طيِّ النسيان -1-

قصة قصيرة، بقلم : وفاء سليمان - الجزائر


... وهاهو عام كامل قد مر.. كان بأيامه التي طالت هي عمر فراقنا، كدت بدايته أن أموت لبعده، خلت أن الحياة ستتوقف عنده ولن أستطيع إكمالها من دونه.. كان قلبي من حر فراقه قد تصدع، شوقي إليه كان يجلد ذاتي، يمزق روحي، يدمع عيناي فأفتح هاتفي على صورته لأمعن النظر بتقاسيمه علها تخفف عني جدا أشواقي .. فما يزيدني ذلك إلا نحيبا حد الانهيار.

تعذبت بعدها كثيرا كي أوطن فيها نفسي على التعايش مع ذكراه لا نسيانه، فنسيان حب تفتح قلبي عليه محال، سافرت، ابتعدت، حاولت أن أعود نفسي على غيابه، أن أفر من غرامي وأيامي وذكرياتي وأحلامي معه، أن أهرب من علاقة استنزفت جل عواطفي و طاقتي، خسرت لأجلها الكثير و تنازلت فيها عن الأكثر حتى تصمد.. ثم ما لبثت أن انهارت فوق رأسي .

ومع هذا ورغم كل ما حدث .. فإني ما ندمت على عشق ذلك الرجل الذي ورغم رحيله .. فإنه ضرب جذوره بأعماقي، استوطن خلايا جسدي فأصبح مني جزءا لن يفصل مهما تكالبت الظروف وتوالت السنين والأيام .

****‎
الفصل الأول

قبل أربع سنوات...

عتدلت واقفة بعد أن هزتني صرخة امرأة دوت من وسط قاعة استقبال المشفى.. تبعها عويل يقطع نياط القلب، اندفع على إثرها طبيب الإسعاف مع الممرضة لتلقي الحالة، وبقيت أنا شاردة لهنيهات وصدى الصرخة يرن داخل أذني قبل أستفيق على صوت همس أم حسام :
- ألديك عشرة دولارات يا زهرة؟، سأعيدها لك أول الشهر ..
حدقت في عينيها الذابلتين، خديها الغائرين ووجهها الشاحب.. رثيت لحالها لأني أعلمها أما لأربعة يتامى لا معيل لهم سواها فكيف سأردها خائبة؟،
مسحت يدي المبللة بمئزري المبقع ثم مددتها لجيب تنورتي وأخرجت منها خمسة دولارات وقلت لها :
- لا أملك غيرها يا حميدة ..
تلقفتها شاكرة وتركتني أفكر كيف سأعود لبيتي في ساعة المساء المتأخرة تلك.. انحنيت لألتقط الدلو والمكنسة ثم صعدت الدرج الذي كنت أنظفه لأضعهما في المستودع و أجهز نفسي للرحيل، بعد دقائق ارتديت معطفي وهممت بالرحيل لولا أن استوقفتني سامية وكانت ممرضة معروفة بالهذر و الثرثرة، كنت سأتجاهلها وأرحل لكنها صاحت قائلة :
- انتظري يا زهرة، لقد طلبت سيارة أجرة لتقلنا وسأدفع أنا.. أعلم أنك مفلسة.

ثم غمزتني ضاحكة فأيقنت أنها بالفعل لا تفوتها فائتة، شبكت ذراعها بذراعي و سألت :
- هل سمعت الصراخ قبل قليل؟.

-شيء تعودنا عليه يا سامية، تذكري أن هذا مستشفى.

ردت هامسة بعد أن اتسعت عيناها ورفعت حاجبيها كعادتها وقت تنقل أخبارا شديدة الأهمية:
- أتعلمين من التي كانت تصرخ؟، إنها زوجة مدير المشفى شخصيا.

تحرك الفضول النسائي داخلي فسألتها :
- حقا؟.. ولماذا كانت تصرخ؟.

ردت بتأثر مصطنع : ابنها بين الحياة والموت، حادث سيارة نجت منه هي.. أما المسكين فتحت رحمة الله .. إنه في العناية المركزة.. حالته خطيرة.. السيد عادل سيجن من الصدمة.

التزمت الصمت وأنا ألج السيارة، كانت خواطري مبعثرة ومزاجي مضطربا، فلم ألقي بالا لكلام سامية الذي لم ينقطع إلا بوصولها لبيتها.. بعد عدة أمتار توقفت السيارة بي أنا الأخرى أمام بيتي، ذلك المنزل التقليدي العتيق، ملاذي الآمن، كل ما تركه لي والداي وكل ما أملك في هذه الحياة .

‏‎****‎
بكوب من القهوة الساخنة تمددت على الأريكة بمحاذاة المدفأة وأرحت ساقاي اللتان كانتا تؤلمانني أشد الإيلام لكثرة الوقوف والتنقل في أرجاء المستشفى، ذلك كان ديدني كل يوم من العاشرة صباحا وحتى مثيلتها مساء، عمل مضن لأحصل قوت يومي في زمن فقدت فيه السند فلا أب كان لي ولا أخا، باستثناء شهادة معلقة على الحائط أضحك ساخرة كلما لمحتها، ورقة عولت عليها  لأعيش بكرامة فخذلتني .. اتضح لي أن هناك ما هو أهم، أشياء كثيرة لا  أخلاقية وغير محترمة وجب استخدامها لنيل وظيفة محترمة في القطاع الخاص، أما في حال كان وظيفا عموميا فأسفي على نفسي لا مال أدفعه ولا أصحاب سلطة ونفوذ أعرفهم لأستخدمهم كواسطة لنيل ما هو أصلا حقي، أغلقت كل الأبواب في وجهي فرضيت بالأدنى كي لا أموت جوعا بعد وفاة والداي.. توفيا عجوزين فقيرين، أنجباني بعد ثلاث وعشرين سنة من زواجهما ولم يبخلا علي بشيء قدر استطاعتهما، حتى لفظا آخر أنفاسهما لا يفصل بينهما إلا عدة أشهر ..
شغلت التلفاز لانتظار مسلسلي المفضل، ثم أخذت هاتفي الذكي الذي جمعت ثمنه لمدة تزيد عن العام حتى أستطيع ابتياعه، فتحت صفحة الفيسبوك خاصتي لأتابع آخر الأخبار ومنشورات أصدقاء افتراضيين لا يعرفون عني سوى أنني زهرة .. أستاذة الأدب الإنجليزي.. بصورة تخرجي التي لا تشبه ما كنت عليه حينها بعد ثمان سنوات .
****
في ذلك الصباح البارد دخلت المشفى مسرعة نحو غرفة العاملات ولم ألحظ البلبلة  الحاصلة هناك إلا بعدما تجهزت لأباشر عملي، سألت أم حسام عنها فأكدت لي أنها مثلي لا تعلم.. فقررت البحث عن (سي أن أن) المشفى سامية لتأكدي من أنها تملك الخبر اليقين، وجدتها خارج غرفة الممرضات فسألتها عن سر الاضطراب السائد فأجابت : 
- كلية ابن مدير المشفى تضررت بشدة في الحادث ولا بديل عن استئصالها، المشكلة أنهم إن فعلوا ذلك سيموت.

- هل تمزحين؟، يستطيع العيش بكليته الأخرى.. لا بل بثلثها فقط!.

لوت فمها بامتعاض :
- أنا لست غبية، ناهيك عن أنني ممرضة، المشكلة يا سيادة عاملة التنظيف أن تلك الكلية لا تعمل .. كان يعتمد على الأخرى .. والآن إن لله وإنا إليه راجعون .. المسكين سيموت شابا.

- يا لك من بومة!!.

 أسررتها في نفسي وسألتها :
 - ألا يجدون متبرعا من أسرته؟.

- يقومون بالتحاليل اللازمة لوالديه.

ثم انسحبت متذرعة بعملها وتركتني أدعو له صادقة بالشفاء و لم أكن أدري أن الأقدار قد كتبت أن تتحقق دعوتي على يدي، وأعيش قصة ما كنت أحسب أني يوما سأعيشها.

‏‎****     ‎

قال لي بملامح كساها الألم وصوت مشحون باليأس :
- سأعطيك أي شيئ تريدينه يا آنسة زهرة، لكن أرجوك أنقذي ابني الوحيد. 
 
لم تكن نتائج التحاليل إيجابية، وعلى ضوء ذلك أعلن السيد عادل كخطوة يائسة عن مبلغ ضخم لمن يقدم كليته لابنه من عاملي المستشفى كافة، ورغم أنه كان مديرها والمالك الوحيد لها، و كانت من أكبر وأعرق مستشفيات المدينة، فقد كان مضطرا لفعل ذلك لخلو بنك الأعضاء من كلية تصلح لابنه.. وعدم توفر الوقت الكافي له لأن الأخير يعيش على الأجهزة .. كنت من بين القلائل من عمال التنظيف والكافيتيريا الذين أجروا التحاليل، كانت الحاجة ما دفعهم لذلك، أما أنا فلم تكن المادة تهمني بتاتا، كنت وحيدة لا أحد سيفتقدني ولا شيء لأخسره سوى قطعة لحم الله فقط يعلم إن كنت سأحتاجها يوما، كما أن فكرة إنقاذ حياة شخص ستشعرني بأهميتي وأن لي قيمة في الحياة، لذلك أجبته وأنا منتصبة أمام مكتبه بكل ثقة رغم ملابسي البسيطة المتوارية تحت مئزر العمل الرسمي، وشالي الصوفي الذي  ألفه حول رأسي أيام البرد و الصقيع.. والذي يبديني أكبر من سني بكثير، ونعلي البلاستيكي المهترئ الذي أنتعله أثناء مناوبتي، كنت في موقع قوة أمام رجل مر بي كثيرا في ردهات المشفى ولم يلق لي بالا أو يقم لي وزنا كأنني نكرة، لحظتها أعجبني كوني أملك حياة ابنه، فكرت أن أساوم وأماطل قدر المستطاع، أن أجعله يرجوني أكثر، و يزيد المغريات أكثر لمجرد انتقام يرضي غروري، لولا أن صورته يائسا ذكرتني بوالدي أيام مرضه وشقاءه، استعذت بالله من شر نفسي فالحياة والموت بيده وحده سبحانه وقلت :
- ليس لي أية مطالب، سأقدمها له دون أي مقابل.

رفع حاجبيه دهشة ومرر يده على شعره الأسود الذي خالطه بياض الشيب على جانبيه وقال بصوته الجهوري وقد أصبح متزنا أكثر :

- اجلسي يا زهرة.

فعلت فأردف قائلا :
- ما الذي يدفعك لفعل ذلك، ابني ليس قريبا لك و أنت لا تعرفينه حتى؟.

سألته :
- كونك مقتدرا يا سيدي فعندما تريد أن تساعد محتاجا فإنك تفعل ذلك إما بالمال، أو من خلال قسم العلاج المجاني الذي خصصته بالمشفى .. أليس كذلك؟.

أومأ موافقا فأكملت :
- الحس الإنساني لا يقتصر على ذوي السلطة والمال، الإنسان البسيط مثلي يملك الرغبة بالعطاء أيضا، لولا قلة ذات اليد، الحصول على فرصة لفعل ذلك يسعدني وليس ضروريا أن يكون كل شيء قابل للبيع.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة و فتح ملفا أمامه قائلا :
- طالعت ملفك قبل قليل، لا أصدق أن فتاة متعلمة مثلك تعمل بالتنظيف.

بادلته بابتسامة هادئة :
- الحاجة مرة يا سيدي، كما أن العمل الشريف لا يعيب.

أغلق الملف وقال مؤكدا :
- عندما تقومين بالسلامة سأعيد النظر في أمر توظيفك وأجد لك مكانا يناسبك.

لم أرفض، فلن أخسر فرصة أن أتخلص من مهنة الشقاء تلك.. التزمت الصمت هنيهات وعيناي تحدقان بالأرض، ثم تذكرت شيئا، فالتفتت إليه لتصطدم عيناي به ينظر لي بغرابة، تملكني الخجل فعدلت شالي وقلت :
- في حال توفيت تحت العملية لأي سبب كان فلي طلب رجاء.

- لا قدر الله طمئني يا آنسة، الأطباء هنا من أكفئهم في البلاد، كما أنها عملية سهلة بالنسبة لك عكس ابني، فالزرع أصعب من الاستئصال .. و مع هذا اطلبي ما تشائين.

- هنا عاملة تدعى حميدة، تكنى بأم حسام، أرملة تعيل يتامى .. هلا خصصت لها مبلغا شهريا صدقة على روحي، وضعها صعب وتلزمها المساعدة.

- اطمئني .. طلبك مجاب، هذا وعد.. ولا داعي للقلق كما أخبرتك،  الآن لتتحدث في تفاصيل العملية .

‏‎****‎
مر أسبوع بعد انتهاء العملية، كنت في فترة نقاهة بغرفة خاصة مجهزة بأحدث العتاد الطبي، لم ينقصني شيء مطلقا بأمر السيد عادل، كان يزورني من حين لآخر ليطمئن عني. وقد تهلل وجهه أخبرني أن جسد كريم - وقد كان اسم ابنه - بدأ  يتأقلم مع الكلية الجديدة، كما لم يبخل علي بأسمى عبارات الشكر والامتنان. 

امتلأت غرفتي بالورود والهدايا، القليل من بضع زميلات أعرفهن والكثير كانت من أطباء وممرضات أعرف أنهم ما قدموها إلا تملقا وتزلفا لرب عملهم، ورغم بعض الآلام التي كانت تزعجني من آن لآخر، فإني كنت سعيدة بالاهتمام الذي حظيت به وكنت افتقدته منذ سنين خلت، وزادها سعادة فرحة أم حسام التي جاءتني دامعة لتعانقني وتقبل رأسي شاكرة حامدة الله على انتهاء عذابها، هدأتها وقد حيرني حالها :

- اهدأي يا امرأة وأخبريني ما الذي حصل.

سحبت كرسيا وجلست عليه وأبقت يدها على يدي وأجابت:
- فرجها الله علي يا زهرة، وكله بفضلك يا عزيزتي.

- بفضلي أنا؟!. 

- أجل .. لقد تضاعف راتبي مرتين، كما تعهد لي المدير بالتكفل بمصاريف المواسم والأعياد لأبنائي، لم أصدق نفسي وكدت أقبل يديه شكرا، سحبها قائلا  أن علي شكرك أنت.. فأنت من نوه لحالي أمامه.. أليس كذلك؟.

- آه.. أجل، ذلك لا شيء يا عزيزتي.

كنت جد سعيدة من أجلها، فأخيرا ستحل مشاكلها ويهدأ بالها، لكن موقف السيد عادل حيرني وجعلني أفكر فيه مطولا.

****

آن وقت العودة للمنزل بعد شهر كامل قرره السيد عادل دون داع.. لأني شعرت بتحسن كبير يجعلني قادرة على ممارسة حياتي بشكل طبيعي قبل أن يكتمل بكثير، أأثناء توضيب أغراضي داخل الحقيبة، دق باب الغرفة فأذنت للطارق بالدخول، كان السيد عادل بقامته المديدة و ابتسامته الهادئة ..

تملكتني فرحة عارمة لرؤيته قبل مغادرتي، فقد كان زائرا وفيا لي خلال إقامتي وإن كانت زياراته قصيرة لانشغاله .. ألفيته رجلا دمث الخلق متواضعا مثققا، عكس ما تخيلته من قبل.

قال لي ضاحكا:
- ستغادريننا إذن؟.

بادلته الإبتسامة وقلت مازحة :

- فقط لأيام قليلة.. سأعود بعدها لأجوب ردهات وغرف المشفى بعدتي، وسأباشر بتنظيف مكتبك أولا.

- هذا ماجاء بي يا زهرة ..قالها جادا ثم أدخل يده في جيبه ليستل ظرفا قدمته لي قائلا :

- هذا راتب الشهر الماضي.

فتحته فوجدت فيه أربعة أضعاف راتبي .. كنت سأعترض لكنه قاطعني :
- هذا حقك، عليك العناية بدوائك وغذائك جيدا الفترة القادمة .. كما تلزمك ملابس جديدة.

- نعم !!.

- من أجل وظيفتك الجديدة.. في قسم الترجمة هنا .. ألم أخبرك مسبقا؟.

رددت والدنيا لا تكاد تسعني من الفرحة :
- هل تعني أنني سأصبح أخيرا موظفة بشهادتي؟!.

استوى واقفا وربت على كتفي قائلا :
- تستحقين أكثر يا زهرة.. لولا عنادك فقط.. ستستلمين وظيفتك بعد أسبوع.. تجهزي وحمدا لله على سلامتك مجددا.

ثم تقدم نحو الباب ليغادر الغرفة، وضع يده على المقبض ليديره ثم توقف والتفت نحوي لتصافح عيناه العميقتان عيناي، رسم ابتسامته الهادئة مجددا على ثغره وقال:
- اعتن بنفسك يا زهرة، أراك قريبا.

ثم رحل بهدوء تاركا بقلبي وجعا لا أدري كنها له ولا سببا .

‏‎****‎
عدت إلى بيتي أخيرا، كان حنيني له كبيرا إذ لم يسبق لي أن فارقته من قبل ولو لليلة واحدة، أوصلني سائق السيد عادل ظهرا، شكرته ودلفت إلى إليه مسرعة لتستقبلني غرفة المعيشة الصغيرة، وضعت حقيبتي أرضا، جبت ببصري حولها أستكشفها وكأنني غبت عنها دهرا لا شهرا، وقع نظري على الصورة المعلقة على الحائط فتوجهت نحوها، حدقت فيها مطولا وأنا أمرر أناملي عليها، فرت دمعة شوق من عيني ثم ما لبثت أن استحالت عبرات اندفعت تنهمر كالمطر على وجنتاي، اتخذت أقرب مجلس لي محاولة تهدئة نفسي وكبح جماح دموعي المنسابة، لكنها أبت إلا أن تتساقط لتحمل معها كل ما يختزنه فؤادي من لوعة ووجع و أسى ومرارة، تذكرت ما لم أنس يوما، كيف أنني كنت زهرة ذابلة، بقايا شابة ببداية العقد الرابع من العمر، وحيدة في الدنيا، غريبة عن الناس، ربما لو كنت أملك شخصا يهمه أمري لما تركني أتخلى عن قطعة من جسمي، لخاف علي و منعني، هكذا مر بخاطري رغم أني لم أكن نادمة حقا لفعلتي، تمنيت فقط لو وجدت من يربت على كتفي، يواسيني، يسأل عن حالي، يحتضن ألمي ويقول لي أن كل شيئ على ما يرام وأنه لن يتركني، تذكرت حضن أمي ودفء حجر أبي، رحت أبكي وأبكي وأجتر ذكريات طفولة كانت آمنة، دافئة وحميمية .. أخذني النعاس فنمت جالسة بدمعي على خدي.. ولم يوقظني إلا صوت رنين الهاتف لأجدني نمت لما يفوق الأربع ساعات، أمعنت النظر بالرقم فوجدته غريبا، فتحت الخط وسألت عن هوية المتصل ليجيبني :
- آلو .. أهلا زهرة هل أنت بخير؟.

- سيد عادل!.

رغم آثار النوم المطبقة علي إلا أني لم أخطئ صوته الجهوري المميز.
  
-أجل .. اتصلت لأسأل إن كنت بخير وإن كان ينقصك أي شيء.

اعتدلت في جلستي وكأنه كان أمامي وأجبته :
- الحمد لله .. لا ينقصني أي شيء وكله بفضلك.

- لست بذي فضل يا زهرة بل العكس، تذكري هذا دائما.. عموما هذا رقمي الخاص وإن احتجت لأي شيئ اتصلي بي دون تردد .. واسمحي لي بالاتصال بك كل فترة للاطمئنان عليك.

- بالطبع، أكيد.. هذا شرف لي و شكرا جزيلا على سؤالك.

ودعني فأغلقت الهاتف وشعور الوحدة الذي كان يجتاحني قد خف بشكل كبير، قررت أن أستحم فوقفت بصعوبة مستندة على ذراع الكرسي وجررت نفسي جرا نحو الحمام، أبصرت وأنا أزيل شال رأسي ملامحي بالمرآة، شبيهة لأمي أيام صباها، هكذا كان أبي يردد، بشرة بيضاء وعينان واسعتان، يعلوهما حاجبان مقوسان، فم صغير وأنف دقيق، مع شعر بني قصير، حللت ربطته وفردته ثم تأملت صورتي لأرى أن بي رغم شحوبي وإرهاقي مسحة جمال لم تخف، بعض الاهتمام قد يعيدني إلى ما كنت عليه قبل سنين، حياة عملية جديدة تنتظرني وبالتالي هيئة جديدة ومناسبة، عرفت  أن أوان التغيير قد حان.

  ‏‎****‎
أصبح تواصلي مكثفا أكثر مع السيد عادل، في خلال أقل من أسبوع توطدت علاقتي به بشكل مخيف، كان يحادثني عدة مرات يوميا، يسأل عن حالي و يخوض في أحاديث عديدة، عرف عني قصتي وعرفت عنه بضع تفاصيل عن حياته، عن كريم ابنه الوحيد، عن زوجته إلهام التي تعمل مديرة لمدرسة خاصة.. بدت لي امرأة صارمة وعملية إذ رأيتها لدقائق زارتني فيها شاكرة باقتضاب عن صنيعي، ورغم أنه لم يتحدث عنها كثيرا إلا أنني استشعرت أن كلامه كان جافا خاليا من المشاعر . وشيئا فشيئا زال حاجز التكلف بيننا وأصبحنا أقرب لصديقين يجمعهما الإحترام، كان الشعور بالعرفان ما يدفعه للطفه معي، أو هكذا ظننت وقتها ومع ذلك بدأ يمس جوارحي ويتغلغل تدريجيا لداخلي، أحببت شخصه وعفويته واهتمامه وقربه، ووجدتني أتعلق به  وأتشبث باتصالاته التي كانت كمطر يروي أرضا عطشى، شعور يفوق بأضعاف ما عشته من أحاسيس عبثية أيام مراهقتي الأولى، في البداية ظننت الأسباب هي الوحدة، الحاجة للحب.. والفراغ العاطفي، لكن ألمي العميق وأنا أفكر بأنه حلم مستحيل، وأن له حياة لا مجال أن يكون لي مكان فيها أكد لي أنني أغرمت به حقا وتلك كانت المصيبة .

لم أصدق نفسي وأنا أترجل من سيارة الأجرة وأقف أمام الدرج المؤدي إلى بوابة المستشفى الزجاجية، رأيت المكان مئات المرات مسبقا لكن في تلك اللحظة رأيته بعين أخرى غير التي كنت أراه بها، عنوانا للشقاء كان وأملا للمستقبل أصبح، صعدت الدرج واثقة.. عدلت هندامي الجديد وسويت شعري ثم دخلت.

اتجهت نحو الاستقبال فاستقبلتني سلمى بنظراتها المتعالية المعتادة، أخبرتها أن لدي موعدا مع المدير فأجابت باقتضاب :
- الإسم لو سمحت؟.

- زهرة سالم.

رفعت عينيها وحدقت بي من رأسي وحتى أخمص قدمي ثم وضعت يدها على فمها و هتفت :
- أنت زهرة! .. زهرة التي أعرفها؟!.

عقدت ذراعي وأجبتها بندية لا تشبهني تماثل تعاليها :
- أجل هي .. الموعد يا سلمى بسرعة.

مدهوشة رفعت سماعة الهاتف تحدثت قليلا ثم أشارت لي بالصعود .. استقليت المصعد حتى الطابق الثالث ثم توجهت نحو المكتب وطلبت من السكرتير أن يبلغ السيد عادل بوصولي.

سعيدة، مرتبكة وخجلة جلست بملابسي الرسمية وشعري المكشوف على غير العادة بعد أن سمح لي بالجلوس، قال لي بنفس الإبتسامة الهادئة التي عهدتها دائما تعلو تقاسيمه :
- شكل جديد ومناسب جدا.. أحسنت الاختيار يا زهرة .

كان مختلفا حتى في إطرائه .. تفصح عيناه عن إعجاب وإن اقتضبت كلماته.

- شكرا لك يا سيد عادل، لكن روح زهرة هي نفسها لم تتغير .

- بالضبط .. وذلك هو ما أرجوه .. أن يبقى عبير زهرة نقيا دائما كما عرفته.

ارتبكت ولم أجد بما أرد فران الصمت للحظات قال بعدها :
- قسم الترجمة هنا مسؤول عن المراسلات بيننا و بين المستشفيات وشركات الأدوية و أيضا شركات المعدات الطبية في الخارج، معظمها من أوروبا وأمريكا، يعمل به موظفان وستكونين الثالثة، سيساعدانك في البداية ثم سينقسم العمل بينكم بالتساوي كل حسب اختصاصه، هل هذا واضح؟.

أومأت متحمسة فضحك وقال :
- تشبهين الأطفال بحماسك الزائد هذا .. عموما أنت ابنة المكان وتعرفين مكان القسم، مكتبك الخاص جاهز وينتظرك.. انطلقي .. حظا موفقا.

حملت حقيبتي وسارعت بالمغادرة بعد أن ألقيت التحية .. لكنه ناداني :
- زهرة.

كان قلبي الصغير يرتجف وأنا أستمع لحروف اسمي تخرج من بين شفتيه، استدرت نحوه فقال :
- أتمنى لك التوفيق.

- شكرا لك يا دكتور.

كان خروجي من مكتبه آنذاك هروبا من شرك كنت سأقع فيه عاجلا أم آجلا.

****

راحت تحتضنني وهي تبكي قائلة :
- مبارك يا زهرة، مبارك يا عزيزتي، تستحقين كل خير.

- شكرا لك يا حميدة، هذا بفضل دعوات الصباح التي تستقبلينني بها دائما .

كانت أم حسام كعادتها بصدق فرحتها، وعفوية التعبير عنها، مسحت دمعاتها وانصرفت لتكمل عملها، مضيت بطريقي لأجد سامية أمام القسم تنتظرني
بابتسامة خبيثة :

- هنيئا لك يا زهرة، أكاد لا أصدق ما أرى .. أين كنا وأين أصبحنا!.

تنهدت بملل وأنا أجيبها :
- يرزق من يشاء يا سامية.

- ونعم بالله.. لكن الوظيفة الجديدة ثمن بخس مقابل جزء غال اقتطعته من جسمك.

- ألمس سخرية في كلامك يا عزيزتي، لذا دعيني أخبرك بأمر مهم، لو أردت.. مقابلا لما قدمته، لربما ملكت هذا المستشفى الذي تعملين به بأكمله، الوظيفة حق لي طبقا لمؤهلات علمية تضمنها لي لم يؤخذ بها مسبقا، أتمنى أن تعي ذلك.... آه.. وأذيعيه على الجميع أيضا، تلك هي وظيفتك الفعلية، أليس كذلك؟.

مطت شفتيها وابتعدت غاضبة، ودخلت أنا المكتب ضاحكة لما تفوهت به، ليس لؤما مني لكن فقط حتى أوقفها عند حدها قبل أن تتمادى أكثر.

****
الفصل الثاني 

بعد شهرين...

كانت الساعة الخامسة مساء حين جلست على طاولة إحدى المقاهي قبالة السيد عادل، إذ كان قد طلب مقابلتي هناك بعد الدوام، وبشيء من الحرج سألته :

- ماهو الموضوع الذي تريدني بخصوصه يا دكتور؟.
شرب جرعة من كوب عصيره ثم تكلم قائلا :
- أخبريني عن العمل، هل أنت مرتاحة؟.

- للغاية.. العمل ممتع و يوسف وأحمد زميلان لطيفان، ويساعدانني كثيرا.

- جيد .. اسمعيني الآن، أريد منك شيئا لا يمكن أن أطلبه إلا من شخص ثقتي به كبيرة جدا.

توجست للهجته الجادة رغم سعادتي بالثقة التي يضعها في شخصي :
- أطلب ما تريد يا سيد عادل و سألبي طلبك أن كان بمقدوري.

- زهرة.. أريد أن أسجل المشفى باسمك .. بيعا وشراءا.

تعرضت لصدمات ورأيت مفاجآت كثيرة في حياتي لكن تلك بالتأكيد كانت أكبرها.

- نعم؟!!!.
- كما سمعت، لاداعي لأن أعيد كلامي.

- هل تمزح معي؟ 

رمقني بنظرات مخيفة :

- ما رأيك أنت، هل جلبتك إلى هنا لأمزح معك؟ .

كان جادا بالفعل، لذا استجمعت شتات أفكاري وسألته:
- اسمح لي يا دكتور لكن المجنون فقط من يقدم على فعلة كهذه، أنا مجرد غريبة عرفتها منذ بضعة أشهر.. كيف تثق بي ..... لا السؤال الأهم هو لماذا؟.

- إما أنت أو إلهام، وأفضل أن تأخذيه أنت بدلا عنها .. أنا أثق بك لأن من يهب شيئا ثمينا ودون مقابل .. وبإمكانه رغم ذلك الحصول على الملايين يستحق الثقة .. وسأسترجعه منك بعقد بيع آخر بعد فترة وجيزة.. ستعيدينه لي أليس كذلك؟.

قالها ضاحكا دون أن يتحمل عناء شرح الطلاسم التي تفوه بها .. استفزني فأجبته :

- في حال شرحت لي أكثر، فعقلي صغير لا يحتمل حل الأحاجي وأنا لم أفهم شيئا بصراحة.

- حسنا ..أنا آسف، أنا وإلهام علاقتنا شبه منتهية منذ زمن، ولا يجمعنا سوى كريم، كنا سننفصل منذ فترة لكن الحادث أخر ذلك، ورب ضارة نافعة.

بلل ريقه بجرعة ماء وأنا أرقبه مدهوشة غير مصدقة أن حلمي سقط من خانة المستحيلات، أردف بعدها متنهدا بحسرة :
- كان زواجي وإلهام تقليديا قرره أبوانا وقد كانا صديقان حميمين، لم أعترض فجل همي وتفكيري كان منصبا على الدراسة والتخرج بتقدير عال لأكون مؤهلا لإدارة المشفى بعد والدي رحمه الله، كنت أعرفها من بعيد فقط، عندما تحادثنا أعجبتني ثقافتها ووقارها، قلت في نفسي أنها ستكون زوجة مناسبة لطبيب وستشرفني وسط صفوة وكبار العائلات بالمجتمع وقد كانت كذلك حقا ..حتى تغير كل شيء منذ خمس سنوات.

تنبه لملامح وجهي المتحفزة لإكمال حكايته فضحك قائلا :
- أنتن النسوة تعشقن قصص الزواج والفراق.

أخفضت عيني خجلا ليستطرد :
- على قدر النظام الذي كان يسود حياتنا كان البرود الذي يلفها، حياة خالية من العاطفة والحب والمشاعر، اكتشفت بلحظة أن خمسة عشر سنة من زواجنا مرت كأننا آلات، طوال الوقت عمل عمل عمل دون أن نحظى بلحظات سعيدة معا، دون أن نسافر ونقضي لحظات ممتعة تغير روتين حياتنا المنظم وفق برنامج محدد، أنا ومشفاي وهي ومدرستها ولا نلتقي إلا مساءا على طاولة العشاء لنتبادل الحديث كأغراب ..
حادثتها، شرحت لها ما أفكر فيه لكنها سخرت قائلة أنني أعيش مراهقة متأخرة وأن  أيام الشباب ولت وهي ليست مستعدة لترك نظام حياتها من أجل متع عابرة لن تفيد شيئا، كانت متشبثة برأيها ورفضت أي تغيير في حياتنا .. تباعدنا تدريجياحتى أصبح مجرد اجتماعنا بمكان واحد يعد ظاهرة، كنت أنتظر حتى يبلغ كريم الثامنة عشر لأطرح فكرة الإنفصال ليرتاح كلانا، وها قد فعل منذ أيام لكن هناك مشكلة لم أنتبه لها سابقا.

- والتي تتعلق بالمستشفى؟.

- أجل .. أنا وإلهام عقدنا قراننا بأمريكا ووفقا للقانون هناك يحق لها الحصول على نصف ممتلكاتي إذا ما كانت فترة زواجنا قد تجاوزت العشرين سنة.. يمكنها أخذ ما تشاء إلا هذا المشفى لن أسمح لها بأخذه مهما حدث .. ها .. هل تساعدينني؟.

 رحت أفكر لفترة ثم قلت :

- افرض أني توفيت قبل أن تسترده سيصبح من أملاك الدولة و يضيع للأبد فلا
وريث لدي.

- أنت تخترعين حججا للرفض ..!!

- أبدا!! .. أخبرني هل تضمن حياتك لساعة لا بل لدقائق؟.

فكر قليلا وأجاب :
- حسنا .. حسنا سأغامر لا خيار آخر لدي .. فلا أريد خسارته أبدا.

- افعل ما تريد يا دكتور وأنا طوع أمرك .

ارتسمت على ثغره ابتسامته الهادئة وقال ما جعلني أذوب خجلا :

- أشعر أن الحياة ستعوضني ما افتقدت قريبا.

***‏*

اتفقنا على يوم محدد لإتمام الإجراءات التي تكفل بها السيد أيمن محاميه الخاص، لم أكن مرتاحة لتحملي مسؤولية كبيرة كتلك، ولولا الألم الخفي الممزوج بالحدة الذي استشعرته بصوته حين صرح بأنه لن يخسر مشفاه أبدا لما قبلت، فلا أريده أن يتألم مطلقا طالما أنا قادرة على المساعدة. 

بعد أيام وقعت العقد بيد ترتجف داخل مكتب الشهر العقاري، وقانونيا أصبح العقار ملكا لي بأوراق رسمية.
أثناء استقلالي للسيارة بجواره تنبهت لصمت السيد عادل المريب وكنت لم ألحظه قبلا بسبب توتري، زادت دقات قلبي وتوجست خيفة فابتلعت ريقي وسألته :

- هل من خطب يا دكتور؟

وكأنني قاطعت رحى أفكار كانت تدور برأسه التفت لي وأجاب بنبرة بدت لي قلقة رغم الابتسامة الباهتة التي علت محياه :
- لا .. أبدا .. شردت قليلا فحسب.

- تبدو قلقا .. هل أنت نادم؟.

أطلق تنهيدة طويلة وعميقة وأجاب بعد أن  وضع يده على يدي قائلا :
- لا .. لست نادما .. أنا أثق بك وثقتي بالأشخاص لا تخيب.

تناسيت خجلي من لمسته  وسألت وقد عرفت أن للحديث تتمة :
- إذن؟.

- أنا قلق بصددك .. المحامي نبهني لشيء مهم كنت غافلا عنه قد يجرك إلى متاعب لا حصر لها ..
سألت وقد بدأ صبري ينفد :

- والذي هو؟.

تجاهل سؤالي وأطلق قنبلته مباشرة ودون مقدمات :
- زهرة .. هل تتزوجينني؟.


يتبع...

تعليقات

  1. أحداث مشوقة في إنتظار الجزء الموالي أتمنى أن لا تتأخر في عرضه

    ردحذف
  2. ياسين الرامي16 ديسمبر 2020 في 12:43 م

    الحوار جميل الأسلوب مقبول والأحداث متسارعة كأنه مسلسل طويل في قصة قصيرة ما أفقدها المنطق قليلا ،، دعنا ننتظر باقي الأجزاء .

    ردحذف
  3. السلام عليكم ..

    أخي ياسين شكرا على مرورك.. هي رواية قصيرة وليست قصة قصيرة.. نشرت في هذا القسم لأنه مامن قسم للروايات.. لذلك أسلوبها روائي وأحداثها متسارعة وشخصياتها متنوعة ومتعددة..

    أتمنى أن تعجبك التتمة..

    دمت بود..

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما