ما أفسده الدهر
قصة قصيرة : محمد بنصالح
يتقاذفني الليل وأنا وحيد في المشوار.. لم يبق لي سوى الذكريات المهزومة ، الماضي الخداع ، الذي أكذبه الأمس غدوت اليوم أصدقه. شبابي انذثر فجاة وطال المشيب وجهي. أزمنت. أجتر شيخوختي إلى اللامكان. فقد ليل المدينة جماله، سكره المجنون ، لم يعد سوى أشباه الليليون ، حتى النهار ما عاد يعرفني. أجلس أمام المحيط وعباب البحر يلسع سيقاني ، أفكر أن أستعيد أيام شبابي ؛ يوم كنت أنا هو أنا ، أما هذا هنا فليس أنا .. تلك السجارة، مشتهاة في الزنزانة ، حلم المقيد يتجلى في الحرية ، الضرير يشتهي بصيص نور ، حلمي أنا : أن تعود الدنيا كما أعرفها، او ربما أعود أنا كما تعرفني. ثم سخرت من نفسي ، كيف بي أجد السبيل لأعود إلى عبير الأيام ؟! . إنها أحلام أردل العمر، أو بئس المصير. جلست في مقهى تواجه البحر ، أدخن وأنظر إلى ذاك الوحش الأزق الناشر نفسه هناك، وبينما أتجول بنظري، قطعت وحدتي عجوز ترمي بسماتها إلي ، تضع مسحوقا رديئا على وجهها ، إنها تعيش على ذكريات شبابها . تجاهلت نداءات عيونها ؛ ولعنتها في قراراة نفسي. رجلان أمامي يتجادلان في بينهما؛ ثم أخرج أحدهما من جيبه أوراق اليناصيب و قال لصاحبه : آه، لو كان هذا الرقم هنا والآخر هناك، لاربحنا. ثم أعاد الأرقام إلى جيبه متحسرا.. فكرت. أنا تلك الأرقام الخاسرة ؛ كانت لتكون لولا.. ثم لولا . العجوز الباسمة قد تشجعت - أو تمادت - وجاءت إلى طاولتي :
- أراك وحيدا مهموما ؛ هون على نفسك
- شكرا
ابتسمت ببلاهة :
- لا شكر ؛ إني فقط أهتم لأمرك
مستغربا :
- منذ متى؟
- منذ أن تركتني وكسرت قلبي
- أنا؟
- أجل، أنت
- لكني لا أتذكرك؛ هل لك أن تذكرني؟
- انظر إلى عيناي
- لا شيء غير البؤس فيهما
- لقد طال ذاكرتك النسيان يا حميد
هل قالت حميد؟ إذن العجوز تعرفني. أطفأت السجارة وسعلت بقوة :
- بعد كل هذا؛ أخبريني من تكونين
- لن أخبرك حتى تتذكر بنفسك
ورحلت.
أشعلت سجارة أخرى. المهم لقد حدث شيء جديد يستحق، ثم أتعبت ذاكرتي في نبش صور الماضي لعلي أعثر عن شيئا من تلك الملامح التي تحملها العجوز.. صورا كثيرة أغلبها يكسوها الضباب، وجوه بائسة، حقيرة، تتساقط في مخيلتي.. لقد نفخت الروح في ذي الأطلال، لا شيء من ملامح الماضي يطابق أو قريب من وجه العجوز. فكرت. إن التجاعيد مرسومة في وجهها كلأخاديد، لقد طمس الدهر ما كانت عليه. هل وجهي هذا يعادل نفسه عندما كنت في العشرين؟ أبدا لا. وكذلك العجوز ؛ فلا مراد في البحث عن تلك الملامح، طالما الزمان حرث فيها السنين.
في الغد عدت إلى نفس المقهى لعل العجوز تعاود الظهور. وكذلك كان، فلم يدم جلوسي سوى هنيهات حتى أطلت العجوز تتقدم باسمة من بعيد.. فكرت. ربما كانت تكذب وأنا أصدقها. إلا أنها تعرف اسمي ! لكن.. لقد وصلت :
- أرجو أن تكون قد تذكرتني
- لا وجود لك في ذاكرتي يا امرأة
- عجيب أمر الرجال، سهل عليهم النسيان
- إذا كان هذا صحيحا؛ فلأن النساء وقودا لنسيان
- أبدا ليس صحيح، والدليل هنا أمامك
لقد أخرستني، إنها ماكرة تجيد الردود
- هل أطلب لك شيئا لتشربيه
- اطلب من ماضيك الصفح، لعله يجود عليك بالعفو
لم يعد الأمر لعبة، إنها تقصد ما تقول؛ واثقة من كل حرف تنطق به. بدأت تثير أعصابي :
- أيتها العجوز، إن لي ماض أسودا قاتما، إذا كنت جزءا منه؛ فلا يزيد أنك بائسة حقيرة ضيف غير مرغوب فيه. هذا تعريف لك عندي لعله يشفي غليلك. ودعك مني، فأنا قد ابتغيت عنوة النسيان، فلا شيء من الماضي يمت بي، وأنا على حافة قبري.
فبكت !
- ثم ما بك تبكين؟
- وماذا يبكي النساء غير الرجال
- إذا كان الرجال يبكين النساء؛ فإن النساء يجننون الرجال .
فضحكت !
- ثم ما بك تضحكين؟
- وماذا يسعد النساء غير الرجال؟
- المال
- لو كان صحيحا لما وجدت نفسي أحاور مفلسا مثلك وأبتغي منه الذكرى
لقد أخرستني مرة أخرى
- ثم ماذا تكونين؟ بعد كل ما قيل وسيقال؛ أما حان الوقت لكي أعرف أي ركن من ماضي التعيس أنت
- لقد تاهت بك الأزمان يا حميد حتى نسيت زوجتك ؟!
ترجلت من مكاني مندهشا :
- زوجتي !
- أجل
- ماذا تقولين يا عجوز؟ لقد ماتت منذ أبعد السنين
- نعم ماتت في حياتك
فعدت جالسا :
- هذا ضرب من الحمق يا امرأة
- اسمعني أولا، ثم لك بعد أن ترمني بالحمق والكذب
أشعلت سجارة أخرى :
- أنا أسمعك
- إذا كنت تتذكر فقد تزوجنا وقد كنت في الثامن عشر وأنت في الرابع والعشرين، دام زواجنا ثلاث سنوات، حتى بدأت المشاكل بيننا، كنت تضربني وأنت سكير، وأنا كنت أعايرك بإفلاسك ، لكنك تماديت كثيرا بعدما اتهمني بالخيانة، ثم استحالت العيشة بيننا حتى هاجرتني تاركا ابنك في أحشائي، فكرهت أيامي معك ، فعدت بعد سنتان لتسأل عني، فأخبروك أني مت بحادثة سير،فهاذا كان مرادي؛ فلم أعد أريد أن أراك حتى وإن عدت إلى رشدك، فمرت السنين ولم أتزوج بعدك؛ فغدرت المدينة صوب أخرى لعلي هناك أعيش حياة أفضل، ذلك لم يكن، كانت نهايتي في أحضان الشارع، فعلمت أنك مثلي لا قريب لك ولا بعبد تقضي الليل في الثمالة وتنام في النهار، لكني لم أشأ أن أعود إليك، فقد كنت تعتقد أني ميتة، حتى وإن تعاقبت السنين وكلينا أزمن وشاخ وترهل، فقررت أن أعود لأسأل عن ذلك الذي كان زوجي، ولربما مازال ، فلم يتم الطلاق بيننا بعد.
فبكيت !
- وها أنت تبكي يا حميد
- عائشة
- أجل عائشة
- وأين هو ابني
- لقد مات في ساعة ولادته
اﻵن، أنا مسافر عبر نفق السنين في الواحد وخمسين عاما إلى الوارء، لأستعيد وجه عائشة الذي كان. كيف خانتني ذكرتي هذه المرة؟
- ثم ماذا يا حميد؟
- هل لنا يا عائشة أن نصلح ما أفسده الدهر
فابتسمت .
fin
ملاحظة : بعض من قرائي لأعزاء سألوني سابقا..لماذا أكتب كثيرا عن قاع المجتمع والذين تجرعوا من كأس البؤس حتى الثمالة، كل هذا وسط الليل و الخمارات؟ حتى أن البعض رأ في ذلك «تجارب كاتب» الحقيقة أني أجد نفسي في هذا النوع من الأدب الذي يعرف في المغرب بأدب الصعاليك، وفي بداياتي كنت متأثرا ببعض كتاب المغاربة المعروفين بهذا النوع، وكل هذا لا علاقة له بتجارب كاتب كما قال لي أحدهم، إلا أني ان شاء الله سأحاول التحرر من هذا النوع رويدا رويدا، والله ولي التوفيق.
يتقاذفني الليل وأنا وحيد في المشوار.. لم يبق لي سوى الذكريات المهزومة ، الماضي الخداع ، الذي أكذبه الأمس غدوت اليوم أصدقه. شبابي انذثر فجاة وطال المشيب وجهي. أزمنت. أجتر شيخوختي إلى اللامكان. فقد ليل المدينة جماله، سكره المجنون ، لم يعد سوى أشباه الليليون ، حتى النهار ما عاد يعرفني. أجلس أمام المحيط وعباب البحر يلسع سيقاني ، أفكر أن أستعيد أيام شبابي ؛ يوم كنت أنا هو أنا ، أما هذا هنا فليس أنا .. تلك السجارة، مشتهاة في الزنزانة ، حلم المقيد يتجلى في الحرية ، الضرير يشتهي بصيص نور ، حلمي أنا : أن تعود الدنيا كما أعرفها، او ربما أعود أنا كما تعرفني. ثم سخرت من نفسي ، كيف بي أجد السبيل لأعود إلى عبير الأيام ؟! . إنها أحلام أردل العمر، أو بئس المصير. جلست في مقهى تواجه البحر ، أدخن وأنظر إلى ذاك الوحش الأزق الناشر نفسه هناك، وبينما أتجول بنظري، قطعت وحدتي عجوز ترمي بسماتها إلي ، تضع مسحوقا رديئا على وجهها ، إنها تعيش على ذكريات شبابها . تجاهلت نداءات عيونها ؛ ولعنتها في قراراة نفسي. رجلان أمامي يتجادلان في بينهما؛ ثم أخرج أحدهما من جيبه أوراق اليناصيب و قال لصاحبه : آه، لو كان هذا الرقم هنا والآخر هناك، لاربحنا. ثم أعاد الأرقام إلى جيبه متحسرا.. فكرت. أنا تلك الأرقام الخاسرة ؛ كانت لتكون لولا.. ثم لولا . العجوز الباسمة قد تشجعت - أو تمادت - وجاءت إلى طاولتي :
- أراك وحيدا مهموما ؛ هون على نفسك
- شكرا
ابتسمت ببلاهة :
- لا شكر ؛ إني فقط أهتم لأمرك
مستغربا :
- منذ متى؟
- منذ أن تركتني وكسرت قلبي
- أنا؟
- أجل، أنت
- لكني لا أتذكرك؛ هل لك أن تذكرني؟
- انظر إلى عيناي
- لا شيء غير البؤس فيهما
- لقد طال ذاكرتك النسيان يا حميد
هل قالت حميد؟ إذن العجوز تعرفني. أطفأت السجارة وسعلت بقوة :
- بعد كل هذا؛ أخبريني من تكونين
- لن أخبرك حتى تتذكر بنفسك
ورحلت.
أشعلت سجارة أخرى. المهم لقد حدث شيء جديد يستحق، ثم أتعبت ذاكرتي في نبش صور الماضي لعلي أعثر عن شيئا من تلك الملامح التي تحملها العجوز.. صورا كثيرة أغلبها يكسوها الضباب، وجوه بائسة، حقيرة، تتساقط في مخيلتي.. لقد نفخت الروح في ذي الأطلال، لا شيء من ملامح الماضي يطابق أو قريب من وجه العجوز. فكرت. إن التجاعيد مرسومة في وجهها كلأخاديد، لقد طمس الدهر ما كانت عليه. هل وجهي هذا يعادل نفسه عندما كنت في العشرين؟ أبدا لا. وكذلك العجوز ؛ فلا مراد في البحث عن تلك الملامح، طالما الزمان حرث فيها السنين.
في الغد عدت إلى نفس المقهى لعل العجوز تعاود الظهور. وكذلك كان، فلم يدم جلوسي سوى هنيهات حتى أطلت العجوز تتقدم باسمة من بعيد.. فكرت. ربما كانت تكذب وأنا أصدقها. إلا أنها تعرف اسمي ! لكن.. لقد وصلت :
- أرجو أن تكون قد تذكرتني
- لا وجود لك في ذاكرتي يا امرأة
- عجيب أمر الرجال، سهل عليهم النسيان
- إذا كان هذا صحيحا؛ فلأن النساء وقودا لنسيان
- أبدا ليس صحيح، والدليل هنا أمامك
لقد أخرستني، إنها ماكرة تجيد الردود
- هل أطلب لك شيئا لتشربيه
- اطلب من ماضيك الصفح، لعله يجود عليك بالعفو
لم يعد الأمر لعبة، إنها تقصد ما تقول؛ واثقة من كل حرف تنطق به. بدأت تثير أعصابي :
- أيتها العجوز، إن لي ماض أسودا قاتما، إذا كنت جزءا منه؛ فلا يزيد أنك بائسة حقيرة ضيف غير مرغوب فيه. هذا تعريف لك عندي لعله يشفي غليلك. ودعك مني، فأنا قد ابتغيت عنوة النسيان، فلا شيء من الماضي يمت بي، وأنا على حافة قبري.
فبكت !
- ثم ما بك تبكين؟
- وماذا يبكي النساء غير الرجال
- إذا كان الرجال يبكين النساء؛ فإن النساء يجننون الرجال .
فضحكت !
- ثم ما بك تضحكين؟
- وماذا يسعد النساء غير الرجال؟
- المال
- لو كان صحيحا لما وجدت نفسي أحاور مفلسا مثلك وأبتغي منه الذكرى
لقد أخرستني مرة أخرى
- ثم ماذا تكونين؟ بعد كل ما قيل وسيقال؛ أما حان الوقت لكي أعرف أي ركن من ماضي التعيس أنت
- لقد تاهت بك الأزمان يا حميد حتى نسيت زوجتك ؟!
ترجلت من مكاني مندهشا :
- زوجتي !
- أجل
- ماذا تقولين يا عجوز؟ لقد ماتت منذ أبعد السنين
- نعم ماتت في حياتك
فعدت جالسا :
- هذا ضرب من الحمق يا امرأة
- اسمعني أولا، ثم لك بعد أن ترمني بالحمق والكذب
أشعلت سجارة أخرى :
- أنا أسمعك
- إذا كنت تتذكر فقد تزوجنا وقد كنت في الثامن عشر وأنت في الرابع والعشرين، دام زواجنا ثلاث سنوات، حتى بدأت المشاكل بيننا، كنت تضربني وأنت سكير، وأنا كنت أعايرك بإفلاسك ، لكنك تماديت كثيرا بعدما اتهمني بالخيانة، ثم استحالت العيشة بيننا حتى هاجرتني تاركا ابنك في أحشائي، فكرهت أيامي معك ، فعدت بعد سنتان لتسأل عني، فأخبروك أني مت بحادثة سير،فهاذا كان مرادي؛ فلم أعد أريد أن أراك حتى وإن عدت إلى رشدك، فمرت السنين ولم أتزوج بعدك؛ فغدرت المدينة صوب أخرى لعلي هناك أعيش حياة أفضل، ذلك لم يكن، كانت نهايتي في أحضان الشارع، فعلمت أنك مثلي لا قريب لك ولا بعبد تقضي الليل في الثمالة وتنام في النهار، لكني لم أشأ أن أعود إليك، فقد كنت تعتقد أني ميتة، حتى وإن تعاقبت السنين وكلينا أزمن وشاخ وترهل، فقررت أن أعود لأسأل عن ذلك الذي كان زوجي، ولربما مازال ، فلم يتم الطلاق بيننا بعد.
فبكيت !
- وها أنت تبكي يا حميد
- عائشة
- أجل عائشة
- وأين هو ابني
- لقد مات في ساعة ولادته
اﻵن، أنا مسافر عبر نفق السنين في الواحد وخمسين عاما إلى الوارء، لأستعيد وجه عائشة الذي كان. كيف خانتني ذكرتي هذه المرة؟
- ثم ماذا يا حميد؟
- هل لنا يا عائشة أن نصلح ما أفسده الدهر
فابتسمت .
fin
ملاحظة : بعض من قرائي لأعزاء سألوني سابقا..لماذا أكتب كثيرا عن قاع المجتمع والذين تجرعوا من كأس البؤس حتى الثمالة، كل هذا وسط الليل و الخمارات؟ حتى أن البعض رأ في ذلك «تجارب كاتب» الحقيقة أني أجد نفسي في هذا النوع من الأدب الذي يعرف في المغرب بأدب الصعاليك، وفي بداياتي كنت متأثرا ببعض كتاب المغاربة المعروفين بهذا النوع، وكل هذا لا علاقة له بتجارب كاتب كما قال لي أحدهم، إلا أني ان شاء الله سأحاول التحرر من هذا النوع رويدا رويدا، والله ولي التوفيق.
قصص جميلة و معبرة , اعجبتني هذه المدونة :)
ردحذفشكرا لك .. مرحبا
ردحذف