قصبة آيت بن حدو .. سحر الماضي وعالمية الحاضر

على بعد ثلاثين كيلو مترًا من مدينة ورزازات، نجد قصبة آيت بن حدو.. كانت قديمًا مدينة كاملة المرافق، تتجلى في مباني طينية على الطراز الأمازيغي القديم، الذي يمتاز بالنقوش وروعة الهندسة، وأزقة ضيقة مفروشة بالحجارة تقود إلى كل الجهات في هذا الحصن، وسور دفاعي يُسيّج القلعة وله باب واحد كبير يُغلق عند مغيب الشمس خشية تعرض القصبة للغزو. تم بناء القصبة أو القلعة في هضبة تُطل على مجرى وادي المالح، وتحيط بها أشجار النخيل باسقة وأشجار اللوز خضراء يكملان جمال الصورة. أكثر ما يلفت انتباه المرء حينما تسقط أنظاره على القصبة، هي أبراج المراقبة التي تعلو السور الدفاعي، ما يوحي لنا أنّ القصبة لها تاريخ مع الغزو. يعود إنشاء قصبة آيت بن حدو، إلى القرن الحادي عشر ميلادي، عند زمن حُكم المرابطين، وعهد واحد من أعظم من جلس على العرش المغربي، يوسف بن تشافين. في عصرها، كانت القوافل التجارية تمر بمحاذاة القصبة قادمة من الصحراء الكبرى، قاصدة الشمال المغربي، ما جعلها تتعرض باستمرار لقطاع الطرق، وما هم إلا أهل القصبة، وترى أنظارهم تعلو فوق أبراج المراقبة، ليس للحارسة، إنما لتقفي أثار القوافل والإغتناء من زادهم دون وجه حق.. هكذا صار هذا الطريق الذي يمر إلى جانب القصبة، تتجنبه القوافل وعابري السبيل خشية أن ينال منهم شر أهلها. حتى قرر أمير المملكة المغربية يوسف بن تشافين، وضع حد لشر أهل القصبة والسيطرة عليها، فأرسل جيوشه وأحكم قبضته عليها، حتى قرر اسناد المهمة لأحد أكبر أعيان المنطقة من لهم الولاء لعرش بن تشافين، وهو السيد "حدو" الذي نصبه أمير المغرب، قائدًا للقصبة وولي أمرها، ومنذ القرن الحادي عشر إلى كتابة هذه السطور، كانت وما تزال القصبة في ملكية أحفاد "حدو"، ولهاذا سُميّت "آيت بن حدو" وهو لفظ أمازيغي مرادفه بالعربية، " آل حدو" أي سلالته حدو.

في القرن الثامن عشر، وأثناء عهد الملك الحسن الأول، تم تجديد قصبة آيت بن حدو، بعد أن انهارت بعض جوانبها.. ثم مرت السنين تلو الأخرى، حتى عام 1987، ليضرب أحفاد حدو، موعدًا مع التاريخ والعالمية، عندما صنفت منظمة اليونسكو قصبة آيت حدو، في خانة التراث العالمي للإنسانية. وإلى اليوم، يقطن الناس هذه القصبة الأمازيغية التي تبدو كالهرم، في الإشارة إلى الفوراق الطبقية ذات زمان، حيث يظهر الجاه وعالية الهمام في شكل القلوع السكنية، وهي أحد إبداعات المعمار الأمازيغي المغربي قديمًا.. فيما يطلق عليه البعض، قصر آيت بن حدو، بدلا من القصبة.

كما أسلفنا، فإن قصبة أو قصر آيت بنحدو، تابعة لنفوذ مدينة ورزازات، أحد أهم المدن الأمازيغية العريقة في المغرب.. المدينة المعروفة عالميًا بصناعة السنيما والدراما، وفيها استديوهات ضخمة ومناظر خلابة خصبة تسيل لها لعاب صناع الفن السابع، وهنا وُجدت أفلام خالدة، وكلاسكيات السينما العالمية، وجوائز الأوسكار، تنفسوا هواء ورزازات. وهنا لسنا بصدد الحديث عن المدينة السنيمائية، بل سنظل على مواصلة الحديث على قصبتنا، لنرى هل نالت القليل من عالمية مدينة ورزازات؟. نعم، لقد حازت القصبة نصيب مهم من صناعة المشهد في الفن السابع، بفضل امتداد هذا الفن من ورزازات إلى أسوارها.

صورة من مسلسل صراع العروش

هذه البنايات الطينية والأسوار في القصبة، شاهدها الملايين حول العالم لسنوات طويلة، ففيها صورت أشهر الأفلام والمسلسلات العالمية، مثل المسلسل الأمريكي "صراع العروش" عام 2011، الذي يعد من أنجح الأعمال الدارمية الحديثة. من غير "صراع العروش"، نجد أعمال أخرى لا تعد ولا تحصى بمختلف اللغات، نكتفي بذكر أبرز وأشهر ما نالته القصبة من آلاء ورزازات العالمية، بداية بفيلم الأمريكي "المصارع" عام 2000.. المصارع، فيلم تاريخي أمريكي من بطولة "راسل كرو"، وإخراج "ريدلي سكوت". هذا الفيلم الذي صور في مدينة ورزازات وأرجائها، منها قصبة آيت حدو، نال خمسة جوائز أوسكار، كما حاز على جائزة جولدن غلوب. فيلم آخر تنفس الأوسكار، وتشهد عليه أسوار قصبة آيت بن حدو، هو "لورانس العرب"، الفيلم الأمريكي الذي صدر عام 1962، من بطولة "بيتر أوتول" وإخراج "ديفيد لين". ثم نلقى واحد من أكثر الأفلام العالمية إثارة للجدل، الفيلم الأمريكي، "الإغواء الأخير للمسيح"، الذي صور عام 1988 بالكامل في مدينة ورزازات وأرجائها، ومن بين أماكن التصوير، حظيّت قصبة آيت بن حدو بنصيب الأسد.. الفيلم من بطولة "وليام دابو"، واخراح "مارتن سكوسيزي"، وقد حاز الفيلم على عدة جوائز عالمية، منها جائزة جلوب غلوب. ثم نختم بالفيلم الأمريكي "المومياء"، الذي صدر عام 1999 من بطولة "براندين فريزر"، واخراج "ستيفن سوماز". في عام 2015 كان من المتوقع جدًا أن يتم تصوير مشاهد كثيرة من الفيلم الأمريكي "المهمة المستحيلة"، في قصبة آيت بن حدو.. الفيلم من بطولة "توم كروز"، وإخراج "كريستوفر ماك كويري".. إلا أن ثمة شيء ما حدث واكتفى صناع الفيلم بتصوير تلك المشاهد في مدينة مراكش، دون المرور على القصبة.

هو قصر آيت بن حدو، البسيط في منظره الذي قام من تراب واحتفظ بلون التراب، وأمثاله قيل عنهم، أن عدد تلك القلاع في المغرب، تفوق أربعة آلاف، فكيف استّحوذ هذا القصر على كل هذه الشهرة دون سواه؟.

قصبة تيزركان

حقًا، إن في المغرب آلاف من تلك القلوع الأمازيغية، نذكر منها، قصبة "تيزركان"، التابعة لنفوذ تراب إقليم شتوكة أيت بها، وتبتعد عن بلدية تافراوت بأربعين كيلو مترًا، هي مزار سياحي كبير، وفيها صورت أفلام أمازيغية كثيرة، إلا أنها لم تصل إلى شهرة قصبة آيت بن حدو، وإن كانت لا تقل عنها حضارة، فهي كذلك آتية من قرون خلت. والظاهر أن مدينة ورزازات بإشعاعها العالمي في صناعة السينما، كانت من أكبر الأسباب في التعريف على قصبة آيت بن حدو. ربما.. أو ثمة سحر ما يحوم على القصبة؟.