عمر الرداد .. omar m'a tuer



هي واحدة من القضايا التي أثارت الرأي العام المغربي ونظيره الفرنسي في آن واحد. قضية تبدو عادية تحدث كل يوم في أي مكان، ولا تستّحق أي صخب.. إنما لا، أبدًا، بل هاته ستلهث ورائها وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، وتحضر فيها الأنانية، الأنفة، الشرف، العنصرية، قصر الإليزيه، قصر الرباط، كل هذا عند عبارة واحدة كُتبت بلغة فرنسية بدماء بشرية على باب موصود، وتحتوي خطأ إملائي: omar m'a tuer, (عمر قتلني).

إنه يوم الإثنين 24 يونيو عام 1991، في منطقة موجينس، القريبة من مدينة نيس جنوب فرنسا، وفي أحد المنازل الفاخرة، عثر رجال الدرك على سيدة سابحة في دمائها عند غرفة مقفلة في قبو منزلها، ولديها عدة جروح في جسدها، إلى جانبها عمود ملطخ بالدماء يظهر أنه أداة الجريمة، هذا بعد تكسير الباب للوُلوج إلى مسرح الجريمة.. لحظات فقط، حتى التّقطت أنظار الدرك عبارة مخطوطة بالدماء على الباب المكسور، كُتب عليها بالفرنسية "عمر قتلني"، إلى جانبه على بعد أمتار قليلة، تكررت نفس العبارة على جدار الغرفة، لكنها غير مكتملة.

مسرح الجريمة، والباب الذي تظهر عليه العبارة الشهيرة

كان واضحًا أن من كتب تلك العبارة، هي الضحية قبل أن تلفظ آخر نفسها، وقد أغلقت الباب من الداخل باستعمال عمود حديدي خشية عودة القاتل، ثم حاولت تكرار كتابة نفس العبارة للمرة الثانية، إلا أنها لم تتمكن من اتمامها، ويظهر على الباب الجهة التي كانت الضحية تستند إليها أثناء الكتابة.

الضحية جيزلين مرشال

هي تُدعى جيزلين مرشال، سيدة غنية تعيش لوحدها، بعد موت زوجها ابن مؤسس مصانع مرشال عام 1983، ولها ابن واحد كريستيان، البالغ من العمر 46 عامًا، وهو يعيش بعيدًا عنها. فمن يكون عمر بغيض الحظ ذاك؟. أولى تحريات الدرك أفضت إلى أنّ بستانيًا يُدعى عمر الرداد، يعمل عند السيدة مرشال، وهو عمر الوحيد الموجود.

المتهم عمر الرداد

عمر، مهاجر مغربي ابن منطقة الريف الأمازيغية، يبلغ من العمر 28 عامًا، الابن الثاني من عائلة لها ستة أبناء، وُلد وترعرع في الريف المغربي حتى بلوغه سن 23 عامًا، ثم هاجر إلى فرنسا عند والده في مدينة كان، متزوج وله طفلان، كريم ويوسف.. التحق عمر بالعمل بستانيًا عند السيدة مرشال منذ 1985 حيث عندها تعرف على زوجته لطيفة، التي كانت تعمل مدبرة بيت لدى السيدة قبل أن تستقيل بعد زواجها من عمر.. في كتابه "لماذا أنا؟" يكتب عمر الرداد:

"كانت السيدة مرشال لطيفة جدًا معنا، لدرجة، شعورنا أنا ولطيفة أننا نعامل مثل أطفالها، لقد كنا أكثر من مجرد خدم. في كل ليلة رأس سنة جديد، كانت تجلب لنا الهدايا ولم يفتها ذلك يومًا".

عمر الرداد قد بات به الحال المتّهم الرئيسي في مصرع السيدة جيزلين مرشال، ولبسته القضية وأحكمت الانقضاض عليه، فكل ما جرى بعدها يُدين عمر من قريب ومن بعيد. في البداية قدر الطبيب هلاك السيدة، في زوال يوم الأحد 23 يونيو، فأين كان ابن بلدنا يومذاك؟. مع الأسف، كان عمر يشتغل في منزل مجاول لمنزل الضحية، وأكثر من هذا، قال الشهود إن المتهم كان غائبًا في الوقت الذي قُدّر فيه الطب الشرعي حصول الجريمة، ما زكّته صاحبة المنزل الذي كان عمر يشتغل فيه، بقولها، إن عمر استأذن منها المغادرة لأجل لقمة غداء.. في الأخير أُلقيّ القبض على عمر، بتهمة ثقيلة مُروعة، قتل السيدة مرشال، وبعد الاستماع لبعض الشهود، تبيّن أن عمر بحاجة للمال، وهو مدمن قمار، وكان يأخذ قروضًا من عند زملائه في العمل أو ربة عمله المقتولة، ما انضاف للأدلة الأولى التي تقّر للمحققين أن المهاجر المغربي هو القاتل لا ريب لغرض الحصول على المال، فقد اختفى مبلغًا من المال كان بحوزة السيدة مرشال بعد مقتلها، وإن كان عمرًا ينفِ ذلك ويتمسك ببراءته، إلا أن أقواله تتخللها تناقضات كثيرة، مثل قوله إن عند وقت اتهامه بقتل السيدة، كان عائدًا إلى منزله والتقى بجاره، لكن جاره أنكر رؤيته.. ثم قال عمر إن قبل لقائه بجاره، كان يبتاع الخبز من مخبزة قريبة؛ ذلكم أنكره صاحب المخبزة. مع كل ما توفر من الأدلة الدامغة، إلا أن الرداد يواصل انكار قتل السيدة مرشال، ودخل في اضراب عن الطعام، وحاول الانتحار أكثر من مرة في زنزانته.. وهكذا استمر عمر في السجن الاحتياطي لقرابة ثلاث سنوات، إلى أواخر شهر فبراير 1994، أصدرت المحكمة على المتهم عمر الرداد، حكمًا بالسجن النافذ لثمانية عشر عامًا بتهمة قتل السيدة جيزلين مرشال.


هكذا ستظن أيها القارئ أن قضية "عمر قتلني" انتهت، إنما لا تتعجل، فنحن لم نبدأ بعد. لأجل انقاد ما يمكن انقاده من عمر، حاول أقربائه الاتصالات والبحث عن كيفية دعم قريبهم، ونجحوا في ذلك، بعد أن وصلت القضية إلى الأمير هشام العلوي، ابن شقيق الملك الحسن الثاني.. كان الأمير المتمرد الخارج عن أعراف البلاط المغربي، هو الأنسب لهذه القضية البالغة في التعقيد، فالتقى بمحامي عمر في فرنسا وعائلة المتهم الصغيرة والكبيرة، وبعض المتعاطفين والمؤمنين ببراءة الرداد، ولأن التهمة ابتلعت ابن بلدهم ولا فائدة في الدفاع؛ فكان الأنسب هو الهجوم، وما يُعرف باستراتجية القطيعة، أي عِوض أن يدافع المحامي على موكله؛ سيهاجم على القضاء ويشكك في نزاهته.

المحامي جاك فرجيس

خرج محامي عمر، جاك فرجيس، بتصريح شهير غداة الحكم على الرداد بقوله، "قبل مئة عام حاكموا على جندي لأنه يهودي، واليوم يحاكمون بستانيًا، فقط لأنه مغربي!". هذا التصريح قلب كل أوراق القضية وأعاد توزيعها، وتطرقت له الصحف المغربية والفرنسية بحيز كبير، واستفز الجمعيات المدنية المغربية في كل أنحاء العالم، وتحديدًا في فرنسا، وأصبحت قضية رأي عام في البلدين، وحتى من اعتبرها من المغاربة قضية شرف، وتسلط الفرنسيين على بستاني بسيط، لذا وجب انتشاله من يد آل فرنسو، حتى وصل الحال بجريدة "العَلم" المغربية، أن توظف محققين في القضية، وادّعت وصولها للمجرم الحقيقي، ثم اقترحته على القضاء الفرنسي.. لكن تريث قليلاً، فالقضية أكبر من هذا، وهو لم يعشه القضاء الفرنسي سابقًا. الملك الحسن الثاني، ينذر ابن شقيقة الأمير هشام في استمرار تدخله في القضية، وفي رسالة ملكية وصلت إلى الأمير نشرها فيما بعد في مذكراته "الأمير المنبوذ" يقول فيها الحسن الثاني، "إن عمر الرداد مواطن مغربي، ومهمة الدفاع عنه، تقع على عاتق ملك البلاد". انسحب الأمير مجبرًا، وقال لاحقًا، إن تدخله في قضية عمر، نابع من إيمانه المطلق ببراءة المتهم المغربي.. بعد تراجع الأمير، ظهر الملك بنفسه في مفاجأة كبيرة للصحف الفرنسية والمغربية، فلم يتوقع أحد أن تلقى قضية عمر آذان صاغية في قصر الرباط، وها هو الحسن الثاني يستقبل في قصره محامي عمر الرداد وزوجته، حدث هذا أسابيع قليلة بعد نطق الحكم على البستاني، وإلا هنا أخذت عبارة "عمر قتلني" منحى آخر، وفلحت خطة الأمير والمحامي في تصعيد القضية إلى أبعد مدى ممكن، فهو السبيل الوحيد لانقاد الرداد. لا أحد يعلم ما الذي دار تحديدًا في مقابلة محامي الرداد وزجته مع الملك، إلا أن بعض التقارير أشارت أن الملك وعدهم بالتدخل في القضية، وإعادة البحث فيها.

إلى هنا سنعود إلى مسرح الجريمة، لنحاول أن نفهم ما يمكن لنا فهمه.. في البداية، إن الدليل القوي الذي ورط عمر في قتل السيدة مرشال، هي العبارة المكتوبة بالدم في باب غرفة في قبو منزل الضحية حيث قُتلت، "عمر قتلني" ثم تأكيد الخبير على أن الخط يعود للضحية، لكن، قد يقتلها شخص آخر غير عمر، ويكتب نفس العبارة مقلدًا خط يد السيدة مرشال، حتى يُبعد الشبهة عنه، ويمسح جريمته بالبستاني البسيط؟. هذا محتمل جدًا، إنما علينا معرفة أن باب الغرفة في القبو كان مغلقًا من الداخل، بعمود حديدي، فكيف خرج كاتب العبارة؟. فيما بعد قيل إن الباب يمكن غلقه من الخارج بنفس الطريقة.. بالعودة إلى العبارة المشؤومة، فهي تحتوي على خطأ إملائي، من الغريب أن ترتكبه سيدة مثقفة مثل جيزلين مرشال، بحيث كُتبت العبارة التالية على الباب (omar m'a tuer) والذي يفهم اللغة الفرنسية، سيلقى خطأ في تصريف فعل (قتلني) والصحيح (m'a tué).. ربما يمكن القول أن مع حر الموت واحتضارها جعلها ترتكب الخطأ، وما يزيد احتمالية أن العبارة تعود للضحية، هي محاولة كتابتها مرة أخرى، ولم تنجح باستكمالها كأنها تحاول التيقن من نجاحها في التعريف عن قاتلها، فلو كان القاتل من فعل؛ فمن المستبعد أن يُكرر نفس العبارة وهي غير مكتملة، إلا إذا كان داهية أراد وهم المحققين أن الضحية لم تنتهِ من تكرار العبارة لأن الموت عجلها. الغريب أن الأصبع المفترض أن الضحية كتبت به، لم يكن ملطخًا بالدماء، ما يزيد الغموض على القضية.. ونعود لنتساءل، أحقًا كام خط يدها؟. هذا ما شكك فيه دفاع المتهم، وجلب خبيرًا آخر للبث في العبارة ومقارنتها بخط السيدة، الذي نفى أن يكون لها، فاضطرت المحكمة أن تأتي بخبراء آخرين زادوا القضية التباسًا، بعدما مسكوا العصا من المنتصف، وقالوا بأن لا يمكن الجزم بأن الخط يعود للضحية، لأن في العبارة حروف تشبه خط السيدة، وحروف أُخرى لا. واصل الدفاع مهامهم وأثبتوا للمحكمة إمكانية اغلاق الباب من الخارج بالعمود الحديدي، وبنفس الطريقة الذي تعتقد المحكمة أنه يستحيل فعل ذلك في حالة باب غرفة مسرح الجريمة.. وأكثر من هذا، جلب الدفاع خبراء الطب الشرعي، وصلوا إلى استنتاج أنه من المستحيل أن تستطيع الضحية التحرك من مكانها وإغلاق الباب وكتابة تلك العبارة، ثم معاودة تكرار كتابة نفس العبارة، كل هذا بعدما تلقت عدة طعنات بالسكين على جسدها.. كذلك طعن الدفاع في تقدير يوم ووقت موت الضحية، الذي قال المحققين إنه زوال يوم الأحد 23 يونيو، تحديدًا بين منتصف النهار والثانية زوالاً، فقبل هذه الفترة الزمنية بقليل، كانت آخر مكالمة أجرتها الضحية جيزلين مرشال مع إحدى صديقاتها، وبعدها انقطعت أخبارها، حتى أنها تخلفت عن حضور ميعاد مأدبة غداء مع أصدقائها.. ويُذكر أن اكتشاف الجثة كان مساء يوم الإثنين 24 يونيو، فماذا لو ماتت الضحية صبيحة الإثنين وليس زوال الأحد؟. هنا سيكون بحوزة عمر دليلاً قاطعًا يُقّر ببراءته؛ حيث طوال يوم الإثنين كان بعيدًا عن منزل الضحية بعشرات الكيلو مترات، عند عائلته يحتفل بعيد الأضحى، وأكد المحيطين به يومذاك، أن تصرفاته طبيعية.. لكن مهلاً، لماذا نناقش زمن حصول الجريمة طالما الطب الشرعي بث فيها سلفًا أنها وقعت زوال يوم الأحد؟. ببساطة يا جميل، لأنّ تقرير الطب الشرعي صدر وهو مُوّقع من ثلاث أطباء، فيه أن الضحية ماتت صبيحة الإثنين، حيث عمر بعيد بعيد.. إذن ابن بلدنا بريء؟. لا، صبرًا، فهذا التقرير سرعان ما تراجع عنه ذلكم الأطباء، واعتبروه خطأ مطبعي في التقرير، وتم تصحيحه ليعاود يوم الأحد الظهور في تقرير الطب الشرعي، وعُمرنا تلتفت إليه الجريمة من كل مكان. في أعلاه تحدثنا على تناقض أقوال المتهم عمر الرداد، واعتبرته المحكمة يكذب، ولو عدنا إلى حوارات أجراها عمر في زمنها مع الإعلام الفرنسي، سنجد أن لغته الفرنسية ركيكة جدًا، وبالكاد يستطع نطق جملة مفهومة.. في كتابه "لماذا أنا؟" يقول عمر، إنه لم يكن يفهم أغلب أسئلة المحققين، وإجاباته كانت مقتضبة، وفي الكثير من الأحيان ينهِ كلامه بالإيحاءات برأسه أو يديه، ويردف في مذكراته التي نُشرت عام 2003، أنه لم يكن يتقن الفرنسية بالشكل الذي يسمح له بالحوار، وكان يتحدث مع مشغلته ببعض الكلمات المتعلقة بالشغل التي حفظها مع دوام عمله، بينما يظل طوال الوقت يتحدث مع زوجته بالعربية، ومع والده بالأمازيغية. هذا يقودنا إلى استنتاج واحد، أن أقوال عمر ربما فُسرت في غير محلها، واستجوابه لم يكن سلسًا البتة، وقد نتساءل، لِم لَم يستعن المحققين بمترجم يسهل مأموريتهم وكذا عمر؟. الرداد في كتابه وكذا كل حواراته الإعلامية، قال إنه طلب مرارًا بحضور مترجم، إلا أن طلبه قوبل بالرفض في قرار غريب غير مفهوم.. ومنهم من إتهمه بالكذب بتواطؤ مع المحامي، لكي يتراجع عن أقواله الأولى بحجة عدم فهم اللغة الفرنسية، ثم لم يطلب حضور أي مترجم حسب قول بعضهم. الأرجح أن المحققين لم يكلفوا أنفسهم كثيرًا في ظل وجود أدلة قوية تُدين عمر، أبرز تلك الأدلة، هي العبارة الشهيرة التي يعتقد أنها تعود للضحية.. لكن لو علموا ما سيحدث في الآت، لأعادوا حساباتهم. واصلت جريدة "العَلم" المغربية النبش في قضية عمر، وأرسلت صحافيين إلى منطقة موجينس الفرنسية، لتحقيق من أقوال عمر، وتوجهت صحافية فرنسية من أصل مغربي، إلى المخبزة الذي قال عمر إنه كان يشتري منها في الوقت الذي غاب فيه زوال يوم الأحد، وبعد استفسار صاحب المخبزة، كرر نفس أقواله لدى المحكة، ونفى رؤية المتهم، وبعد خروج الصحافية من المخبزة، ظهرت لها من الجهة المقابلة مخبزة أخرى، فتّوجهت إليها، وسألت صاحبها، إذا سبق وأن رأى عمر الرداد.. فأجاب أنه زبون دائم عنده.. ثم سألته الصحافية هل زاره في زوال ذلك الأحد.. أجاب أنه من الممكن جدًا، وعلمت منه الصحافية أن المحققين لم يكلفوا أنفسهم استجواب صاحب هذه المخبزة، رغم أنها تقع في نفس الحي الذي أشار إليه عمر.. هذا الاستهتار من المحققين لم يتوقف هنا، فحتى جار الضحية السيد جون كلود، لم يتم استجوابه، وقد صرح للصحافة أنه من المستبعد أن لا يرى عمر وهو ذاهب لمنزل الضحية في ذلك الوقت من زوال الأحد، لأنه كان في شرفة منزله المطلة على باب منزل السيدة مرشال، بين منتصف النهار والثانية بعد الزوال.. نفس التصريح أدلت به ابنة السيدة فرانسين بسكال، صاحبة المنزل حيث كان عمر يعمل يومذاك، وأضافت أن ساعة مغادرة عمر لأكل وجبة الغداء؛ كانت هي تقود سيارتها في نفس الطريق الذي يقود لمنزل السيدة مرشال، ولم تصادفه في سبيلها. طالب الدفاع ببراءة عمر، وأن خط الكتابة ليس خط الضحية، والباب يمكن إغلاقه من الخارج باستعمال العمود، ثم لا وجود لبصمات تعود للمتهم في مسرح الجريمة، ولا حتى شعرة واحدة، وعاتبوا المحققين على عدم توسيع البحث في القضية، والاكتفاء بالأدلة الأولية، ما جعل الدفاع يعين تحري خاص به، وهو المحقق روجي مارك مورو، الذي سيبحث في جوانب أخرى في القضية.

المحقق والكاتب روجي مارك مورو

هل كان عمر العامل الوحيد عند السيدة جيزلين مرشال؟. لا، فهناك خادمة أخرى، وهي التي قالت للمحققين، إن عمر مدمن القمار ويحتاج المال باستمرار، ما جعله يقترض المال كثيرًا عند السيدة مرشال وكذا معارفه.. فيما بدا أنه السعي في توريط عمر، الذي جعل المحقق روجي مارك يشك بذلك ويوسع البحث معها، فقالت أن في اليوم والوقت المفترض حصول الجريمة، كانت في إجازة ولم تأتِ للعمل، فقد اتصلت بها السيدة مرشال قبل يومين وطلبت منها عدم الحضور.. وهذا محتمل جدًا لأنها عطلة نهاية الأسبوع: السبت والأحد. لكن، بعد العودة إلى سجل المكلمات على هاتف الضحية في الوقت التي ادعت فيه الخادمة تلقي الاتصال منها، لم يحتوِ على رقم الخادمة، وهذه الأخيرة لها صديق صرح بأنها استيقظت في نفس التوقيت في اليومين الذي وقعت فيهما الجريمة وادعت ذهابها للعمل، ثم اختفت يوم الإثنين الذي وجد في الدرك السيدة مرشال مقتولة، وعادت يوم الثلاثاء، وأمارة السكر تبدو عليها.. هل أخذ المحققين كل أقوال هذه الخادمة؟. من الغرابة قول لا، وهو ما وقع بالفعل، فقد اكتفوا بالاعتماد على كلامها عن عمر، بأنه يحتاج المال باستمرار، وهو مدمن قمار. نبقى مع الخادمة المريبة، لنعرف أن لها صديق آخر تخون معه صديقها الأول، ما جعل المحقق روجي مارك يتبع تحركاتها، حتى اكتشف المكان الذي ترتاده رفقة صديقها، وجمع المعلومات عن ذلك الصديق، واقتفى أثره حتى دولة تونس رفقة محامي الدفاع.. عاد المحقق رفقة المحامي والتقى بشاهد آخر في لقاء متلفز، يدّعِ فيه أنه في يوم المفترض وقوع الجريمة، رأى توقف شاحنتين قرب منزل الضحية، وقد نزل من إحداهما رجل، وتوجه لباب منزل السيدة مرشال، وطرقه، وبعد لحظات، فتحت إمرأة الباب.. ثم عرض عليه المحقق صورة صديق الخادمة، إن كان هو الرجل الذي رأه؛ فتعرف عليه الشاهد، وأجاب أنه نفس الرجل الذي يتحدث عليه، ثم عرض عليه المحقق صورة الخادمة، ليقول إنها نفس المرأة التي فتحت الباب، ولتذكير هي ادّعت أنها في إجازة ذلك اليومين.. هل أخذت المحكمة بهذه المستجدات؟. لا. بعد كل القيل والقال، وظهور أدلة جديدة؛ أربعون شخصية فرنسية أصدرت بيانًا تطالب فيه بعودة التحقيق في القضية، واعتبرت التحقيق الأول فضيحة للقضاء الفرنسي.. وفي استطلاع كبير، أظهر أن ستين بالمئة من الفرنسيين يعتقدون أن عمر الرداد بريء من قتل السيدة جيزلين مرشال.. مع ذلك ظل الرداد مسجونًا في زنزانته، ورفض القضاء إعادة النظر في قضيته.. وقد نتساءل لم كل هذا العناد؟. هي أُنفة وتكبر القضاء الفرنسي، فلو حدث وأن أعاد البحث في القضية؛ سيظهر فعلهم كأنه أُخضعوا للجرائد المغربية التي وصفتهم بالعنصريين وطعنت في مصداقيتهم. هكذا خرج القضاة الفرنسيين مرارًا مدافعين على نزاهتهم - المزعومة - وعدلهم - الذي يطفو مثل سحاب الصيف -، متهمين الجرائد المغربية بمحاولة ابتزازهم وتقديم أدلة كاذبة لأجل الضغط على قضاء مستقل.

في 6 ماي 1996، حضر الملك الحسن الثاني إلى فرنسا في زيارة رسمية للبلد، وألقى خطابًا في مجلس النواب، أربع أيام بعد ذلك، أعلن قصر الإليزيه تخفيف حكم عمر من ثمانية عشر عامًا إلى أربع سنوات فقط، ليخرج عمر الرداد من السجن مطلع عام 1998. هل انتهت هنا؟. لا، بل أخذت القضية منحى مغاير حتى بعد معانقة عمر للحرية.. عام بعد ذلك طلب المحامي جاك فيرجيس إعادة محاكمة عمر، ورد اعتبار للمحاكمة الأولى عند لجنة مراجعة الأحكام التابعة لمحكمة تييمز باريس.. في البداية أمرت اللجنة بدراسة تلك العبارة الشهيرة "عمر قتلني"؛ فكانت النتيجة أنه ليس من الثابت أن العبارة تعود لجيزلين مرشال، مما يُرّجح فرضية وجود شخص آخر، ثم العثور على حمض نووي ذكري قرب باب القبو، وهو لا يعود للمتّهم عمر الرداد، الذي تطوع لمقارنته بحمضه النووي، فكانت النتيجة سلبية.. من كل هذه المعطيات، قررت اللجنة النظر في طلب إعادة محاكمة عمر الرداد، ولم تصدر قرارًا نهائيًا حتى كتابة هذه السطور.

أبت قضية عمر الرداد أن تنطفئ، فكل حين ترى النور من جديد، ونشرت تحقيقات كثيرة حول القضية، منها المتلفزة والمقروءة، كما نشرت كتب كثيرة، أبرزها كتاب "عمر قتلني .. قصة جريمة". للمحامي جاك فيرجيس، إضافة لكتاب "عمر قتلني .. تحقيق مضاد لإعادة محاكمة مزورة"، للكاتب كريستوف دولوار، والمحقق - الكاتب روجي مارك مورو.

غلاف كتاب "لماذا أنا؟"

ويبقى أهم كتاب في القضية، ذلك الذي كتبه صاحب القضية عمر الرداد، بعنوان عاطفي "?pourquoi moi" (لماذا أنا؟)، يروِ فيه عمر عن كل ما جرى، وامتنانه الكبير لكل المغاربة واعتزازه بهم، الذين وقفوا معه في محنته واعتبروه كواحد من أفراد عائلتهم.. هو كتاب يواصل فيه عمر قول إنني بريء يا عباد الله.

غلاف فيلم "عمر قتلني"

في عام 2011 صدر فليم مغربي بعنوان "عمر قتلني" يحكي عن قضية عمر الرداد، من اخراج رشدي زيم، بطولة سامي بوعليجة، كاثرين سالفيت وإيريك النجار. أعاد الفيلم إحياء العبارة الشهيرة وقضية البستاني عمر، بعد مرور العقدين على انفجارها. الفيلم يدعم أطروحة براءة عمر الرداد، ويصوره في سن 53 عامًا وهو يعيش في المغرب مع والدته المريضة، ولم يعد قادرًا على العمل بعد تابعات الاكتئاب التي حصدها من سنين الفوضى والتيه عند القضاء الفرنسي.. الفيلم غاص بالعواطف أراد به المخرج المغربي رشدي زيم، دعم مواطنه وإدانة مؤسسات العدالة الفرنسية.


(كلمة)

يا عمر، إنه مر وقت طويل لم أكتب فيه بكل مشاعري وحواسي، حتى قررت أن أنبش فيما تسببت به تلك العبارة المشؤومة، ولم يراودني أدنى شك من براءتك، حالي حال جميع المغاربة.. فحُقّ لك الافتخار بالانتماء لهذا الوطن، الذي نصرك أبناءه في أحلك الأوقات وأنت بين مخالب الفرنسيين، في وقت الشدّة حيث ظهر التآزر والالتحام لأجل مغربي واحد، لم ولن يُترك يبكِ لعتمة زنزانته وحيدًا.. إيمانٌ قدسيٌ من أبناء بلدك أنك بريء مما يدعون، ولو لم يبدو من نجاتك سوى باب المستحيل.. فقالو لنا: عمر قتلني. قلنا لهم: عمر، البستاني البريء.







محمد بنصالح

تعليقات

  1. قضية معقدة جدا في أول المقال ظننته قاتلا بسبب الأدلة التي تدينه ومع استمراري في القراءة اقتنعت أنه بريئ

    مقال رهيب تحياتي لك

    ردحذف
    الردود
    1. في المقال لا أتهم عمر ولا أقوم بتبرئته، فقط حاولت نقل ما جرى، ثم أعطيت رأيي في الأخير..

      شكرا على المرور.

      حذف
  2. عدت بي إلى الوراء ، أتذكر كنت صغيرا والناس تتحدث عن عمر الرداد وصوره تتصدر الجرائد ، وتحية تقدير إلى جريدة العلم ، أين كنا وأين أصبحنا ويا حسرة على (العلم) التي ضاعت في زمن الإعلام التافه الذي يسيطر في زمننا هذا . وبالعودة إلى القضية في رأيي المذنب الوحيد هنا هو القضاء الفرنسي والحمد لله أنصفت العادلة الإلهية عمر وفضحت القضاء الفرنسي الظالم .

    ردحذف
  3. نعم المقال فيه نسيم من التسعينات.. وبدون أدنى شك، كما قلت، المذنب الوحيد في كل ما جرى، هو القضاء الفرنسي، وغافل الذي ما زال يصدق بنزاهة الغرب.. أما جريدة العَلم، فتستحق منا الوقوف احترامًا لشجاعتها، وكل ما بدلته في سبيل نجاة عمر، ولا أتذكر أني سمعت أن جريدة ما، وضفت محقق خاص بها لنصرة ابن بلدها المسجون في بلد آخر، من غير "العَلم"، وأكثر من هذا، نجحت الجريدة في زرع الشك في نفوس الفرنسيين اتجاه مؤسسات العدالة في بلدهم.. اما الحسرة، فلا نلقى إلا هي، في هذا الزمن الغريب، والتفاهة طغت على اشعاع "العَلم" وغيرها من عمالقة الثقافة والأدب.. تصور أن جريدة تافهة مثل "شوف تيفي" يتابعها 20 مليونًا على الفايسبوك !، مقابل مئات الآلاف لجريدة بحجم وتاريخ العَلم!. افهم انت لو استطعت؟ ربما المشكل فينا لا في زمننا يا سيدي.

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت فعلا العيب فينا لأننا نشجع مروجي التفاهة ، ولولا تلك الملايين التي تتابعهم لما استمروا وشوف تيفي مثال حي . وبالعودة للقضية فأسوأ عدالة في الكون هي الفرنسية ، ولو كانوا نزهاء كما يدعون ، لماذا لم يكتشفوا حتى اليوم مصير المهدي بن بركة الذي اختفى في بلدهم بل كان يستعد للقاء الرئيس ؟!!! نهيك عن بستاني مغلوب عن أمره .

      حذف
    2. تماما، إذا سألوك عن العدل في فرنسا؛ قل اختفى بنبركة.. على وزن مقولة "مات عمر" ^^

      حذف
  4. قرأت عن عمر الرداد سابقا، بصراحة أحسست ساعتها أنه بريء، والآن بعد أن قرأت مقالك وسردك لما حدث بالأدلة اقتنعت تماما ببراءته، هو ضحية لأحد الأنظمة القضائية الظالمة وما أكثرها خصوصا في بلداننا ..

    المقال جميل جدا وغير ممل قرأته بشوق حتى آخر حرف، استمر بإتحافنا بهكذا مقالات..

    تحياتي لك:)

    ردحذف
    الردود
    1. لو درسنا القضية جيدا سنجد انه ليس هناك دليلا قويا يدين المتهم باستثناء تلك العبارة، التي ليست دليلا قاطعا بعد البث فيها، لكن جعلها القضاء الفرنسي مرجعا لهم في إدانة عمر في عناد غريب.

      الحمد لله أن المقال ليس مملا لك برغم من اطلاعك السابق على القضية.. فأكبر أعدائي في الوجود هو الملل أثناء القراءة هههه.

      إن شاء الله نكتب المزيد.. شكرا لك ^^

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية