قنبلة هيروشيما : الجريمة العظمى



هي واحدة من بين أبشع الجرائم التي اقترفتها أيادي البشر، يوم قررت الولايات المتحدة الأمريكية معاقبة اليابان عام 1945 في آخر الصور من قصاصات الحرب العالمية الثانية، وألقت عليها قنبلة ذرية كانت من نصيب مدينة هيروشيما، ثم قنبلة أخرى على مدينة ناغاساكي، ففُتحت أبواب الجحيم على المدينتين عنوانها العريض، مأساة إنسانية سببها الإنسان، الذي كشف عن أمّد ما يستطيع القيام به، حينما يقرر إلحاق الأذى ببني جلدته.

قصف بيرل هاربر : اليابان تتجرأ على أمريكا

كل شيء بدأ في صباح يوم السابع من كانون الأول عام 1941، حيث الطيران الحربي الياباني ألقى تحية صباح على القاعدة البحرية الأمريكية بيرل هاربر قرب جزر هواي. طائرات حربية يابانية قُدر عددها بالمئات، حلّقت ذاك الصباح في المحيط الهادئ، ثم بغتةً قصفت أسطول بيرل هابر، وأسفر الهجوم على مقتل أزيد من ألفين وأربعمائة شخص وجُرح أزيد من الألف، وكان ضمنهم مدنيين. نتج عن الهجوم كذلك غرق عشرون سفينة أمريكية بينهم ثلاث سُفن حربية، وتدمير أزيد من ثلاثمائة طائرة حربية. الهجوم على بيرل هابر شكل صدمة للقيادة الأمريكية وشعبها الذي كان يرفض من قبل انخراط بلده في الحرب، إلا أن قصف بيرل هاربر من قبل اليابانيين، دفع أمريكا قيادة وشعبًا للتخلي عن الحياد واقتحام معارك الحرب العالمية الثانية. ففي اليوم الموالي للهجوم على بيرل هاربر، طلب الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت من مجلس الشيوخ إعلان الحرب على اليابان، واستيقظ الوحش الأمريكي الذي عبث به الياباني في المحيط الهادئ ومسّ أُنفته.


قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربر؛ كان بين اليابان وأمريكا علاقة مُتشنجة، وكانا يسيران للحرب منذ عقود، فالولايات المتحدة تدعم الصين وترفض احتلالها من قبل اليابان، وهذه الأخيرة التي وجدت في التوسع إلى جارتها الغنية بالموارد، السبيل الوحيد للقطيعة مع مشاكلها الاقتصادية. كانت اليابان في ذلك الزمان قوة حربية عظمى، وتملك ثاني أقوى أسطول بحري بعد الأسطول البريطاني، وقد اجتاحت اليابان الصين عام 1937 وأسالت فيها أنْهرٍ من الدماء. الرد الأمريكي على العدوان الياباني كان بالعقوبات الاقتصادية والحظر التجاري، فقد اعتقد الأمريكيين أن ضرب اليابان في الإقتصاد وخاصة الامدادات الأساسية مثل النفط، كفيل لكبح جماحها في التوسع. ذلك لم يحصل، فقد ظلت اليابان ثابتة على موقفها، وفشلت كل المفوضات بين طوكيو وواشنطن، وكان الحرب لا مرد لها بين البلدين في ظل أضواع عالمية ارتفعت في كل بقاعه أصوات المدافع، وهكذا كان طريق الوصول إلى بيرل هاربر.

أمريكا تقرر إنهاء اللعبة

بحلول عام 1945 كانت اليابان قد خسرت الحرب، إلا أن اليابانيين رفضوا الاستسلام وواصلوا القتال. هذا جعل أمريكا تفكر كيف تنهي الحرب وتجعل اليابان تضع السلاح جانبا وتُلَوِّح بالراية البيضاء.

الرئيس الأمريكي هاري اس تورمان (1953 - 1945)

اجتمع الرئيس هاري إس تورمان مع كبار مستشريه لنقاش سُبل إنهاء الحرب في اليابان الذي لا لم يزد عن القصف الجوي بعد، وجعل اليابان تستسلم وتُعلن الهزيمة. لقد طُرحت أربع مخططات في طاولة الأمريكيين، الأولى مواصلة القتال التقليدي. الثانية، غزو اليابان. الثالثة، إلقاء قنبلة ذرية على جزيرة غير مأهولة. الرابعة، إلقاء قنبلة ذرية على مدينة مأهولة. ويذكر أن القنابل الذرية كانت سرية في ذلك الزمن، وحتى أغسطس 1945 كان بحوزة أمريكا قنبلتين فقط.

خلص الرئيس تورمان أن السبيل الوحيد لاستسلام اليابان هو إلقاء قنبلة ذرية على مدينة مأهولة في البلد، ولم يكن الجميع على اتفاق مع الرئيس، فالجنرال دوغلاس ماك آرثر وبعض كبار القادة العسكريين فضلوا مواصلة القصف التقليدي لمدن اليابان، على أن يتم لاحقًا غزو واسع النطاق. رفض الرئيس هذا الاحتمال ورأى أنه قد يكون مكلفًا للجيش الأمريكي، ثم سيأخذ وقتًا لا أحد يعلم مداه. وظل الرئيس ينظر إلى جهة القنبلة الذرية، رغم التحذيرات الأخلاقية التي سمعها ممن حوله، تحديدًا من علماء مشروع مانهاتن السري الذين أنتجوا القنابل الذرية، كذلك وزير الحرب هنري ستيمسون والجنرال دوايت أيزنهاور. بالمقابل يوجد من دعم إلقاء القنبلة الذرية على اليابان، مثل وزير الخارجية جيمس بيرنيز، الذي كان متحمسًا، وذهب إلى أن إلقاء القنبلة المدمرة لن يجعل اليابان تستلم فحسب؛ بل سيضع الهيمنة في يد أمريكا لرسم مسار العالم بعد الحرب. ولأن في الأمر هيمنة ومستقبل العالم وسدّة الكوكب بعد هدوء المدافع، فقد قضيّ الأمر، وقررت الولايات المتحدة الأمريكية إلقاء القنبلة الذرية على اليابان، واقترح البعض استهداف منشأة عسكرية بعيدة عن المدنيين، آخرون فضلوا إلقاءها على خليج طوكيو كنوع من الترهيب لليابان ودفعها للاستسلام. لكن مساعي أمريكا تتجاوز النيل من اليابان، بل تصل إلى إنذار العالم، وإذ ذاك يتوجب أن يرى الكوكب بأم عينيه القدرة التدميرية للقنبلة الجديدة، وكذلك وضع الأمريكيين احتمال نشوب حرب عالمية مدمرة في المستقبل، وعند كشف الغطاء عن قبلتهم الجديدة وتجربة دمارها وقدرتها على محو مدينة على الخريطة؛ فهي رسالة غير مشفرة لمن يفكر بالعبث مع أمريكا مستقبلا لو حدث واشتعل العالم مرة أخرى. في الأخير تم تحديد هدف قنبلتهم المدمرة، مدينة هيروشيما، لعدة أسباب، أولها، وجود مصانع عسكرية كبيرة ومنشآت، كذلك المدينة مضغوطة، وعند سقوط القنبلة في وسطها فستتدمر المدينة وستحصل أمريكا على الصور الفظيعة التي تحتاج أن يراها العالم عن قدرة أسلحتها. كما تقرر إلقاء قنبلة ذرية ثانية على مدينة ناغاساكي.

وفُتحت أبواب الجحيم !

في جزيرة تينيان الواقعة في المحيط الهادئ، عند الساعة الثالثة إلا ربع صباحًا، ليوم السادس من آب أغسطس 1945، أقلعت قاذفة القنابل أمريكية من نوع b-29 وتُسمى إينولا جاي، enola gay ويقودها العقيد لول تيبتس، وعلى متنها هدية أمريكا إلى اليابان، "الولد الصغير" كما أطلقوا عليها، إنها القنبلة الذرية.


الفريق الذي ألقى القنبلة الذرية على هيروشيما

في الساعة السابعة والربع صباحًا تم تجهيز القنبلة داخل الطائرة الحربية، التي بدأت تأخذ الارتفاع المطلوب وهو تسعة آلاف وستمائة متر. في هذه الأثناء ستصل طائرة الأرصاد الأمريكية إلى سماء هيروشيما لتفقد حالة الطقس.

الساعة الثامنة وربع، ستظهر الطائرة الحربية إينولا جاي في سماء هيروشيما، إنما لا شيء يدعو للقلق بالنسبة للسكان هيروشيما في هذا الصباح الذي طبعه جو صافي جميل، وحتى من انتبه لتحليق الطائرة لم يستشعر أي خطورة، فهي لا تشبه سرب المقاتلات. كانت إينولا جاي على الارتفاع المطلوب، أي قرابة عشر كيلو مترات، وبعد تحديد الهدف، فُتحت المقصورة حيث يستلقي "الولد الصغير" الذي هوى في سماء هيروشيما، وقبل وصوله للأرض ببُعد خمسمائة وثمانين مترًا، أي بعد سقوطه بثمانية وأربعون ثانية؛ ستنفجر أول قنبلة ذرية فوق رؤوس البشر في التاريخ، وأقوى سلاح تأذى به البشر. فجأة وقع انفجار مُروع هز مدينة هيروشيما وسكانها البالغ عددهم أزيد من ثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، وظهر وميض أبيض في السماء، وارتفع عمود دخان فوق المدينة.


القنبلة التي تُدعى الولد الصغير، أحدثت الضرر الكبير، وكأن جهنمًا هوى على هيروشيما ودمر ثلثيها وحول وسطها إلى كثبان رماد يفوح منها رائحة الإنسان الذي تحول إلى أكوام متفحمة بعد أن كاد يُمحى أثره كليًا من هول ما أُلقيّ عليه. لقد مات أزيد من ثمانين ألف وأصيب نفس العدد بعد انفجار القنبلة بلحظات، هذا العدد سيزداد إلى مائة وستين ألف، وبذلك يكون أكبر عدد ضحايا تسبب به سلاح واحد، كان قنبلة هيروشيما.

بعد ثلاث أيام، ستطوح أمريكا بقنبلة ذرية أخرى في سماء اليابان، هذه المرة كانت من نصيب مدينة ناغاساكي، ومات فيها أربعون ألفًا. وإلى هنا ستستسلم اليابان دون شروط، معلنة الهزيمة، وكان ذلك الحلقة الأخير من أشرس حرب عرفتها البشرية، الحرب العالمية الثانية.

عاد طاقم إينولا جاي إلى موطنهم، وانتهى الأمر بالنسبة للأمريكيين بعد أن ألقوا قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكاساغي، لكن بالنسبة لليابانيين فالقصة في بدايتها، وأضرار "الولد الصغير" ستعيش معهم لعقود طويلة، فقد تأثر أغلب سكان مديني هيروشيما وناكاساغي بالإشعاع الذي نتج عن انفجار القنلبة الذرية، وعانى عشرات الألاف من تشوهات خلقية، ومن سعفه الحظ ولم يتعرض للتشوهات، فقد دمر الإشعاع في أجسامهم الخلاية وأتلف الأنجسة وهيأهم لمختلف الأمراض، وعانى السكان من الأثار الصحية طويلة الأمد، فبعد عامين فقط، ازداد عدد المصابين بسرطان الدم، وتضاعف المصابين في السنوات القادمة، كما ظهرت مختلف أنواع السرطان والأورام في هيروشيما وناكاساغي بعد مرور عشر سنوات من الهجوم الذري على المدينتين، وأخذت الأرقام المصابين ترتفع بشكل مهول. للتتواصل مأساة الجريمة العظمى لسنوات طويلة.

يحكي أحد الناجين من الهجوم على هيروشيما، أن أخته الصغرى، التي كانت طفلة بعد أن تعرضت للإشعاع الحاد جراء الانفجار القوي، قد عانت من تقلصات عضلية مزمنة إضافة إلى مشاكل في الكلى، التي يتطلب أن تذهب للمستشفى ثلاث مرات لغسيل الكلى، وكانت تردد أثناء وجعها:

"ماذا فعلتُ للأمريكيين؟ لمَ فعلوا بي هذا؟"



تعليقات

  1. لو قصفوا المنشآت العسكرية بأي سلاح كنا لنتفهم أنها الحرب ولكن قصف مدينة بناسها بالقنبلة الذرية فهي جريمة بشعة واليوم تجدهم يتحدثون عن السلام !! والمصيبة ما قاله الرئيس بعد الجريمة قال بأن التغلب على الشيطان يتوجب عليك التصرف مثله ! وبرر آخرون بأنها الطريقة الوحيدة لتوقف الحرب حتى لا يزداد القتلى وتجاهلوا الأضرار على ابرياء هيروشيما التي استمرت بقية حياتهم

    عموما مقال جميل لكن تنقصه (الكلمة) المعتادة منك في الخاتمة ولهذا لم نسمع لك رأيا هههه

    ردحذف
  2. أهلا أهلا بوطيب..

    ها أنت ترى الواقع التي تُفرض فيه القوة نفسها، لا إنسانية ولا ضفادع. أكسر عظامك وأقول لك هذا من اجل السلام!

    أتفق معك تماما، فلو قصفوا قواعد عسكرية فلن يلومهم احد، ولكن إسقاط قنبلة ذرية وسط المدينة فهي الجريمة العظمى.

    أما كلمتي هذه فقالت الفتاة الناجية من القصف والتي عانت من متاعب صحية لاحقا: "ماذا فعلت لأمريكا حتى فعلوا بي هذا؟"

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية