المُلْتّبِس






ينهرني أبي بسبب مظهري، ويحث عليّ ترميمه، لكني لا ألقى فيه ما يُعيبه، وإن كان شعري الأشعث يُغطي أُذناي، أما الذقن والشارب يكادا يحجبان شِفاهي، إلا من حُمرّة مُغبرة تظهر للعيان، أو أسنان صفراء حين أٌعلن عن ابتسامتي الجميلة.. الوالد لا ينفك عني ويستفظع هيأتي: "يا ذاك المتعوس، حلِّق شعرك ورمِّم طلعتك.. أوَلا تدرِ أنك تُنقِصُ من كرامة أُسرتنا المحترمة أمام الخلق؟، وأنت وسِخٌ هكذا مثل المِنجرة". إنه خائف من شبهات قد تطالني بعد انشار اختطاف الأطفال وقتلهم بعد اغتصابهم هنا في قريتنا وعند قرى الأجوار. في الحقيقة كنت أشبه - على ما يتهيأ لي - أول سفاح أطفال ظهر في السودان أواخر الثمانينات، وعندما أرتدي الجلباب المغربي التقليدي، أُشبه الكُفار الذين كنا نرسمهم في كتاب التربية التشكيلية أيام الابتدائي لو تتذكرون معي.. ولو ودّدتم معرفة رأي أمي، فإنها تقول لي بأني على شبيهة من الديك حين يُسكَبُ عليه الماء الساخن، وإن كنت لا أفقهُ كيف هذا التشبيه، ولكم أن تتصورا كيفما يشاء خيالكم. قررت التخلص من شعر رأسي ووجهي، حتى أنال رضا الوالد وأنفض عني شبهات محتملة.. قصدت حلاق القرية، لأجد في محله ثلاث زبائن ينتظرون دورهم، والرابع ينتِّف الحلاق شعره بينما يقبض قطعة مرآة مكسورة بيده، وهم يثرثرون جميعًا. ألقيت التحية، واقتعدت بمحاذاة الباب حتى أُدخن السيجارة وأنفث الدخان إلى الخارج، وكذا يجعلني أتوه - متعمدًا - عن رصد قُبح المكان.. إنهم الآن يتحدثون عن وباء كورونا وكل مآلاته المثيرة، قال أحدهم: "لا وجود للكورونا إلا في خيال البلداء، إنها مؤامرة صهيونية لسيطرة على العالم". قاطعه الآخر قائلاً: "لا، إنها صناعة ماسونية، تهدف للتقليل البشر في العالم". هكذا يُحاول كل واحد منهم تزكية معتقده، بينما أُواصل نفخ الدخان خارجًا، وأتأمل سيدة بدينة تتراءى لي في الجانب الآخر من الطريق وهي تسير ذهابًا ومجيئًا بخطوات قليلة ورأسها سوِّية الأرض، كأنها تبحث عن نملة ضائعة، فتجعلني أُفكر في الشتاء الآتي واحتياجاته: طبق فول مغليٌ ومسقيٌ بزيت الزيتون، يُصاحبه كأس شاي ساخن، وأرجل إضافية تحت البطانية.. هذا ما يُخيّل لي الآن، وهؤلاء التعساء منغمسين في نقاش وباء كورونا بحماس ممزوج بخيشة الإداءة به.. في الحقيقة أنا لا أكترث للكورونا ولا أُجهد تفكيري به، كلما يشغل رأسي، هو حظي التعيس في هذه القرية.. لم تأتِ الرياح يومًا بما تشتهي أشرعتي، ولم تأتِ كيفما اتفقت وتنفخ في هذه الأشرعة البالية، وبعدها لا يهم أي اتجاه نسلك. لكني على علم اليقين أن العفريت المارد لن يخرج من ابريق قهوتي البلا غطاء، ويُخيرني من ثلاث أمنيات، وأعرف أن لا أحد يفتقد وجودي من غير بقال القرية حين أُدين له بثمن السيجارة، وأعرف أن جارتي المطلقة لا تُفكر فيما أفكر.. هكذا يجب أن أعيش دون الالتفات لغيري، ولا أنتظر قدوم غير الليل الهابط على قريتي.. في الوقت الذي غيروا فيه - المنتظرين معي - الحديث، واستقروا عند الإساءة لنبي المسلمين.. قال أحدهم: "إن مقاطعة المنتوجات الفرنسية ستُلحق الضرر لا ريب بالاقتصاد الفرنسي، لقد اتّفق العرب على عدم شراء كل ما تصنعه فرنسا." رد الآخر: "ومنذ متى اتّفق العرب؟. صمت الجميع، وأجبتُ أنا دون الالتفات إليهم: "حينما قصفوا اليمن". يا لذلكم الفرسان البؤساء يُعتقدُ لخيالهم المُنهك، بأن الامتناع عن شراء قطعتين جبن (لافاش كيري) في الصباح كفيل بأن يرّج اقتصاد فرنسا.. والأكثر منهم ثقافة ووعيًا - بالقليل -، يرى بأن تغيير صورته الشخصية التي يضعها في صفحته على الفيس بوك، بمثابة نصرةً للدين والردّ الذي سَيّنال من جدات آل فرنسيس.. فكرت في نابليون وهو يخطب على عموم الشعب: أيها الفرنسيون، احذروا.. احذروا من العرب حينما يغضبون؛ فسيغيرون صور (بروفايلاتهم). كنت قد انتهيت من السيجارة لأطوح بعقبها في الطريق كما يفعل المواطنون، ثم عدّلت جلستي - بعدما كنت أضع رجل على رجل - ووجهي إليهم.. حدجني أحدهم بنظرات متأججة، قائلا: "هل نفهم أنك ضدّ مقاطعة المنتوجات الفرنسية؟". سعلت جراء الأدخنة المتبقية في صدري، وأجبت السائل ذاك: "أنا أُقاطع المنتوجات الفرنسية منذ انزلاقي من بطن أمي، لأن جيبي لا يقدر على ابتياعها". قال أكثرهم فضولاً: "ماذا لو كنت تقدر على اقتناء المنتوجات الفرنسية، هل كنت لتنخرط في هذه المقاطعة المباركة؟". وبدأ الجميع ينظر إلي، حتى الحلاق تجاهل رأس الزبون واستدار نحوي، يتنظروني من هذا البشع جوابًا لسؤالهم المكر. قلت: "حسنٌ سأجيب عليكم، لكن بعد معرفة إجابتكم عن تساءل خَطَر في مُخيِّلتي: ماذا لو خيرتكم الآن بتأشيرة الذهاب بمعية عقد عمل إلى أحد بلدان المسلمين، أو إلى فرنسا؟؛ ترى أيًا منهما تخترون؟". صمتوا في تبادل للأنظار، بينما أضرمتُ السجارة الثانية ووجهي صار ناحية الباب، لألقى السيدة البدينة - لو تتذكرونها - قد انصرفت.  

انتهت.

تعليقات

  1. أعتقد أنك نشرت القصة وأنت تتوقع هذا النوع من الردود، لذا هاقد وصل هذا النوع من الردود الذي كنت تتوقعه.
    أخي محمد، لقد مجدنا أبطال المقاومة لأنهم حاربوا في قضية خاسرة، لإنهم حاربوا وهم يعرفون أن فعل شيء أفضل من الجلوس كالبط على حافة البرك. مع الاختلاف الكبير بين اليوم والبارحة، أنا أرى أن فعل شيء أفضل من السكون. سرقة عود ثقاب من العلبة، أفضل من أن تكون العلبة مكتملة. هي طريقة في الإعلان عن النفس ولفت النظر، بالتأكيد هي أفضل من الاختباء، وبالتأكيد يوجد ماهو أفضل منها، لكن الأكثر تأكيداً، هو أنه إذا كانت المقاطعة سخافة فالسكوت سخافة أكبر.
    دعنا من أن اتفاق العرب على قصف اليمن لم يكن اجتماع عرب، بل كان اجتماع قادة عرب، اجتماع العرب هو المقاطعة التي تحدث الآن، وحينما نجتمع فعلاً -حتى على شيء تافه وبسيط كهذا- نسخر من أنفسنا أننا اجتمعنا!
    استمتعت جداً بالقصة في ظاهرها، أما في المضمون والرسالة فلا.
    سؤال لك، هل من الأفضل ألا نكون أصحاب قضية على أن نكون أصحاب قضية؟

    ردحذف
  2. الأكيد أني كنت أنتظر مثل هذا الرد^^ .

    ربما قد يظهر في القصة السخرية من المقاطعة أو تسفيه القيام بها.. لكن لم يكن ذلك هو المقصود وإن بدا كذلك.. ودعنا نتفق أن لهوَ شيء جميل أنه مازال في أمة محمد رسول الله صل الله عليه وسلم من يغير عليه. إن مضمون القصة في شاب فقير آخِر همه هو كورونا وكذلك هذه المقاطعة المستجدة.. هو يريد العيش الكريم فقط، لكنه يتساءل أو يبحث عن جواب مقنع، لهذا التناقض الذي تبين له في مشاعر البعض اتجاه الغرب، بحيثُ يُروِّجون لمقاطعة سلعهم ويعتبرونهم أعداءً لهم، ويتآمرون عليهم، ثم يعرهون إليهم في أول فرصة سانحة، بل ويستنجدون بهم - في قوارب الموت أقصد -، ويعتبرونهم المثل الأعلى!.. أعتقد أن من حق المرء طرح هذه النقطة، مع تجريدها من مرادفات الدين.. والرد عليها، يُفضل - برأيي - أن يتخلله المنطق، حتى نتجنب مثل شعبي مغربي يقول "إيخ منو، وعيني عليه".. أعود وأقول لم أقصد السخرية من الدعاة للمقاطعة؛ بل حاولت طرح هذه (السكيزوفرينيا) من لدّن البعض، في قالب ساخر تماشيًا مع شخصية البطل.

    الآن سأطلعك عن رأيي بغض النظر عن الذي أتى في القصة أعلاه. المقاطعة من أرقى أشكال الاحتجاج المعاصر، وهذا لا نقاش فيه، وأتفهم جدًا قولك "خير من لا شيء".. لكن برأيي إلى متى سنظل على الهامش ونرضى "بخير من لا شيء" طالما يُمكن لنا فعل ما هو غير سطحي؟! نعم أنا مع المقاطعة إذا كان لها نتيجة تُرجى منها، وليس الجعجعة بلا طحين.. أُفضل عندما اقوم بشيء يكون له مفعول، وسأذكرك بالمقاطعة الحقيقية عام 1973، وما يُعرف بأزمة النفط، تلك أقول عنها "نعم" وأفتخر بها؛ لم لا وقد أصابت شوارع الغرب بالشلل ورجعت بهم إلى أزمنة جرّ العربات بالخيول. أما هذه المقاطعة المستجدة فقد انتهت قبل أن تبدأ، على ما يظهر بعد مرور أسبوع فقط، فلم تكن مبنية على أُسس متينة.

    نمر إلى نقطة "قصف اليمن".. تقول بأن من اتفق على قصف اليمن، ليسوا العرب، بل قاداتهم!.. أليس الأمران سيان؟، إن هؤلاء هم أولياء أمورنا، ونحن من نصبناهم ليتخذوا القرارات نيابة عن شعوبهم.

    أما عن سؤالك.. أجيب: نعم الأفضل أن نكون أصحاب قضية على أن لا نكون؛ شرط أن تتوفر لنا الشجاعة على استخدام ذخائرنا نصرةً للقضية، لنكون أهلاً لها، ولا نقبل (بخير من لا شيء)، حتى لا نظل على الهامش مع قضيتنا، ونوهمُ أنفسنا بما ليس فيها، وكذا تجنب مجرد رد فعل لأجل احتساب رد فعل.. والقضية الفلسطينية خير مثال في ذلك.

    أخي أو أختي.. أشكرك جزيلا على رأيك المهم والمرحب به، وسعدت أنك استمتعت بقراءة ظاهر القصة، وأتمنى أن يعجبك المضمون في القصص المقبلة إن شاء الله.

    ردحذف
  3. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  4. روعة روعة في الكتابة والتشبيهات الغربية كأنني أعيش داخل القصة لكنها انتهت بسرعة وكان يمكن أن تطول أكثر أتمنى أن تفكر في اكمالها ... أما موضوع القصة فأتفق معك كليا ... حتى عندنا في تونس لم يعد أحد يتداول هاشتاغ المقاطعة بعد أيام قليلة من بداية المقاطعة ما يدل على فشلها ... لكن هذا أقصى ما نستطيع أن نقوم به يا الأخ محمد ؟ على الأقل يكفينا شرف المحاولة ... لكن المشكلة في الحكام وليس الشعوب

    ردحذف
    الردود
    1. قد أفعل وأكمل القصة بنفس الشخصية ونفس الأسلوب إن شاء الله.. فيما يخص قولك "هذا أقصى ما نستطيع فعله". اقول أنا، بأن بامكاننا فعل ما هو أفضل، والله أعلم.. وأتفق مع مقولتك الأخير، لكن مع تذكير من صنعهم.

      شكرا الأخ دحداح على حسن القراءة والرد، وتحياتي لك ولكل الإخوان في تونس الخضراء.

      حذف
  5. أنت لا تتغير ،، لا زال شيطان الصعلكة يظهر في كتاباتاتك ،، رغم أنك تحاول في بعض الأحيان أن تصرف ذلك الشيطان ،، لكنك مثل السمكة التي لا تستطيع أن تعيش بعيدا عن الماء ،، قلت لك سابقا وأكرر الآن ،، قلمك شجاع لكنه أناني ،، وتبقى أحد كتابي المفضلين

    ردحذف
    الردود
    1. أحاول أن أكشف من تكون، ومتى وجهت لي هذا الكلام؟.. لم أستطيع الوصول لشيء، فدعني أتجاوز كل ما تفضلت به - بعد تقبله واحترامه - وأقول أنه يشرفني حقًا أن أبقى كاتبك المفضل، وأرجو أن تستحملني كما أبدو لك ^^

      شكرا لك.

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-