حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما



واحدة من أشهر ما يزخر به الفلكلور الأمازيغي المغربي، أسطورة حمو أونامير، التي تناقلتها ألسنة الأجيال لأزمنة متعاقبة، وما تزال الأسطورة تواصل اختراق الزمن.. عن شاب مليح المحيا نبوغ أقرانه، تتبدل أحواله بعد أن زارته في غرفته ذات ليلة، حورية تشبه نساء البشر، ففاقتهم جمالاً، وبعد أن تزوج بها لفترة قصيرة، انقطع الوصال بينهما بسبب والدته، وعزم حمو على بحث عظيم للقاء الملاك الذي اختفى، وأخذ معه قلبه وعقله.. إنه عشق ليس متاحًا للبشر، عدا الشاب حمو.

للقراءة عن الأسطورة الشعبية، إضغط هنا.

2003، ثلاث عشر سنة تمر على إنتاج فيلم "بوتفوناست".. العربي آلتيت من جديد يسعى لخلق الحدث السنيمائي، بعد أفلام عديدة صعدت بها شركة إنتاجه "وردة برودكسيون" هذه المرة، يُقلب العربي في أورقة الفلكلور الأمازيغي، ليستقر على أسطورة حمو أونامير الشهيرة، ولأنّ الحكاية تدور بين السماء والأرض في أجواء فانتازية، وسمع بها القاصي والداني؛ فالتحدي ليس بالهيّن، وحتى يقع الابهار، فلا مرد من التفكير العميق والتنفيذ بالحذافر. أحضر آلتيت طاقات شبابية حديثة التخرج، من أبرزها، مخرجة أمازيغية شابة وطموحة، تدعى فاطمة علي بوبكدي، وبدأ العمل.

الشاب حمو والحورية 

في غابر الأزمان، عند قبيلة أمازيغية تعرف بالعلوم الدينية، يتخرج سنويًا من الكُتّاب فيها (دار القرآن) حفظة الذكر الحكيم، والعلوم الشرعية.. قريةٌ داع صيتها في كل البقاع، حتى اخترق صداها مكان مجهول في خليقة الله، في مكان ما يتخلله الظلام، قلعة مشؤومة يحوم حولها الضباب، يسكن فيها أنصار الشر، تحت تصرف ملكتهم تدعى "تامرويْت".

"تامرويت"، طُردت من عالم الأخيار، وأنشأت لنفسها مملكة الشر، همها يكمن في نشر الشر في بقاع الأرض، وتحديدًا في قبيلة حفظة القرآن، وجعلت من كسر لوحات الطلاب وسكب مدادهم غايتها.. فتُرسل خدامها لتنفيذ المهمة واطفاء شعلة العلم في القبيلة.. ولأن الشر لا يسير وحيدًا، فلا بد أن يلقى الخير يترصد ليبطل أفعاله الشنيعة.. فقبيلة حفظة القرآن، تحظى بعيون الخير تراقبها من عنان السماء، حيث طُردت الشريرة "تامرويْت"، في قلعة تتدفق المياه أسفلها، توجد حورية وقعت في المحظور، وأُغرمت ببشريٍ يدعى حمو، وهو طالب كُتّاب يعرف في القبيلة بخير خلف لسالف العلماء، وينتظر منه أن يحمل شعلة العلم في الآتي.. غرام جعل الحرية تراقبه من السماء، حتى قررت التمرد والحضور للأرض عند الشاب حمو، فاخترقت السموات ووصلت للأرض على هيئة نجم ساطع دخل من نافذة الكُتّاب، وجلست تراقب حمو هناك، فزاد تمردها ذات ليلة، وحضرت لغرفة معشوقها، ووضعت صبغة الحناء على كف يده عربونًا للمحبة.. إنما بصنعيها قد تأدى حمو، فطلاء بالحناء في أعراف القبيلة حكر على النساء، وعار لو شُهد في كف الرجال.. استيقظ حمو ليلقى وشم الحناء في يده، فهلّه ذلك، ونادى أمه يعاتبها، عن الذي فعلت بيّده وهو نائم؟ أنكرت الأم أن تكون الفاعلة، وزاد استغرابهما عن مصدر هذا العار في يد حمو، الذي رفض الذهاب للكُتّاب هذا الصباح، خشية أن يرى أحدهم الحناء في يده ويصيبه الخزي! اقترحت أمه أن تضع ضمادة على يده لحجب العار، ويوهم الناس بأنه أصيب في يده، إلى أن يندثر طلاء الحناء، وهكذا حضر حمو إلى الكتّاب وأخبر المعلم وزملائه أنه أصيب في يده، وهكذا صدقوه، وظن حمو وأمه أنهما قد أحجبا الفضيحة، لولا أن "تامرويْت" تراقب كل ما يجري في القبيلة، وأرسلت خادمها لفضح حمو بين أهل قبيلته، وزرع الفتنة هناك. حضر الخادم وتعرض لطالب في الكتّاب، وأحد من يحقد على نبوغ حمو ومحبة الناس له، فأوهمه أنه ملاك مرسل إليه، وقد اصطفاه بين أقرانه ليرده وليًا صالحًا، فأخبره عن السر الذي يحجبه حمو في يده، ألا وهو صبغة الحناء، فأمره أن يفضحه أمام زملائه ومعلمه، بل وأمام كل أهل القبيلة، وبهذا الصنيع ستتبدل صورة حمو في أعين الناس، ويأخذ مكانه الطالب الحاقد، وهكذا وجدها الطالب سانحة الدهر للقضاء على حمو، فأخبر المعلم أولاً بما يوجد في كف طالبه المحبب، فأمر المعلم حمو بإزالة الضمادة من يده، وفعل حمو، وشهر العار في كفه أمام زملائه.. عاتبه المعلم بحسرة على أنجب الطلاب الذي خاب فيه الظن.. أقسم حمو أنه لا يعرف مصدر صبغة الحناء، فلا صدقه أحد.. وبذلك أغلق حمو على نفسه الغرفة فيبكي عاره، بينما أمه تجهز المستحضرات علّها تُفلح في محو أثر الحناء على كف ابنها التعيس. احتفلت "تامرويْت" بنجاح مبعوثها، بينما أصاب حزن عظيم الحورية التي كانت وراء تعاسة معشوقها، وقررت اصلاح خطيئتها، فحضرت مرة أخرى لغرفة حمو، وأخذت بريش أبيض تمرره على كف يد حمو حتى اختفت صبغة الحناء، وقبل مغادرتها، استيقظ حمو وقبض على يدها، وقد انبهر بجمالها.. أخبرته من تكون، وأنها أُعجبت به وبنبوغه، والحناء في عُرفهم ليس بالعار، بل ينم عن عربون المحبة.. طلب منها حمو وسيلة تجعله يلتقي بها متى يشاء، فسلمت له كيس جلدي فيه ريش أبيض، وأوصته بالحفاظ عليه من الضياع.. في الصباح، نادى حمو والدته وأطلعها على كفه المفرغ من طلاء الحناء، فانبهرت أمه للذي حصل، وتعجبت له وهي تسأله عن كيفية انجلاء صبغة الحناء بهذه السرعة، فقال: "كما وُضع يا أماه، زال!"

سيعود حمو إلى الكُتّاب، ويطلع الفقيه وزملائه عن زوال طلاء الحناء لوحده.. فقال المعلم: "هذا لا يحدث إلا مع الأولياء الصالحين" فاستعاد حمو مكانته في القبيلة، بل وتعظمت عن ذي قبل.. لكن هل ستتركه "تامروريْت" وشأنه، تحديدًا بعد أن اكتشفت اهتمام الحورية به وأعدائها في عالم الخير؟ لا، بل ستنطلق معركة بينا أهل الخير والشر، والساحة، هي حمو وما يحيط به.. "تامرويْت" سترسل خادمها على هيئة خالة حمو، وستحضر لزيارة والدته، وتخبرها أن ابنها حمو، قد أصابه مس شيطاني، وهذا تفسير حديثه في غرفته في الليل وحيدًا، وإنّ عليها أن تحرق كل ما يدعو للريبة في أغراضه، وهكذا صدقتها والدة حمو ظنا أنها شقيقتها وتبتغي لها الخير، فحرقت كل الذي تشك به من أغراض حمو، علّه يكون بينه سحر مخفي، ومن بين ما قذفته للنيران، كان الكيس المُسّلم من الحورية، فاكتشف حمو فعلة والدته، فعاتبها أي عتاب! وأغلق على نفسه باب غرفته، وانعزل عن للناس، وهو يتوسل للحورية أن تظهر له، وأنه لم يخن العهد بينهما، فلا جاءت إليه، فزاد حزن حمو، وظل على حاله الحزين، حتى ذات ليلة رأى في منامه، الحورية تجلس في مكان لم يرَ جماله في حياته، مياه صافية تجري فيه، والاخضرار يحيط بها، كأنها في الجنة.. قرر حمو أن يشد الرحال ويجوب مغارب الأرض ومشارقها، حتى يلقى الأرض التي بدّت له في المنام.. ترك والدته وحيدة، وانطلق إلى رحلة البحث عن الملاك الضائع، فسقط في يد قبيلة في الأدغال تعبد النيران، فعزموا أن يجعلوا منه قربانًا لآلهتهم، لولا أن أُغرمت به ابنة الزعيم، فزوجوه بها عنوة، واشترطوا عليه عُرف قبيلتهم، أنّ إذا رحل الزوج، فسترحل معه زوجته مرغمة لا مُخيرة، وكذلك العكس، فظن حمو أنهم يقصدون بالرحيل، أي الهجرة، وتهيأ للرحيل مع زوجته الجديدة من صبيحة اليوم الموالي، بينما أهل الأدغال كانوا يتحدثون عن الموت.. فوجدت "تامرويْت" سانحة أخرى لتخلص من حمو، والانتصار على أرض الحوريات في المعركة، وها هي ترسل مرسولاً آخر، هذه المرة لتسميم عروسة حمو، وكذلك نجحت وماتت العروس قبل ليلتها الأولى، فكان لزامًا أن يلحق بها العريس حمو، إلا أنه نجى بمعجزة بعد تدخل الحورية.. وهكذا لا تقدر الحورية أن تظهر من جديد لحمو وتنهي رحلته، بسبب مراقبة "تامرويْت" الدائم له ولها، حتى تتقي شرها وتحمي حمو منها، وكذا الشريرة تقدر على جر الحورية إلى عالم الشر، وبمجرد أن تلمس الحورية اليافعة، ستسلب منها قلادة النور التي ستزيد من قدرات "تامرويْت" ما يقودها للانتصار في حربها على عالمها السابق.. في غمرة هذا الصراع والحقد والحذر، نلقى الشاب حمو هائم على البسيطة، لا مقصد له ولا مرمد، يبحث عن ما ليس موجودًا حيث يجوب، عن ماء، لم يُرَ لمثله نقاء يتدفق من السماء، في أرض يكسوها ربيع دائم، وعن حمامة بيضاء تتكلم كالبشر.. فهل يجد مراده، كما في الأسطورة، وبعدُ يتمزق بدنه بين السماء والأرض؛ أي بين عالميْ عشقه ووالدته؟ أو أنّ لصناع الفيلم رأي آخر؟

في الكثير من الإحصاءات، اعتُبر فيلم "حمو أو نامير" على أنه أفضل ما أنتجته السينما الأمازيغية حتى الآن، وهي انطلاقة جديدة لشركة "وردة برودكسيون" عام 2003 وصاحبها العربي آلتيت، الذي قدم لنا مخرجة شابة، تُدعى فاطمة على بوبكدي، التي ستلقبها الصحافة المغربية فيما بعد، بــ"سيدة الحكي التي فتنت المغاربة" بحيث شكلت ثنائيًا رهيبًا مع العربي آلتيت في القادم، وصنعوا نجاحات مبهرة في عالم السينما والدراما، وحافظوا على الطابع الأمازيغي التاريخي لإبداعاتهم.. ولأنّ الشيء الجميل - عادةً - لا يدوم طويلاً، فقد انتهى تعاونها عام 2014.

تعليقات

  1. حكاية أكثر من رائعة وأضاف لها سردك روعة وتشويق .. وكما عهدناك متمكن ما شاء الله من فن السرد.

    معجبة بقلمك من موقع كابوس.



    ردحذف
    الردود
    1. أشكركِ جزيلا، وإن شاء الله نظل عند حسن ظنك.. ومرحبا بكل الأعزاء من موقع كابوس

      حذف
  2. يبدو سيناريو الفيلم أفضل من الأسطورة هههه وشوقتني لمعرفة النهاية وأظنها ستكون سعيدة طالما هناك مواجهة بين الخير والشر ، هذا من جانب ومن جانب اخر ألا ترى معي أن إنتاجات شركة وردة تكرر نفسها ؟؟ أقصد ظلت حبيسة الدراما والأفلام التراثية ولم تنوع ، ولا ننس نفس الموسيقى التي اعتمدتها في أعمال كثيرة ، ربما صديقك العربي ألتيت له صلة قرابة مع التاجر عثمان ويتجنب صرف الكثير من المال ههههه وبرأيي المخرجة فاطمة بوبكدي وشقيقها إبراهيم هم أكبر أسباب نجاح شركة وردة

    ردحذف
  3. أتفق معك إلى حد ما، لأن أحداث الأسطورة تميل للإختزل، بينما في الفيلم نجد الأحداث مستوحاة فقط، ووجد صناع الفيلم مساحة كبيرة للإبداع.. أما عن النهاية، فشاهد الفيلم لتتعرف عليها ^^ وهو مترجم بالعربية والفرنسية أيضا.

    عن انتقاداتك للشركة، فأغلب النقاد أشاروا لها من قبل، تحديدا، الموسيقى التي تكررت في أعمال وردة، وللأمانة، فقد تغيرت في أعمالها بعد عام 2010.. فيما يخص التكرار، فلا أتفق معك البتة.. هذا تخصصهم، وقد نجحوا فيه بشهادة الجمهور قبل النقاد، فاحترام التخصص ليس تكرارا، وأضف إلى ذلك، أن هؤلاء الناس تستهويهم ثقافتهم الأمازيغية ويحاولون جاهدين إحياءها. أما عن بخل المنتج آلتيت، فربما يجوز هههه رغم أن شركته اليوم تلعب بالملايين.. وطبعا لا أحد ينكر فضل الإخوة فاطمة وإبراهيم بوبكدي على الشركة، لكن في نفس الوقت، هما خرجا من ضلع وردة، يعني الفضل متبادل.

    ردحذف
  4. ما يعجبني في الأفلام الأمازيغية كونها ركزت على المخيال الرمزي للشعب و كذلك الميثولوجيا وهذا ما أعطى للفن السينمائي الأمازيغي رونقا و هذا غائب على مستوى الأفلام الدارجة المغربية و التي إبتعدت منذ البداية عن واقع و ثقافة و الذاكرة الجماعية للشعب و هذا يظهر في كون أن الأفلام الأمازيغية التي لم تظهر إلا في سنوات التسعينيات و التي سرعان ما إتجه إليها المهاجر - أقصد الإنسان الأمازيغي الذي هاجر إلى المركز و كون تلك الوقت كان الهامش لا يتوفر على الوسائل التي ستمكنه من مشاهدة هذه الأفلام - لأنه سئم من تلك الأفلام التي تريد أن تخرجه من واقع و من بيئته ، و هذا ما وجد في الأفلام ذات الطابع الأمازيغي و طابع هنا يحمل عدة أشياء كون أنها نابعة من المتخيل الرمزي و كون أنها عبارة عن دراسات أنثروبولوجية و سوسيولوجية و تاريخية التي ساعدتها على كسب مكانة داخل المجتمع رغم أنها الآن في الإنهيار راجع لما هو سياسي ....

    ردحذف
  5. أصبت (👌) لأنه من أكبر أسباب نجاح السينما الأمازيغية في بداياتها - رغم قلة الإمكانيات والاقصاء وكذا دروب السياسة - كان اقتحام المجال السنيمائي من باب ما حُمل من السرديات الشفهية المثوارة.. وكما عبرتَ، فالمتلقي الأمازيغي - وبعد أن استيأس - وجد نفسه فيما يُعرض له واعتبر ذلك نجاحا، فقد لمس فيه جانبا لن يقدر عليه اسقاط ثقافة أخرى على العرض.

    شكرا جزيلا على حسن القراءة والرد.

    ردحذف
  6. السلام عليكم ورحمة الله

    هل تقبل نشر مقالات كتبها غيرك ؟

    ردحذف
  7. عليكم السلام،

    نعم أقبل.. وهناك وسم "كتابات أصدقائي" فتحته قبل أزيد من سنة، لكن لكي ينشر الموضوع، فعليه أن لا يكون قد نُشر سابقا في مكان آخر على الشبكة، حتى لا نخسر الترتيب في محركات البحث، لأننا مدونة مجانية، وهذا هو الشرط الأساسي.. ثم يأتي طبيعة النص، وأنا كما ترى، أنشر القصص القصيرة والمقالات الثقافية التي تتناول المواضيع بموضوعية، كما يمكن نشر عن اقتراحات أو مراجعات في عالم الأدب.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -