. الزنزانة لا نور فيها ، فقط ظلام لمدة عشر سنوات.

»  كان طموحي لا تقدر عليه الجبال، وفي ذات صباح ؛ انفلت كل شيء ، كان وداعي الأبدي مع وهج الشمس . في ذلك الصباح ؛ انتزعتني فجأة أياد قدرة من حضن دنياي ، أحلامي ، سبيلي الذي رسمته لنفسي.. لتطرح بي في زنزانة معتمة، قدرة، يفوح منها وخم الجحيم ؛ لتكفير على ذنب الآخرين . هنا، وجدت نفسي كأن لا ماض لي، كأني ولدت الساعة..  الليل هو الأبد ، ما عاد النهار في وجودي ، حتى بصيص ضياء، شرارة الحياة ، لقد سحق النور . حاولت أن أمحي الأمس من حياتي ؛ ذاك ليس أنا ، وهذا ليس هو ، أبدا لم يكن . »

- أكمل
- ألمي بي مرض شديد ، حتى ظننت أني سأموت ، لم أتلقى أي علاج ؛ أتألم فقط

« الموت هنا ، على جنبي اليمين ، أو اليسار ، ورائي ، أمامي ، إنه هناك يشتم أنفاسي.. أراه في العتمة عاكف لا يرتوي ،  والألم يمزق عظامي ؛ دمائي ، وأنا عارك أستبقي الحياة ، حتى نشأت إلفة بيني وبين الآلام .. سأموت اليوم ،أو غدا ، الموت ما عاد يرهبني . في الصباح ستسمع صوت المعاول والرفوش ، سيدخل إلى زنزانتي رجلان، سيحملان جسدي ليطعموه إلى التراب، جسدا ما عاد ينتمي لبشر . غدا، سيرحل الموت من هذا الجرف الهار ، سيشعر بالرهبة وحيدا هنا، بعدما كان ينزع ببطئ أنفاسي »

- لا تشرب كثيرا ؛ أريدك عاقلا ، أكمل
- خرجت من المعتقل السري بعدما قضيت فيه عشر سنوات
- قلت لك لا تشرب . وبعد؟ هل تلقيت التعويضات؟
- أبدا ، بل نكرو حصول ذلك، ومازالوا ينكرون، لكني لم أنسى بعد ما حصل، رغم مرور أكثر من أربعين عام .

» إنه كذاب ، يكذب ، بئس الكذابين! هذا لا يحصل عندنا ، أبدا . ماذا؟ معتقل سري! إنه من صناعة أعدائنا ، كيد الأعداء ، بلدنا يحترم حقوق الإنسان. ماذا؟ معذبون! من هذا السفيه الذي ادعى هذا القول، خسئ وخسئت أمه ، بلدنا بأحسن الأحوال بقيادة مولانا، فخامته، سعادته .. هكذا تم تمويه العار، لم يعد للماضي عندهم وجود ، لكن. من ينسيني أنا؟ آه، ذاكرتي، حبيبتي، عدوتي، التي أغدو معها إلى كل مكان. كيف السبيل لنسيان ، كيف بي أطمس الماضي وذي الأطلال.. آه، على عمر ضاع فداءا لأموات، فزاعة للمتمردين صرت أنا ، لا، بل صنعوها مني ، ثم أسدلوا علي ستائر النسيان.
فيا أيها المتفائلون بغد محذلق : وهم ، أحلام يقظة ، غريق يناجي البر في أعالي البحار.. فيا أيها المتشائمون : ففي موطن الفخر والوعود، يموت البؤساء جوعا..
ويبقى أنا، إنه أنا وحدي المعترف بالماض. أصونه هنا، إنه في مأق عيني محفوظ حتى تنظفئ في نسمة الحياة.. يوما ما سأنفجر شاعرية، أشجاني ستملأ أوراق العالم، سيكون هذا انتقامي الوحيد، وإلى ذلك سأبوح لنفسي، أواسي حالي بحالي ، أنا اكليل وبلسم لذاتي شافي ، مصابي جلل لكن، غصة.. آه، من الرماح والنبال، تدق في حظني على أيامي التى سرقها شذاذ اﻵفاق ، إنما حقي محفوظ عند الله. »

- يكفي، لقد صرت حاقدا
قال أسامة :
- ما هو العنوان الذي خطر لك في البال يا عدنان
- فوق رماد الرجل
قال العجوز :
- اللعنة ! لقد ذكرتموني بالماضي كح كح كح ، هل أنت متأكد يا أسامة أنه كاتب ؟
قلت :
- الآن ابتلع وتقيأ الدخان أيها العجوز واصمت

***

حضر النادل . تذكرت. إنه آخر الليل ؛ بل هي مباهج الصباح ، كيف نسينا أنفسنا إلى اﻵن؟ تبادلنا أنا وأسامة النظارات، العجوز لم يفهم شيئا .
في كل ليلة نقضيها أنا وأسامة في حانة مختلفة ، وعند احتضار الليل ننسل هاربين وهكذا تتعاقب الأماسي ، إلا هذه الليلة.

النادل قال باحترام :
- الحساب من فضلكم ، الحانة ستغلق أبوابها
أشعل أسامة أخر سجارة يملكها وقال لنادل :
- إنه كاتب كبير ألا تعرفه ؟
- أي كاتب
-  عندما ينته من روايته الأولى وينشرها ويربح منها ، سيدفع لك بل ويزيد
قلت :
- هل تعرف الأديب المنفلوطي ؟
- ماذا به ؟
- إنه من مدرستي
انفعل النادل
- أنا لا يهمني سوى الحساب
- لا تغضب ، كم هو الحساب هذا يا ترى ؟
- ألف وثلاث دراهم
- حسنا ، سنعطيك الثلاث دراهم، وندين لك بألف
- هاا؟
قال العجوز :
- أديب مفلس !  كح كح كح هيا أيها الكاتب؛ صف هذا المشهد ؛ ألا يستحق ؟!

شربت من عنق الزجاجة أخر ما تبقى منها من طعم الليل، وأدخلت لساني لأصطاد أخر قطرة ، وقلت لأسامة :
- هذه المرة ؛ فرقعنا في الوخ !
ضحك النادل ساخرا وقال :
- إذن لا تملكون المال
- في الحقيقة ؛ الأمر كذلك
- لا بأس ، ستغسلون الأواني
قال أسامة :
- أنتم لا تجيدون التعامل مع الزبناء المرموقين
قلت :
- مجرد حضور أديب عملاق  مثلي شرف لخمارتكم ، وأنت ذا تطلب مني الحساب !
قال العجوز :
- كح كح كح .



اقتباس :
« "لا يحلم سوى الفقراء".. إنه على حق، تساءلت في نفسي : ياترى، بما يحلم الأغنياء؟  امتلاك كسرة من السماء، مثلا .

« في موطن الفخر والوعود ؛ يموت البؤساء جوعا .


بنصالح - طنجة

تعليقات

  1. رائعة القصة انت كاتب تعرف كيف تتحكم فيما تكنب بطريقة لا يجيدها سوى الكتاب الكبار وموت من الضحك هههههههه قال العجوز كح كح كح ههههههه

    ردحذف
  2. بارك الله فيك زائري الكريم.. مرحبا

    ردحذف
  3. .....بماذا يحلم الأغنياء؟...بكسرة من السماء مثلا؟
    يالله كم في هذه الكلمات من معانٍ توجع القلب الموجوع أصلا..
    القصة جميلة،مميزة..بها بعض الكوميديا السوداء..رائع أخي محمد..
    ننتظر جديدك دائما..:)

    ردحذف
  4. مرحبا زائري الكريم.. نعم تلك العبارة التي تذكرت جد معبرة؛ لا أعرف كيف خطرت ببالي؟ شكرا لك أخي / أختي وإن شاء الله أبقى عند حسن ظنك.

    ردحذف
  5. هذه أنا جارتك الشرقية:)
    لكن سؤال لماذا لا تشترك ببضع قصص في كابوس كالتراب والعقيان راائعة..
    ليس الجميع يعلم بمدونتك ولا يستطيع الجميع أيضا التعليق بحساب غوغل،لا تكن بخيلا..هههه..واعذر إزعاجي،لكن يجب أن تتعود عليه..فليس يشغل وقت فراغي سوى القراءة...وأحيانا بعض الخربشات القصصية هههه..
    شكرا على ردك:)

    ردحذف
  6. أهلا بك من جديد جارتي العزيزة. سؤال يطرح نفسه لماذا لم أنشر هذه القصص في موقع كابوس؟ صراحة لا أعرف ربما اكتفيت بما نشرت هناك. لكن طبعا سأعود يوما أعدك. تقولين ازعاج ^^ أي ازعاج يا سيدة حطام؟ ههه مدونتي اعتبريها مثل سطح منزلكم^^.
    تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -