الأنوثة الممزقة !



تجد وردّة نفسها في ظُلمة النهار، صُحبة وحدتها، خيالاتها المُنهكة. تمكثُ في صمت الدنيا اللاغي بالهواجس، عند وادٍ تتفتّتُ فيه كل أمنيات كانت ترنو ذات صِغرٍ إلى الحياة. تنظر إلى نافذة تبدو عالية على طولها، إنها نفس النافذة التي رافقتها منذ طفولتها، إلا أنها لم تقدر على السير ناحيتها وأن تثابر بأن تُطل منها، رهبًا ممن أنذرها، ولو حدث - مرارًا - أن تحدوها رغبة جامحة لإلقاء نظرة منها، إنما لا تقدر - حتى الاقتراب - كما يُملى عليها، وخشيّة مما قد يأتي منها. 
                       
***

  كل ما يعج به العالم، لا أدري  عنه إلا الشيء القليل، فحدود دنياي أمامي أبصرها كل صباح ومساء، بل تطالها يداي، إنها تكون جدران منزلنا، وكل السبل فيه تقودني إلى المطبخ، الذي أخذ من عمري أرباع ثلاث، أو ما يزيد. 

أنا أنثى وسط رهط الرجال، والدي مدمن كل المنوعات طالقُ خمس زوجات بالتّدرج، - من بينهن أمّي - كُنّ جميعًا ذات عيوب حسب مراجع أبي، الذي جعل منهنّ خادمات وأكياس الملاكمة في النهار، ولُعب جنسية في الليل، وعورة أمام الناس.  فهوى والدي فرقعت الأقفال وراء النساء. لي ثلاث أشقاء، أكبرهم، وريث أبيه وحافظ سرّه، وشقيقين توأم لا يخالفان قاعدة البيت، وثلاث إخوان غير أشقاء من نتاج باقي المطلقات. تحملتُ تربية جميع صعاليك أبي،  فكنت أمًّا بديلة بغياب الأمهات، فتمزقت الأنوثة فيّ عند بيئة معقوفة الجذور، كنت فيها خادمة البيت وعورتها وعارها، العار الذي توهمّه دويّ،  أن لا يراني إنس دونهم،  واعتقلوني بلا ذنب في بيتنا، بعد أن  انتظرت - مُتّوهمة - من فاقدي الشيء أن يعطونني مما لا يملكون!. 

في بيتنا ثلاث نوافذ، مُنعت عليّ واحدة منعًا كليًا أدرك فيّ مبلغ الترهيب، أما باقي النافذتين فأسترق النظر منهما بعد أن يخفف عني الحزن وطأته. 

في ذات يوم ما أتى إليّ شيخ تدفقت لحيته البيضاء حتى قاربت خصره، وانسدل شعره ليلامس كتفتيه، شعرتُ بحضوره بطمأنينة تسري في جسدي، وإن كنت لا أدري كينونته، ولا كيف أن ولج إلى عالمي، أقصد النزول إلى حُفرتي. ثم تذكرت إخواني، فانقلبت سكينتي جزعًا، فكرت لو وجوده عندي؛ لربطوني  من مأق عيناي! فأنذرت هذا الواقف قبالتي: "إياك من أن يلقاك إخوتي هنا!"

ابتسم وحرك يده، لكأنها إشارة وداع، فقال: "لا خوف عليك يا بُنيّتي، إنما جئت لأجل تلك النافذة هناك"

- أيها الشيخ الميمون، إني مُنعت من الاقتراب من تلك النافذة.

- إن أمر تلك النافذة لا مرد لك منها إن أردت النجاة. 

- كل نوافذ المنزل مسموح لي بها إلا تلك التي تُشير إليها، فما وراءها أيها الشيخ؟ 

وبينما كنت أنتظر رد الشيخ الميمون، فإذ بشعاع كاد يُعمي بصري، لأغلق عيناي، وعند فتحهما، لم ألق الشيخ، لقد انصرف كما أتى دون أثر للممشاه الأخير، فشعرت بوهنٍ شديد، ثقُل عليّ جسدي كما لو قُدّ من صخر، فتنبهتُ لغياب دوي الجلبة في حولي! وبعد برهة أدركتُ أني أعيش لوحدي في هذه الحفرة، لقد فارق والدي الحياة منذ سنوات، والإخوة غادروني جميعًا، وظلّت كلماتهم تُسمع في أذني، "النافذة مرتفعة يا وردة، إياك والتفكير بأن تخطين إليها. إليك عن ذاك  يا وردة فاحذري، احذري!"  

تلك النافذة ظلت هاجسًا صاحب عمري، فألقى نفسي تائهة في مجاهل رغبة خاضعة لغيري، ففيّ شخصين يتنزاعان فيما بينهما، أحدهم يحذرني من الاقتراب من النافذة ويُخيل إليّ الشيخ أنه إبليس تجمّل لي، حتى أبهرني ثم أمرني بالسوء. والآخر ينفخ على جمرة الرغبة التي تحدوني حيالة تلك النافذة. أدركت أن من أجل التخلص من هذا الوضع، ينبغي عليّ أن أختار في إحدى السبل التائهة، وأمضي فيها وبعدُ ألقى مصيري الحتميّ. فقررت التوجه إلى النافذة وأحمل معي نقطة النهاية. 

كان طريقي إلى النافذة طويلاً، يستنفذ كل عزيمتي، فأفكر في تلك النافذة التي أسير ناحيتها، فتبدو لي كنقطة ضوء بعيدة أمدّ البصر في نفق يغرق في العتمة، وتارة تظهر كأنها ألسنة نار تنتظر وصولي! فانتّصر الخوف فيّ، وعدت أدراجي أبكي كعادتي

***

تذكرت أشقاءها الأشقياء، الذين كانت لهم أختًا وأمًا، ثم أبًا،  فعبثوا بأنوثتها وحمّلوها ما لا طاقة لها به، وأمها التي تخلت عنها وحيدة أمام أعباء القدر، إنهم جميعًا من دلوها في سبيلها، إلى أن أوصلوها إلى الحفرة، فانصرفوا يقضون حياتهم، بعد أن أسدلوا عليها ستائر النسيان، فتموجت كغمامة أمام أعينهم، وتلاشت. 

"النافذة مرتفعة يا وردة، إياك والتفكير بأن تخطين إليها. إليك عن ذاك  يا وردة فاحذري، احذري!"

لقد دعت كل ذكرياتها إلى الحفرة، وأجملها، أقلها قُبحًا، فتشعر أن الموت على مقربة منها، يراقبها في صمت ويشتّم أنفساها،   فما عاد شيء يُخشى عليه، ولا يرهبها الآن جزاء الإطلالة من النافذة. تقف من مكانها، كما لو كانت إنسانًا آليًا صنعه المبتدؤون، ثم تدفع نفسها بمشقة للوصول إلى الجدار، حيث النافذة المرتفعة تسبقها الخطوط الحمراء، التي تشكلت من ركام السنين القذرة، إلا أنّ وردة آلت على نفسها مواصلة التقدم ناحية النافذة.

"النافذة مرتفعة يا وردة، إياك والتفكير بأن تخطين إليها. إليك عن ذاك  يا وردة فاحذري، احذري!" 

 بين كل خطوة وأخرى، عُسر شديد، تتمايل حتى تكاد تُطرح أرضًا، ثم تستعيد توازنها، كأن أيادٍ لا مرئية تمنعها من السقوط.. ثم تعود لتجلس على الأرض، لتستعيد أنفساها وتلّم ما يكفي من جهد للوصول إلى النافذة التي قيل عنها.  

 تواصل مشيّتها الآلية البطيئة ناحية النافذة، حتى باتت على مرمى منها، فلم تقدر على الاتيّان بخطوة إضافية، وتوّقفت، لتستدير برأسها إلى الوراء، فتلقى أنها ابتعدت عن السرير ما يكفي أن لا تُفكر في العودة، صرخت في أعماقها، صرخةٌ دفعتها إلى الأمام قدم آخر، ولم يبق سوى آخر خطوة للوصول إلى النافذة، لكن أنّى لها من تلك الخطوة؟ فانهارت على الأرض تبكي عجزها، حتى ما عادت دمعة إضافية في مقّ عينيها، لتتخيل طائر خارق يحملها فوق ظهره إلى تلك النافذة،  وظلّت مستلقية على الأرض وترمق السقف، فتتشكل فيه الوجوه التي مرت على ذاكرتها، وجهٌ واحد مدها بقوة إضافية، إنه الشيخ الميمون. فتوقفت لترمي خطوة، فأخرى، لتجد نفسها أمام النافذة. وقفت تحاول إدراك مبلغ نيلها، بعد كل هذه السنوات من خشيّة وهاجس النافذة، فها هي الآن تقف شاخصة حيالة خوافٍ تبدو للتو فانية،  لتمد يدها في قرقفةٍ وأنفاسها مبهورة. فتحت النافذة، وتقدمت برأسها إلى الخارج وتُبصر منها، لتشعر كأن يد غامضة انتشلتها من الحفرة إمعانًا لروعها، فتجمع شتات ذهنها، وهي تنظر إلى ملكوت الله، إلى رواء قدسيٌ تتعلق به الروح، فما تشبع ولا ترتوي.

 إن ما تُبصره في هذه النافذة ليس كما اعتادت رؤياه في باقي النوافذ، أن يبدو لها قطًا يموء جوعًا، ودافع عربة الفواكه يائس من بضاعته، وجارتها البدينة ذاهبة آتية من الحمام العمومي. فما أبعد ذاك بهذا. وعند غمرة فرحها بما تُبصره من النافذة، انتبهت أن الجمال العظيم الذي يبدو لها، يتلاشى، يهبط عليه الظلام فينقض عليه، ويكنفه،  فعرفت أن وصولها للنافذة تأخر بما يكفي لآخر نظرة، كادت تُفتقد كذلك، لولا نزعة الرمق الأخير. فانقلب سرورها المُستّجد حسرةً، على كل الذي نذرها من التوجه ناحية النافذة والاطلالة منها،  على من غرس منها خوف ينمو في كل يوم، حتى بلغ منها أن تخشى على نفسها من نفسها. تتساءل في ندم: ماذا لو فتحت هذه النافذة قبل سنين خلّت؛ أكنتُ سأسلك دروب الحزن؟ فجاء الجواب من صوتٍ تناهى إلى أسماعها: "رويدك يا وردة، فقد نمت في مشتل الأشواك". فأغلقت عيناها للمرة الأخيرة، وألقت بنفسها من النافذة.


انتهت. 


"وكان الحزن دربًا"

تعليقات

  1. حزينة ورائعة ونهاية مأساوية ومنطقية أيضا

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. فرحت جدا عندما وجدت قصة جديدة في المدونة كتبها احد كتابي المفضلين باسلوبه المميز لكن لا اخفيك تمنيت ان تطول القصة ولكن لا باس نقدر وقتك واعمالك لكن لا تغيب عنا طويلا

    تقبل مروري

    ردحذف
    الردود
    1. وأنا أكثر فرحا عندما أجد في التعليقات أسماء رافقتني لسنوات، وهي وفية لم أكتبه، وأنت واحد من تلك الأسماء.. وأعتذر لقصر القصة، وفي الحقيقة زماااان لم أكتب قصة طويلة، وإن شاء الله أحاول لأجل أمثالك من قراء لا يشبعون إلا من قصص دسمة ^^

      لقد أُسعدتُ بتعليقك أخي الدحداح.. بارك الله فيك.

      حذف
  4. الرحلة الى النافذة كانت هي القصة ، ودعني أخمن أن النافذة شخصت بها قرار ما لم تستطع وردة اتخاذه وإخوانها دفعوها حتى لا تتخذ ذلك القرار ، وأتفق مع التعلق الذي سبقني فالقصة قصيرة جدا وكان ممكن تكون أطول وتستثمر في الفكرة أكثر لأن سردك لا يمل منه ولا أخفيك أفضل قلمك في المقالات أكثر من القصص

    ردحذف
  5. أجّل، فرمزية القصة تتجلى في النافذة، وقد رأيت رمزيتها بمنظارك الخاص، وغيرك له منظاره ^^

    اتفقنا يا سادة أنها قصيرة، لكن قُضيّ الأمر^^

    أتعرف يا بوطيب أنه قبل سنة قال لي أحدهم، - أو إحداهن - أنه يفضل أن يقرأ لي قصة على أن يقرأ لي مقال.. وها أنت تناقضه، لذا اتفِقا رجاءً وتعاليا إليّ هههههه.....هه
    مزاح فقط ^^ وإن شاء الله أبقى عند حسن ظنك في المقالات، فلم تطلب إلا الموجود عندي.

    ردحذف
  6. زمان قبل سنوات، كنت حينما أقرأ شيئاً لا أفهمه من أول قراءة أظن العيب بالكاتب لأنه -عقدها-
    على سبيل المثال غرناطة رضوى عاشور وغيرها، وحينما نما القارئ داخلي وتوغلت أكثر في الأدب اكتشفت أن هذه أساليب الكبار وأنها ممتعة لمن يفهمها. هكذا الأدب الحق.
    اليوم أنا أقرأ هذه السطور أكثر من مرة حتى أتوغل فيها وفي رمزياتها وبلاغتها، وغداً سأقول هذا كان أسلوب كبار وأنا لم أفهمه حينها، هكذا الأدب.
    عودة حميدة يا صديقي برمزية فخمة.. أنا مع فريق القصص بالمناسبة، لكن هذا لا يعني أن بصمتك غائبة في المقالات.

    ردحذف
  7. اهلا بصديقنا العزيز البراء.. القارئ النهم، والكاتب الفذ..

    وأنا هنا تذكرت قول استاذ كان يقول لنا ونحن صغار بأن عليكم أن تقرأوا أكثر ما يُحفز عقولكم.. وللقصص الرمزية أو النصوص هذا الجانب الإيجابي وهو تحفيز العقل وتجعل كل قارئ يراها بمنظوره الخاص، كأن لها عدة نهايات مختلفة وليس واحدة.. لكن بشرط أن لا يبالغ الكاتب في غموضه كأنه يود قول: افهموني لو استطعتم ^^ عن نفسي لم اصل لمستوى الكبار في هذا النوع من القصص وإن أوصلتني - مستعجلا - أنت إليه ^^ ولأجل هذا اقول لك شكرا يا رجل، لقد أخجلتنا..

    لا داعي أن تخبرني، فأنا أعرف أنك من جماعة أهل القصص، كتابة وقراة ^^

    لقد أسعدتني مشاركتك معنا أيها البراء.. بارك الله فيك.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية