زلزال أكادير .. فناء وميلاد مدينة



أكادير، بالأمازيغية "الحصن"، هي عاصمة جهة سوس، والأمازيغ.. المدينة الحديثة التي تعيش زهور عمرها في المغرب، فهي بالكاد تجاوزت نصف قرن، لتشكل الاستثناء في المدن المغربية الكبرى.. إلا أن أكادير ليست أقل شأنًا من عراقة فاس ومكناس، حتى يوم ماتت فيه المدينة التارخية، وبعثت من رمادها مدينة شابة. أكادير التي حبها الله بموقع جغرافي متميز، وهي جوهرة عقد المدن المغربية على ضفاف الأطلسي، وتحتكر لنفسها مناخ معتدل طيلة السنة، الذي لا يتجاوز 18 درجة في المعدل، ووُصفت بميامي شمال أفريقيا، بشواطئها الذهبية التي تمتد على طول محاذاة المدينة.. وفي الجهة المقابلة تطل غابات أشجار الصنوبر والأوكالباتوس والطرفاء، تبث ربيعًا دائمًا لأكادير.. في الأربعينات والخمسينات، كانت أكادير تعيش في أوج التمدن، وهي مجمع الثقافات، الأمازيغية الأم، ثم العربية، مسلمين ويهود مغاربة، وأقليّة نصرانية.. المدينة تنضم مهرجانات كثيرة على طول العام، مثل مسابقة اختيار ملكة جمال البرتقال، وعيد البحر التي تقام فيه مسابقات مائية، وعيد سمك السردين الذي يختم موسم الصيد، وعند ذكر سمك السردين؛ فإن أكادير تحتضن ثاني أكبر ميناء لصيد سمك السردين في العالم. هي لمحة من أكادير، قبل أن يغتالها الزلزال.

في ذات ليلة عند بعض مناطق وسط المغرب، أصاب الناس الخوف والهلع بعدما اهتّزت الأرض تحت أقدامهم، وبعد دقائق استعاد فيه الناس أنفاسهم، ثم وصلت أخبار متضاربة، مفادها: زلزال ضرب مدينة أكادير، وانهارت بعض البنايات، وقضى فيها الناس. في الصباح أعلنت الصحف المغربية أن أكادير تحت الأنقاض، ويُتوقع أن عدد الضحايا لم يعرفه المغرب في تاريخه.. في اليوم الموالي نقلت وسائل الإعلام العالمية أخبار أكادير، التي وُصفت بمدينة منكوبة جراء واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في القرن العشرين. هي ذات ليلة رمضانية لن تُمحى من ذاكرة الأكادريون والمغاربة عامة.. في تاريخ ليلة 29 فبراير 1960، بينما المسلمون كانوا يستعدون لصيام يوم الثالث في مضان، واليهود يقضون ليلة ساكنة من ليالي أكادير التي تحتضن الربيع في شباط قبل ميعاده، والسياح متوزعين على فنادق المدينة الكبرى، وقاعات السينما ممتلئة بعشاق الفن السابع، هكذا أمسية أكادير برتابتها تمر بهدوء، حتى وصلت عقارب الساعة إلى الحادي عشرة ليلاً وأربعين دقيقة، تكسر السكون وتزحزحت أكادير من مكانها، لتعانق الأرض، وتصاعد الغبار إلى السماء وشكل غمامة تحجب المدينة المدمرة، التي انقلب سكونها صراخًا وآنينًا تحت الأنقاض، جراء زلزال ضرب المدينة، بلغت درجته 7.5 على سلم ريشتر، الذي يبدو متوسط الشدّة؛ إلا أنه خلف دمار هائل، إن لم نقل شامل.. كان مركز الصدع الجيولوجي في جنوب المدينة، على طول وادي تضلي. في الصباح استيقظ المغاربة على فاجعة إنسانية، وتهيّؤوا لتشيّيع مدينة أكادير، التي صارت تحت الرماد تفوح منها رائحة الفناء، وبعد أيام أخرى تم احصاء عدد الضحايا، الذي تجاوز سقف خمسة عشرة ألف قتيل، مسلمين ويهود وسياح أجانب، وخمسة وعشرين ألف جريح، وأزيد من خمسة وثلاثين ألف بلا مأوى، ودمار ثلثي مباني المدينة بالكامل، والباقي انهار جزئيًا، وتم اخلاء المدينة المقتولة بأكملها خشيّة تفشي الأوبئة، وبلغت خسائر المالية، أزيد من ثلاثمائة مليون دولار.. وفي زمنها لم يكن المبلغ بالهيّن مقارنة مع اليوم.  هي خمسة عشرة ثانية من الزمن، التي كانت كفيلة لاغتيال مدينة.

الملك محمد الخامس، وأحد الجرحى

كان ميناء أكادير الأقل ضررًا، وصمد في وجه الزلزال، ليتّحول بعدها إلى مأوى للناجين.. بينما "أكدير أوفلا" أو (أكادير الأعلى) الذي يعتلي رأس جبل يطل على البحر، قد دمره الزلزال بالكامل، وأحياء كثيرة في المدينة أتى عليها الزلزال ولقت نفس مصير أكادير أوفلا. حضر الملك محمد الخامس إلى المدينة وترأس لجنة خليّة الأزمة، وتجند الجميع لأجل مدينة أكادير التي تقبع الآن تحت الرماد، وتم مسح المدينة ودفن آلاف البشر، وتقديم العلاج لآلاف أخرى، وأوجدوا المأوى لعشرات الآلاف.. فما بقيّ من أكادير سوى صور حزينة تحكي على مأساة إنسانية قدرها الله ذات أمسية والناس فيها يتهيؤون للصيام، وخمد نور جوهرة الأمازيغ التي كانت ترسو قرب أمواج الأطلسي.

أكادير .. مدينة رماد


يقول الملك الراحل محمد الخامس: "لئن حكمت الأقدار بخراب أكادير؛ فإنّ بناءها موكل إلى إرادتنا وعزيمتنا". رفض الملك تقبّل فكرة موت أكادير، وكان يُصر على جعل من تلك الأنقاض مدينة منبعثة.. ومنذ ذلك الوقت، لُقبت أكادير بمدينة الانبعاث. فبدأ العمل على انجاز المهمة وبعث أكادير من مرقدها، ومرت السنوات وأتى ملك جديد، الحسن الثاني، الذي وجد نفسه ملزمًا بالوفاء بعهد والده، واستمر في بناء أكادير.. وقد سلمت الدولة الأراضي بالمجان لكل المتضررين من الزلزال، وتم مساعدتهم على بناء منازلهم ومشارعهم في المدينة الجديدة، التي تم بناءها على بعد أربع كيلو مترات من  المدينة القديمة، وتم إنشاء مركز المدينة، وأسواق كبرى، وبناء واحدة من أرقى الجامعات المغربية في أكادير، جامعة ابن زهر، ثم تجديد ميناء المدينة، وعلى جانبه بناء أكبر مرسى لصيد السمك في البلاد، وعلى الجوار تم تجهيز آلاف الهكتارات من الأراضي للزراعة.. كل هذا وغيره بينما كانت عقارب الزمن تركض لمعانقة القرن الواحد والعشرين.. وقبل وصول تلك العقارب؛ كانت أكادير قد صارت مدينة الانبعاث.

أكادير .. مدينة الانبعاث


أكادير اليوم، قد بُعثت من رمادها كالعنقاء، ونفضت عنها غبار الفاجعة، واستعادت الجوهرة أناقتها، وهي عاصمة أكبر جهة في المغرب، جهة سوس بلاد أمازيغ الجنوب. أكادير، ثالث قطب اقتصادي في المغرب، بعد مدينتي كازابلانكا وطنجة، وتملك ثاني أكبر ميناء في المملكة بعد ميناء طنجة المتوسط، وهي ثاني أكبر مدينة سياحية بعد مراكش.. هي المدينة التي تأكل من خيراتها أوروبا وأفريقيا الغربية، حيث تصدر أكادير سنويًا ملايين الأطنان من الخضروات والفواكه والأسماك، إلى أوروبا وأفريقيا.. هكذا بعد الفناء، أتى الانبعاث.


تعليقات

  1. لا حول ولا قوة إلا بالله ، يالها من كارثة طبيعية ، تخيل 15 ثانية مات فيه 15 ألف إنسان ، كل واحد له عائلة صغيرة وكبيرة ، دون ذكر الجرحى ومن فقد منازلهم ومحلاتهم ، ما شاء الله

    الجميل أنا أكادير وقفت من جديد وتستحق بجدارة لقب مدينة الإنبعاث

    ردحذف
    الردود
    1. حسابيًا مات ألف شخص كل ثانية ! وهو رقم هائل.. نعم أتخيل حجم المأساة، 15 ثانية فقط انهارت فيه المدينة، والبلد حينها بالكاد ينفض غبار الاستعمار ويعيد بناء المؤسسات وتجديدها، ثم ماذ؟ مدينة كبرى دمرت في 15 ثانية !. قدر الله وما شاء فعل.

      نعم، أكادير اليوم مدينة الانبعاث..

      تحياتي.

      حذف
  2. على قدر ما أحببت المقدمة وتشوقت لزيارة أكادير الجميلة على قدر كانت صدمتي بالكارثة التي حلت عليها .. والله أوجعني قلبي وكأنها لم تحدث في زمن مضى.. أجمل شيء أنها لم تمت وانبعثت من جديد وبقوة أيضا.. هنيئا لك بمدينتك الرائعة يا بنصالح🙂

    تحياتي لك:)

    ردحذف
    الردود
    1. ولهذا كانت الصدمة كبيرة بعد واقعة الزلزال ودمار المدينة، لأن المدينة وقتذاك كانت تعيش أوج التدن، وتلك الفاجعة كادت تنهي المدينة، لولا وعد الملك الراحل محمد الخامس؛ كنا لنكون اليوم دون أكادير.. عموما كما قلتِ بعثت من جديد وهذا هو الاهم رغم الحسرة، لأنها كانت لتكون أفضل وتتجاوز بعض المدن في الاقتصاد والسياحة.

      بارك الله فيك.. وشكرا ^^

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-