الحطاب


(قصة قصيرة)

رنّ المنبه، ثم جعلته يغفو، وها هو يرنّ من جديد، قابلته بخنق أنفاسه، فغفوة أخرى يا هذا المزعج.. صمت لحين ثم يزمر من جديد، هذه المرة كأنه يشتمني! لا أقدر على النهوض أيها الملعون من المنبهات، إني أشعر بصخرة ثقيلة وُضعت على ظهري فأثقلت حركتي.. لكنه لا يكترث وواصل الضجيج، حتى أنه ما عاد يقبل غفوة أخرى! ألك عقل يفكر يا الذي يزعجني؟ وها قد نهضت من جنة فراشي، لأرى هذا الذي يستحق أن نُفارق النوم لأجل؟ أنرت المصباح، فتبيّن لي ذلك المنبه الضئيل الحجم الذي كان سببًا في افساد نعاسي، والعقارب فيه تقعُ على الخامسة واقتراب النصف صباحًا.. كان عليّ الاستيقاظ قبل ساعة إلا ربع.. حقدت عليه! شعرت برغبة في صفعه، ففكرت، ما ذنبه؟ لم أجد ما يُدينه.. فتحت النافذة، لألقى القمر ينشر نوره في كل مكان، والهدوء يكنف القرية، لا ضوء فيها عدا مصباح الله، أأنا المستيقظ الوحيد في هذا العالم؟ زاد حقدي على المنبه! استدرت إليه مرسلاً السبّة الأخيرة، وغادرت الغرفة.

كان عليّ تجهيز الفطور، لكني لست جائعًا، وهذا لم يحدث معي إلا هذا الصباح، فقد ألفت على تعبئة أمعائي قبل الخروج إلى عملي الشبه يومي.. حملت معي نصف خبزة وقنينة ماء، وتوجهت ناحية غرفة حماري هناك في فناء المنزل ليحملني إلى الغابة.. وجدته فاتحًا فمه وهو غاص في نوم سحيق، فشعرت كأني سأتقمص دور ذلك المنبه الشرير وأُفسد نعاس حماري العزيز.. نوائب الدهر تدور يا ذا الأذنين. ناديت عليه فلا مجيب، فكررت الفعل، ثم لا جديد، حتى اقتربت من أذنه وهمست فيها : "يا حمار استيقظ، إنها تباشير الصباح، وكل الحمير قد استيقظت وأكلت ما طاب من شعير، وغسلت أسنانها، إلا أنت". فتح عيناه وقد اغروْرَقتا بلزجّة النوم، ونظر إليّ بامتعاض: "يا حماري، لا تحقد عليّ، فهذا ما فُعل بي كذلك.. ألم أقل لك بعد؟" قدمت له الشعير حتى يفطر به، فلم يبتلع ولو لقمة واحدة، ظل يشتَّمه ويطرق برأسه ! على غراري لو تتذكرون، وهكذا أنا والحمار لم يُكتب لنا تناول وجبة الفطور هذا الصباح. امتطيت الحمار وتوجهت نحو الغابة لجلب الحطب، والقمر ما يزال يضيء القرية، فلا أحد سواي مستيقظ.. لا، بل أنا وحماري، لكن مهلاً! الحمار يمشي نائمًا! هكذا صرت المخلوق الوحيد المستيقظ في هذه القرية البئيسة، ثم سمعت صوت نباح الكلاب يقترب، يقترب، ولذا لم أعد المخلوق الوحيد، فتوجد مخلوقات أخرى تقاسمني في الاستيقاظ.. وزاد النباح، حتى صار رهط كلاب مسعورة خلف الحمار، حول أقدمها، تموُّجات غُبار تتصاعد وتتلاشى. حاولت صرف الكلاب، فلا انصرفوا، وإن خفضوا من نباحهم قليلاً، بينما الحمار يواصل المشيء وقد أغلق عيناه.. أدغدغ عنقه فيستيقظ، وبعد حين، ينام، ثم أعاود فيه الدغدغة، فيفتح عيناه، وهكذا حتى وصلنا للغابة، بعد مسير فيه جلبة الكلاب وتشجم الحمار.. نام حماري وانتشرت الكلاب، ورحت أجمع الحطب، حتى بدا لي ما جمعته كافيًا للعودة، ورحت أوقظ الحمار من جديد.. وعدنا إلى منزلنا بعد أن حطبنا، الحمار في سبيلنا يغفو ويصحو، الكلاب انتشرت في الغابة، القمر ينير طريقنا.. ثم نسيت أي أنا، ولاذ العالم في صمت، وانطفأت أنواره، حتى تناهى إلى مسامعي صوت مؤذن ينادي لصلاة الفجر.. أفقت مذعورًا، وأتساءل مع نفسي، أكان حلمًا أو واقعًا؟ عظم عليّ اقتناء الحقيقة من الزّيف، فلم ألقَ سوى التوجه إلى غرفة الحمار في فناء المنزل، علّني أجد لديه الحقيقة! فكانت هناك تنتظر قدومي، فقد وجدت إلى جانب حماري النائم، كثلة من حطب جديد، فأضرب الأخماس في الأسداس راجعًا إلى غرفتي، فجلست على حافة سريري، وأحاول إماطة اللثام عن واقعة ليلتي، وهي الحلم الذي يبدو أنه تدخل في الحقيقة، ثم استدرت ناحية المنبه، لأجد فيه العقارب تشير للساعة الواحدة إلا ربع زوالاً! فجنّ جنون جنوني، فحملته وخبطت به الحائط وتطايرت منه أشلاءه، وتوجهت مرة أخرى إلى غرفة حماري، هذه المرة لأقدم له اعتذارًا رسميًا.

تعليقات

  1. فكرة بسيطة جعلت منها قصة كاملة الأركان ، هكذا تكون القصص القصيرة بأصولها بعيدا عن كثرة الدراما والحوارات ولقد جعلتني أستمتع وأبتسم في آن واحد . ويبقى السؤال من يستحق اللوم هل المنبه أو الحطاب ؟

    ردحذف
  2. أنا أيضا لا أميل كثيرا للقصة المليئة بالدراما.. أفضل القصص التي تُبنى من أفكار بسيطة فتُحبّك حبكا.. وأقول لك، الذين يكتبون القصص الدرامية - في الأغلب - متأثرين بالرواية في الأصل وليس القصة القصيرة التقليدية.. وهذا لا يُنقص شيئا في كل الأحوال، أو الخروج عن القاعدة، فالابداع ليس له حدود.

    الحطاب طبعا من يلام، لأنه لم ينتبه لمرتين.. أتعرفت عليهما.

    شكرا سيد علي.

    ردحذف
    الردود
    1. الأولى: لم ينتبه لعطل المنبه قبل النوم وهذا هو أصل القصة والسبب الرئيس هههه

      الثانية : يمكن أحداث ذلك الصباح ليست معتادة ، فهو تعب جدا على غير العادة ولم يستطع الافطار أيضا والحمار وقع له نفس الشيء ، لكن حتى لو شكك فيما يحدث يبقى المنبه هو الحاكم هنا ، لذا هو السبب الرئيسي هههه

      حذف
    2. تماما.. المنبه هو سبب وجود القصة من الأساس ^^ إنما الحطاب لم يحسن تحليل الإشارات التي تلقاها بعد أن استيقظ منتصف الليل ليحطب هههه

      حذف
  3. نوائب الدنيا تدور يا ذا الأذنين ههههه كالعادة تشدني بعض عباراتك لأتوقف عندها وهذه أضحكتني كثيرا

    قصة بسيطة محببة للنفس متقنة في صياغتها .. أحسنت واصل

    شادية ♡

    ردحذف
  4. دائما ما يسعدني أن أجد أحدهم تستوقفه اقتباسات مما أكتبه، وأقول أن هذا لا يحدث إلا مع القراء أشداء التمعن.. تشكراتنا يا شادية على المرور الطيب كلعادة ^^

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

تازمامارت .. أحياء في قبور !