هيث ليدجر .. الجوكر الحزين



إذا كنت مثلي مولعًا بالسنيما، حتمًا سمعت بشخصية "الجوكر"، التي عرفها جمهور الفن السابع لأول مرة في  الإصدار الأول لسلسلة أفلام batman بين عامي 1966 و 1968 وكان أول من أدى شخصية الجوكر، الممثل الأمريكي سيزار روميرو، ثم تلاه ممثلين آخرين، حتى وصلت الشخصية إلى الممثل الأسترالي هيث ليجر عام 2008 في فيلم the dark knight. لقد تقمص ليدجر شخصية الجوكر بكل جنونها وهوسها وشرها وغرابة أطوارها، حتى أضحت اليوم أيقونة مرتبطة بالممثل الأسترالي الراحل، ولم يستطع أحد أن يفصل الجوكر عن هيث ليدجر، رغم أن عددًا من الممثلين سبقوه لأداء الشخصية ثم أتى آخرون بعده، لكن شخصية الجوكر توقفت عام 2008 عند عتبة هيث ليدجر واختارته أن يكون لها، كعروس انتقت عريسًا من بين مئة. 


الجوكر، شخصية الجنون الممزوج مع الشر في قالب مهرج ضحاك، ظهرت الشخصية لأول مرة في مجلة الرسوم المتحركة عام 1940، قام بتأليف الشخصية المجنونة كل من، جيري روبنسون وبيل فينجر. إنه الجوكر، عدو رجل الوطواط في أفلام الأبطال الخارقين، وإحدى أيقونات الشر في تاريخ السينما العالمية.. وبمجرد ذكر الجوكر؛ سيقودنا خلدنا إلى الممثل الأسترالي الراحل هيث ليدجر، الذي غادرنا في قمة عطائه، ولم يكن حاضرًا ليلة تتويجه بالأوسكار، أعظم الجوائز في عام السينما، التي حصلت عليها روحه وذكراه بعد أداءه للجوكر. عندما عرضت الشخصية لأول مرة على هيث، رفض أن يتقمص هذا المهرج المجنون، ولم يقتنع بها في بادئ الأمر، ثم فكر أن وراء هذا القناع الضحاك، تقبع فلسفة الجنون في عُمقها المتعلق بنمط التفكير ورؤية الأشياء في منظور مختلف. 

شيء من الجنون


الجنون، هو فهم مشوّه للواقع، يُنتّج عنه سلوكيات مخالفة للمجتمع والعامة. هذا الذي يعرفه الجميع عن الجنون، أي التّخلف العقلي ببساطة.. وهذا التّخلف في العقل له أوزان تختلف بين العاقل والمختّل.. والجنون يُصيب الإنسان فقط، وهنا نفهم أننا لن نجد - مثلاً - ديك مجنون، لأن الفارق بين الإنسان والحيوان؛ هو عقل يُفكر ويستنتج ويُقرر، في حدود المنطق المتعارف عليه في المجتمع، ويتجاوز التعرف على الأكل وحفظ الطريق فقط، كما يحدث مع غير البشر. إن العاقل يربط الكلمات بما يُقصد منها، ويخضع لهذا المنطق والمرادف.. مثالٌ، هذا مصباح ومهمته إنارة ظلامنا، وذاك هاتف ومهمته أن نتواصل به مع الناس، وهكذا يربط العقل الأشياء بالمنطق الوجودي.. ولو كنت تظن أنه يمكنك الطهي فوق التلفاز، أو الحديث مع عمود قنديل الشارع، أو الزواج من ثلاجة، أو أن الحكومات العربية تعمل فيما هو صالح لمواطنيها؛  فأنت مجنون تبارك الله.. إذن نستنتج أن عقل المجنون، يربط الكلمات بأشياء لا منطقية، وفي الماضي السحيق، يُعتقد أن الجنون عقاب إلهي، أو لعنة أصابت أحدهم، والعلم يقول،  أنه خلل في الوظائف العصبية في الدماغ.. ويوجد أنواع مختلفة من الأعطاب العقلية التي تقود إلى حديقة الجنون،  ولسنا بصدد الحديث عنها حتى لا نصل نحن إلى تلك الحديقة، بل سنجّن قليلاً فقط مع صديقنا الجوكر.. وعلى ذكر الجوكر، فهذا المبتسم الدائم، يعاني من الوجدان البصلي الكاذب، أو التقلقل، وهو خلل في الجهاز العصبي ومركز تحكم بالمشاعر في الدماغ، الذي تُعرف بحالة عدم الثبات العاطفي، ما يجعل ردود فعل المصاب تُناقض حالة الموقف، ويفقد فيه السيطرة على انفعالاته، ويحدث أن يضحك أثناء موقف حزين، أو يحصل العكس ويبكي لأجل اللاشيء يستحق منه ذلك، وتستمر ردود فعله التي لا تناسب المواقف، وترى المريض تتحفز مشاعره بشكل مبالغ فيه، سواء في البكاء أو الضحك أو الحزن، فيدخل في نوبات هستيرية مفاجئة قد تستمر لعدة دقائق. 


الجوكر، شخصية شريرة، لكنها فريدة من نوعها، لأن شرها يمتزج بالجنون، ما يُضفي للشخصية جانب عميق يستّحق التأمل. ولو حاولنا فهم شر الجوكر؛ سنصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن صديقنا الضحاك، يعاني من الشر الأخلاقي.. هذا الشر يأتي من القناعة الشخصية التي تنبع من التجارب السابقة، وهو فعل إرادي وواعي لإلحاق الضرر بالآخرين بسبب توجهات معينة وأهداف خاصة، وهكذا يظن من خلاله الجوكر بأنه شر مباح.. والشر المباح هو لو وددنا مثالاً مقربًا فقط، نجد  نابليون يريد أن يضرم النيران في العالم لأجل فرنسا، وها أنت تذكرت معي الفوهرر: هتلر. فعلى غرار نابيلون، سعى الزعيم النازي إلى إبادة أوروبا من أجل العرق الألماني، لكن هما مجرد محاولة تبسيط وفهم وليس اسقاطًا كاملاً على هاتين الشخصيتن، التي عاشتا في زمن الحروب والتوسع.. لنواصل إلى مثال آخر قد يبدو أقرب إلى شخصية الجوكر، وهو إرهابي فجر نفسه وقتل معه الأبرياء انطلاقًا من ظنونه بأنه يأتِ بفعل حسن ويُخلص العالم من شرٍ ما، ومصيره الجنة!.  هذا الشر يُفسّر بأنه "الشر الأخلاقي"، وصديقنا الجوكر، غاص به حتى التخمة، ويُبيح أي فعل يظن أنه سينفذ إلى نُبلٍ متوارية، وهذا الضحاك يُدين الجميع، بمن فيه المجتمع الهش الضعيف، ووضع نظرية الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه قاعدة لأفعاله التي يراها سواه عملاً في خانة الشر، حيث يقول فريدريك، إن الأخلاق والقيّم بحد ذاتها بحاجة إلى المراجعة. إذن الجوكر يظن أن ما يقوم به ليس شرًا بما جاز الفهم، أو عمل شنيع، طالما وراءه نيّة خير خاصة، المراد منها هو فِعلٌ طيّبٌ، أي لا وجود للشّر في النوايا المريضة لصديقنا، بل رؤية خاصة للمجتمع في منظار مختلف عن العامة، فيها الكثير من فلسفة الشر المراد منه الخير،  نابعة من عقل غير مستّوي يقبع داخل رأس المهرج الضحاك. هذا جانب مهم من شخصية الجوكر، الذي جمع الكثير من الحالات النفسية، من غير ما أسلفنا ذكره، وأشعل فتيلاً في نظريات الشر والخير، وما بينهما. 


ولد هيث ليدجر يوم 4 أبريل عام 1979، في مدينة برث غرب أستراليا، والده كيم ليدجر مهندس التعدين ومتسابق سيارات سابق، ووالدته  سالي رمشاو، مُدرسة لغة فرنسية، وله شقيتين.. منذ دراسة هيث، استحوذ عليه حب السينما والتمثيل، وكان يقدم العروض التمثيلية أثناء دراسة الإبتدائية، وبالموازاة ذلك، كان يعشق كذلك لعبة الشطرنج.. عانى هيث الصغير من تابعات فراق ولديه، ولكي يُبدد واقعه، واصل في طريق موهبته التمثيلية، وتم اختياره لينظم لفرقة مسرح محلية في مسقط رأسه، حتى بلوغ سن السادس عشر، شعر أن الوقت دقّ للاحتراف، وسافر إلى عاصمة أستراليا سيدني وفي جيبه 69 سنتًا، هناك لكي يركض وراء تحقيق حلمه أن يصبح نجمًا سينمائيًا.. في البداية حظيّ هيث ليدجر ببعض الأدوار في الدراما والبرامج التلفزيونية والأفلام، حتى برز نجمه وطنيًا. وفي عمر التاسع عشر، سافر إلى الولايات المتحدة، تحديدً، لوس أنجلوس، ليطرق أبواب هوليود والعالمية، هناك في أرض صناعة المجد السنيمائي في العالم: أمريكا. في عام 1999 نجح هيث في الحصول على بطولة فيلم  10things i hate about you الذي شكل منطلق هيث ليدجر إلى بطولات أفلام كثيرة، مثل فيلمّي the patriot و monster's ball. تلاهم أفلام أخرى ناجحة، وهكذا بات هيث وجهًا مألوفًا على الشاشة العملاقة.. وسطع نجم هيث أكثر عام 2005، في فيلم ennis del mar، وفي نفس العام أثار اعجاب الجمهور والنقاد في فيلم آخر بعنوان brokeback mountain، ما جعله يترشح لجائزة الأوسكار لأول مرة في حياته وهو بعمر 26 عامًا، لكنه لم ينل الجائزة العظيمة بعد، وكذا تم ترشيحه لنيل جائزة الغولدن جلوب. عام بعد ذلك، وافق هيث على أهم دور له في حياته، في فيلم the dark knight دور الجوكر.. الفيلم الذي عُرض لاحقا في عام 2008. ما جعل هيث يدخل في حالة روحانية أو طقوس خاصة استعدادًا لتقمص ذلك المهرج الضحاك الذي ينضح بالشّر،  وحبس نفسه وحيدًا في غرفة فندق لمدة شهر كامل، أثناء ذلك الانعزال كان هيث يكتب مذكرات خاصة بالشخصية المهرج التي سيتقمصها، وكذا يُجرب مختلف الأصوات وردود الفعل المتوقعة من المهرج السيكوباتي، وقد نجح في ذلك بدرجة فوق الوصف، لتكون الجوكر أيقونة أدوار هيث ليدجر في تاريخه السينمائي، الذي بلغ عدد الأفلام التي ظهر فيها، 19 فيلمًا. 

الحزن والموت


كانت الصحف تُصور هيث ليدجر، بأنه شاب يستمتع بحياته النجومية، ويرتاد الحانات الفاخرة، ويُصاحب عارضات الأزياء.. ذلك لم يحصل مع هيث، في آخر سنوات حياته، كان حزينًا على الدوام ويعاني من الأرق،  في الوقت الذي يحضر فيه لأداء شخصية الجوكر، لم يكن ليدجر على ما يرام.. حسب أقوال أصدقائه والمقربين، أرجعوا ذلك إلى انفصاله مع الممثلة الأمريكية ميشيل وليامز في شتنبر عام 2007، بعد علاقة حب استمرت ثلاث سنوات، ثمرة تلك العلاقة كانت ولادة طفلتهما عام 2005. بعد انفصالهما، ظلت ميشيل وطفلتها  في المنزل الذي كانا يعيشان فيه معًا في  بلدة بروكلين - نيويورك، بينما هيث رحل إلى منطقة مانهاتن.

في مساء يوم 22 يناير 2008، تم العثور على هيث ليدجر ميتًا في شقته بضواحي نيويورك، وعلى حسب  أقوال الشاهدة التي كانت معه في ذلك اليوم،  وهي مدبرة منزله، قالت بأنها سمعت هيث يصدر أصواتًا تشبه الشخير عند الساعة الثانية عشرة ونصف ظهرًا، فظنته نائمًا، حتى حدود الساعة الثانية وخمسة وأربعين دقيقة، حيث طرقت مدبرة المنزل باب الغرفة ولم تلقَ ردًا، ما جعلها تخبر مدلكة هيث الشخصية، ثم كسرتا الباب، فوجدتا هيث مستلقِ عاريًا في الأرض ولا يرد على نداءاتهما، فيما بدا أنه فاقد للوعي، ثم طلبت المدبرة حضور الشرطة والإسعاف، لكن الأوان قد فات وتوفي هيث ليدجر عن عمر 28 عامًا.

كانت إلى جانب جثة هيث ليدجر، أقراص مُنومة تؤخذ باستشارة الطبيب، وتم العثور كذلك في غرفته على حبوب مهدئة وأدوية مضادة للقلق، فيما خلص التحقيق إلى أن موت هيث ليدجر، كان عرضيًا بسبب جرعة زائدة، لكن الصحف - وعلى عاداتها - كان لها رأي مخالف في رحيل هيث.. ونقلت الصحف أن هيث ليدجر، قتله الجوكر!. ونقلت بعض وسائل الإعلام تصريحه الأخير لجريدة "نيويورك تايمز" قوله أنه بات يتعاطى المهدئات حتى يتخلص من الأرق الذي جاءه بعد دوره لشخصية الجوكر.. فيما قيل أن أثناء كتابته لمذكرات حول شخصية الجوكر وهو في عزلة إختيارية استعدادًا للدور؛ كتب في آخر صفحة، "باي باي". في النهاية مات أفضل من أدى شخصية الجوكر، ولم يُقدر له أن يراها على الشاشة، فقد توفيّ هيث ليدجر قبل صدور فيلم the darck knight.

ردة فعل بعض زملاء هيث ليدجر بعد الإعلان عن فوزه بجائزة الأوسكار

في حفل توزيع جوائز الأوسكار عام 2009، حصل هيث ليدجر على جائزة الأوسكار على أفضل دور مساعد في فيلم the dark knight عن دوره لشخصية الجوكر، وتحقق حلم هيث بعد موته، ونالت روحه جائزة الأوسكار التي تسلمها أبويه وأخته. في نفس العام فاز بجائزة الغولدن جلوب لأفضل دور مساعد في نفس الفيلم the  dark knight، وعن دور ذاته: الجوكــــــر.


يقول الجوكر:

"إن أسوأ جزء في كونك مريضًا عقليًا؛ هو أن الناس تتوقع منك أن تتصرف وكأنك لست كذلك".

تعليقات

  1. في النهاية أود الإشارة إلى أن ليس كل عشاق ومتابعي السينما يشتركون في تنصيب هيث ليدجر أفضل من قدم شخصية الجوكر، فهناك من يرى غيره هو أفضل من فعل، لكن المقال خضع لرأي كاتبه في التفضيل، ثم رأي الغالبية التي حصلت عليه في بحثي في مواقع أجنبية، واستفتاءات ظهرت بعد عرض فيلم جوكر الجديد، حيث نلقى دائما أن التفضيل المسيطر، هو أن هيث ليدجر أفضل من تقمص دور الجوكر.

    ردحذف
  2. أحببت طريقتك في سرد المقال والحديث عن الجنون والشر أحسنت وأجدت ، رغم أنني لا أتابع الأفلام الأمريكية أكتفي بالأفلام العربية فقط ، وقد سمعت عن شخصية الجوكر طبعا

    ردحذف
  3. أشكرك على المرور الطيب، وإن شاء الله نظل عند حسن ظنكم.

    ردحذف
  4. (ولو كنت تظن أنه يمكنك الطهي فوق التلفاز، أو الحديث مع عمود قنديل الشارع، أو الزواج من ثلاجة، أو أن الحكومات العربية تعمل فيما هو صالح لمواطنيها؛ فأنت مجنون تبارك الله) هههههههههههههههههه ضحكت كثيرا عند هذا الاقتباس حتى سمعت أمي قهقهاتي وظنتي مجنونة ههههه ولكنك عبرت بمعنى الكلمة ياااااله من تشبيه معبر وغريب أيضا

    في الواقع أنا لا أتابع أفلام الأكشن أفضل الأفلام الرومانسية والعائلية وهذه المرة الأولى التي اقرأ فيها عن الجوكر والممثل هث ليدجر وأحزنني موته المفاجئ كان سيكون أسطورة السينما حتما

    اختيار الموضوع وطرحه اكثر من رائع وفيه اللمسة البنصالحية ♡ ههههه

    شادية

    ردحذف
  5. أهلا شادية،

    من الجيد أننا جعلناك تضحكين^^. أنا على عكسك تمامًا، لا أحب الأفلام الرومانسية، أجد فيها الكثير من التصنع، وفي نفس الوقت، لا أحب أفلام الحركة المبالغ فيها.

    أتفق معك.. احتمال كبير أن لو لم يمت هيث؛ كان المجد السنيمائي بانتظاره.

    شكرا سيدتي. سنظل عند حسن الظن إن شاء الله.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

تازمامارت .. أحياء في قبور !

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ