عبد الرحمن اليوسُفي .. نصر معارض




في يوم 29 مايو عام 2020، ذاع خبر وفاة عبد الرحمن اليوسفي، ليفقد المغرب أشهر وأشرس معارض في خلال المئة عام، صديق المهدي بن بركة الذي نفى نفسه بعيدًا عن بلده في زمن مملكة الحسن الثاني.. حكاية معارض تجرع من كأس اليسار حتى الثمالة، تنتهي بقبلة على جبينه طبعها الملك محمد السادس - نيابة عن كل المغاربة - عندما كان طريح الوساد، وقد أنهكه المرض وسنوات المعارضة بلا هوادة. 


في مدينة طنجة شمال المغرب، رأى عبد الرحمن النور في يوم 8 مارس عام 1924.. درس القانون، ونال الدبلوم العالي في العلوم السياسية، وكذا تحصل على دبلوم المعد الدولي لحقوق الإنسان.. انخرط في عالم النضال مبكرًا، وهو في سن العشرين انضم إلى نقابة العمال المغاربة منتصف الأربعينات، وتجاوز الداخل ليصل للعمال المغاربة في فرنسا، وجند نفسه دفاعًا عن العامل المغربي أينما وُجد. وفي المجال السياسي، كان اليوسفي من الأسماء التي ارتبطت بحزب الاستقلال، منذ عام 1943، يومذاك كان عبد الرحمن طالبًا في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وهناك أسّس خلية نضالية، فكان هدفًا للقوات الاستعمار الفرنسية، التي طاردت نشاط الشاب طويلاً، وصُدر بحقه قرارًا بالاعتقال، وتولى عن الأنظار، إلا أنّ نشاطه تواصل في سرية.. ثم عاد عبد الرحمن أدراجه إلى مسقط رأسه طنجة الدولية بعيدًا عن نفوذ الفرنسيين، لينال منصب نقيب المحامين في المدينة، وليشتغل محاميًا في محاكم طنجة طيلة عقد الخمسينات، وبين عامي 1969 و 1990 تولى مهام الكاتب العام المساعد للاتحاد المحامين العرب.. إلا أن اليوسُفي لم يمنعه عمل المحاماة من الاستمرار في نشاطه السياسي مع حزب الاستقلال، وقد انخرط في تنظيم المقاومة وجيش التحرير حتى غادر المستعمر الفرنسي المغربي بحلول عام 1955.

•اليوسفي وبن بركة•


هو صديق المناضل والحقوقي العالمي، المهدي بنبركة، ومعًا بمعية كل من، عبد الرحمن بوعبيد، وعبد الله ابراهيم، ومحمد بصري، ومحجوب بن صديق، قاموا بتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وأعلنوا انشقاقهم من حزب الاستقلال، كان ذلك في عام 1959، وحمل عبد الرحمن اليوسُفي على عاتقه، الأمانة العامة للحزب حتى عام 1967، ورئيس تحرير جريدة "التحرير" التابعة لنفس الحزب.. وبذلك خرج أشرس حزب معارض يساري في تاريخ المغرب، يضم خيرة رجال اليسار، يتزعمهم المهدي بن بركة. بدأ الحزب الجديد يُثير الجدل في مواقفه اتجاه سياسة الدولة، والملك الجديد الحسن الثاني حينها يخطو أولى خطواته في قيادة المملكة وحمل إرث ثقيل، في زمن هبّت فيه الرياح على الملكيات في العالم العربي، فكانت المواجهة بين الموالين لسياسة الدولة، وبين المعارضين، في طليعتهم حزب الاتحاد الوطني الاشتراكي للقوات الشعبية، وفي الواجهة يبزغ اسمي بن بركة واليوسُفي. 

•الصراع مع السلطات•

كان قدرًا محتومًا، أن يُطارد اليوسُفي في كل مكان، ومن معه في المعارضة، وأي معارضة؟ يوم كان الاسم على مسمى.. دشّن عبد الرحمن اليوسفي سلسلة الاعتقالات بحقه، منذ 1959، في زمن اتُّهم فيه بالتحريض على العنف، بسبب مقالات صحافية على واجهة جريدة "التحرير".. وفي عام 1963، تم اصدار الحكم باعتقال جميع أعضاء حزب الاتحاد الوطني الاشتراكي للقوات الشعبية، بتهم التآمر لقلب النظام الملكي في المغرب، وكان من بين المعتقلين، عبد الرحمن اليوسُفي، وشنت الدولة هجومًا عنيفًا قاده الجنرال محمد أوفقير لتصفية المعارضة، على اثرها  لم يعد المهدي بن بركة إلى بلده، حيث كان حينها في خارج المغرب، ولم يعد أبدًا، بل لم يُعرف مصير الرجل إل حين كتابة هذه السطور. صدر الحكم بالسجن عامين موقفة التنفيذ بحق اليوسُفي، وقد تم العفو عليه، عام 1965. بعد اختفاء بن بركة في فرنسا، كان عبد الرحمن أحد الشهود الذين أدلوا بشهادتهم أمام القضاء الفرنسي المحرج أمام العالم بسبب اختفاء أو اختطاف المهدي على أرضهم، كان ذلك عام 1965.. وفضل عبد الرحمن اليوسُفي البقاء في فرنسا، وجعل البلد منفاه الاختياري، بسبب القمع الذي تعرض له في المغرب، وكذا محاصرة بل وهدم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وسجن رفقائه، واختطاف صديق عمره المهدي بن بركة.. كانت كلها اسباب وغيرها، جعلت عبد الرحمن يتولى عن بلده لمدة 15 عامًا، وأثناء ذلك، وتحديدًا في عام 1975 صُدر عليه حكمًا غيابيًا بالسجن، وأمر المدعي العام بإعدامه. 

•إنه المجرم يظهر في التلفاز !•

يروي قيدوم التلفزيون المغربي، محمد الصديق معنينو، أنه في بداية السبعينات، تلق مكالمة من نائب مدير العام للإذاعة والتلفزيون الحكومي المغربي، يخبره أن هناك تجاوزًا خطيرًا عُرض على شاشة التلفزيون، وإن عليهم العود إلى كل البرامج التي تم بثها ذلك اليوم، والتحقيق من هذا الشيء الخطير الذي أُذيع عبر الشاشة.. كانت لعبةً نفسيةً نزلت على موظفي التلفزيون من بينهم صديقنا الصديق معنينو، الذي يُردف، بأنه بمعية مدير التحرير جلسا لساعات طويلة لتبيان هذا الشيء الخطير الذي تم بثه وأغضب الوزارة وحتى القصر الملكي، فلم يعثروا على شيء.. وحضر الكاتب العام للوزارة، وأمرهم بالعودة إلى تسجيل نشرة الأخبار الأخيرة، والتوقف عند لقطة سيشير إليها، وأثناء تقرير اخباري من فرنسا، صرخ الكاتب العام: "توقف". ففعل المخرج، وقال النائب العام: "ألا تعرفون من هذا الرجل الذي يرتدِ معطفًا ذو غطاء لرأس، ويخرج من محكمة في جونيف؟".  نظر المخرج إليه ولم يتعرف عليه، وكذلك فعل (الراوي) الصحفي الصديق معنينو، وبدره لم يتعرف على هوية هذا الرجل الغامض. فقال الكاتب العام للوزارة: "ألم تتعرفوا عليه؟، إنه مجرم، نعم مجرم ويُدعى، عبد الرحمن اليوسُفي!". إلى هذه الدرجة بات الحال باليوسُفي، ممنوعًا من لقطة لم تتجاوز ثواني معدودات، على التلفزيون المغربي. 

•عودة المعارض إلى بلده•

عام 1980، صدر العفو على عبد الرحمن اليوسفي، وعاد إلى بلده بعد 15 عامًا قضاها في منفاه الاختياري، ليجد الحزب الذي شارك بتأسيسه قد عدّل من اسمه منذ عام 1975، وصار يُعرف بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وما زالت فيه بعض الوجوه القديمة أمثال محمد بوعبيد، فتم اختيار اليوسفي ليكون مندوبًا دائما للحزب، إلى جانب اخياره سلفًا حتى قبل عودته، عضوًا في مكتب الحزب السياسي.. هكذا عاد اليوسفي إلى السياسة من بابها اليساري.. وفي عام 1992 انتخب عبد الرحمن أمينًا عامًا للحزب، بعد وفاة الأمين العام السابق، محمد بوعبيد.. وفي عام 1992 انتفض اليوسفي مرة أخرى في وجه الانتخابات التشريعية المغربية، وأصر على أنها قد تم تزويرها، وعلى اثر ذلك قرر التخلي عن المشهد السياسي، وحلق صوب فرنسا مرة أخرى، هذه المرة إلى مدينة كان. 

•عبد الرحمن اليوسفي رئيسًا للحكومة•


"لقد اعتزلت السياسة".. يقول اليوسفي لكل أصدقائه الذين يحاولون اقناعه بالعودة إلى الحزب والمشهد السياسي، بعدما قرر الملك الحسن الثاني - في آخر أيامه - التصالح مع المعارضة وطي صفحة الماضي، وأكثر من هذا، اشراكها في الحكم.. ظل اليوسفي مصرًا على اخياره، حتى قبل أخيرًا، وعاد إلى بلده، لتكون مفاجأة غير متوقعة للمهتمين بالشأن السياسي المغربي: عبد الرحمن اليوسفي، رئيسًا للوزراء، في حكومة ما سُميّ بالتناوب، ما بين عام 1998 و 2002، أي في نهاية عهد الحسن الثاني، وبداية عهد محمد السادس، وشاء الله وما لم يتوقع أحد، بأن يكون اليساري الشرس عبد الرحمن اليوسفي، صديق المهدي بن بركة والذي كان يُمنع على التلفزيون من بث لقطة خاطفة له؛ أن يكون الرجل الثاني في مملكة المغرب بعد الملك. أكمل اليوسفي مشوار رئاسته لحكومة التناوب، الذي دام لأربع سنوات، واعتزل السياسة نهائيا، وودع حزبه اليساري، كان ذلك في عام 2003، عن عمر 79 عامًا، قضاه في اليسار، وعاش فصولاً مثيرة في المغرب القرن العشرين.. وإلى اليوم، يعتبر أغلب المغاربة، بأن خير حكومة مرت في تاريخ المغرب، هي التي ترأسها عبد الرحمن اليوسفي.  

•الملك يقبل رأسه، وشارع في طنجة يحمل اسمه•


بعد أن اعتزل اليوسفي الشأن السياسي نهائيًا، أصابته وعكات صحية كثيرة، دخل على اثرها مستشفيات المغرب، في احداها، زاره الملك محمد السادس، وقبل رأسه.. الكثير من المغاربة استحسنوا تصرف الملك، واعتبروها قبلة الصلح والامتنان لرجل يساري حتى النخاع، إلا أنه لم ولا يبيع وطنه.


في عام 2017 دشن الملك محمد السادس بمعية عبد الرحمن اليوسفي، شارعًا في مدينة طنجة، يحمل اسم هذا الأخير، وقد وُضع نصب تذكاري هناك يخلد لأحد أبناء المدينة ومشاهيرها.

•اليوسفي يرفض التكريم•

رفض عبد الرحمن اليوسفي تلقِ الجوائز والأوسمة والتكريميات، واعتذر لعدة مؤسسات مغربية وأجنبية، معتبرًا أن ما قام به، هو يمليه عليه الواجب الوطني والنضالي، وفعل الواجب يسقط التكريم.. ولم يقبل في حياته سوى وساميين ملكيين، من طرف الملك محمد السادس، وملك بلجيكا. 

•وداعًا اليوسفي•


في يوم 29 مايو عام 2020 غادرنا عبد الرحمن اليوسف عن عمر يناهز  96 عامًا.. انطفأ رجل اليسار في شقته المتواضعة داخل عمارة سكنية في مسقط رأسه مدينة طنجة.. ليرحل آخر رجالات المغرب القادمين من زمن جيش المقاومة، وطنجة الدولية، ويوم كانت المعارضة هي المعارضة، ولا تقتصر على الاسم فقط.


(كلمة)
 

"وطني وإن جار عليّ عزيزٌ". هو ما يرادف عبد الرحمن اليوسفي؛ أن اليساري الحقيقي، لا يخون وطنه، وإن نفاه وأبعده، وحتى تخلى عنه، فسيأتي زمن لا ريب فيه وتتغير الأنظمة وتسقط المصالح السياسية، ويبقى الوطن هو الوطن، بأرضه وسماءه، شمسه وقمره.. هذا ما حصل مع اليوسُفي، ظل وطنيًا رغم منفاه واغراءات أعداء بلده، ثم نال جزاء المنزلة الكبرى عند المغاربة وملكهم، وخلدوا اسمه في مسقط رأسه، مدينة طنجة، كبرى الحواضر المغربية تُهدي لابنها البار شارعًا وتذكارًا باسمه. إن  الخائن لا تقبل به الأمم سوى من باب الإنسانية، فقد فُقدت فيه الثقة ونال خاتم العار، وحتى تراب قبره قد يستحيي من جسده، ولو كان بإمكانه لفظه، لفعل.  



بنصالح

تعليقات

  1. سياسي محنك رحمه الله ، والكلمة الأخيرة معبرة
    أتمنى أن تكتب عن محجوب أحرضان الذي توفي أيضا هذا العام ، ولا يخفيك مكانته النضالية الكبيرة وتمسكه بهويته الأمازيغية

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك.. إن شاء الله سأكتب عن المحجوب أحرضان قريبا.

      حذف
  2. ياسين الرامي13 ديسمبر 2020 في 9:57 ص

    أخيرا اختفى عنوان هذا الطويل هو...... لقد مللت منه هههه بالعودة للمقال ،، فإن اليوسفي رجل مواقف قل نظيره ،، وخير فعلت وكتبت عنه رغم أن كل ما كتبته قرأت عنه سابقا باستثناء تجريم ظهوره على التلفزيون ،، لم أسمع هذا من قبل !

    ردحذف
    الردود
    1. حتى لا تنسى أن ذلك الطويل هو الألف ^^

      مصدر منع اليوسفي من التلفزيون، في مذكرات الصحفي صديق معنينو "أيام زمان" وقد رواه أيضا في مقابلات تلفزيونية.. إليك المقطع التالي :
      https://www.facebook.com/Confidences2M/videos/1972224432899008/

      حذف
  3. عبد الرزاق ايدر14 ديسمبر 2020 في 6:19 م

    السلام عليكم

    مقال رائع اخي محمد وموضوع موفق عن شخصية مغربية لها مكانة كبيرة في السياسة المغربية ... و هناك حدث لم تذكره في المقال وهو تخريب تذكار اليوسفي في طنجة بعد موته للاسف ولا افهم تحديدا لماذا يكرهه الاسلاميون ؟

    تحياتي

    ردحذف
  4. عليكم السلام،

    نعم معك حق، لم أذكر تخريب تذكار اليوسفي في طنجة بعد فترة قصير على موته، فضلت عدم فعل ذلك، فالفاعل لا يستحق سوى الدعاء له بالهداية. فيما يخص علاقته بالاسلامين؛ ربما كان أحسن يا أخي العزيز لو اكملت النعت، لأن المقصود هو إسلاميو السياسة، وليس المسلمين.. عموما هذه هي السياسة في المغرب، ازيد من ثلاثين حزبا وكل ينفخ على خبزته ^^ ، فطبيعي الخلاف بين الاشتراكيون واسلاميو السياسة، لكن احترام الشخص واجب، حيا كان أو ميتا.

    شكرا على المرور صديقنا الوفي عبد الرزاق.

    ردحذف
  5. عبد الرزاق ايدر15 ديسمبر 2020 في 7:29 م

    اعتذر اخي محمد كان علي اتمام ما عنيته وهو الاسلام السياسي ، وانا معك في رايك من خرب تذكار اليوسفي لا يستحق الحديث عنه

    ننتظر باقي مقالاتك ، وطرحك الرائع لها

    ردحذف
  6. ليس هناك أي داعٍ للإعتذار أخي عبد الرزاق.. هو حذري في هذه الأشياء لا أكثر.

    بارك الله فيك.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما