الرقصة الأخيرة

قصة قصيرة، بقلم : غدير الفضلي - العراق


في رحلتك إلى التحرر و النسيان، لابد أن أن تعود الى قمة البداية حيث خُلِّق أول تذكار، أول حكاية، أول كلمة، وأول نظرة عليك أن تعود و معك تلك الممحاة لتمسح كل شيء في محاولة لتغيير الأقدار.

***

هنا في فينيسيا، حيث لم يتبق لها أحد يتعرف عليها سوى جدران الشقة الصغيرة من ذلك الحي الصغير، الذي قصدته يومًا بغية الدراسة في إحدى جامعات إيطاليا، واليوم تقصده مجددًا متلاعبة بمنطق المصادفات.. و قفت أمام مرآة غرفتها، رفعت صوت الاغنية المحببة لها : " أحبيني بلا عقد ". كثيرًا ما يخلق هذا المطلع تساؤلها عن تلك العقد التي يطلب منها نزار أن تتخلى عنها.. هل كان يقصد بها نفسه طالبًا منها أن تتخلّى عن عقد المخاوف و الآلام التي تتبع كل ذكرى يتيمة تراوده حول من أحب و تعلق به قلبه؟، أم يطلب منها هي أن تترك عُقدها اللامحدودة و يمضيان كورقتين ناصعتين بعيدين عن لوثات العالم.

لم تقاوم حينها اغراء الرقص فتماسكت في الفضاء، وتشبثت في أيادي خفية تراقصها التانغو في رقصة أخيرة ، كما تفعل قبائل غانا قبل أن يدفنوا موتاهم .. "أحبيني بعيدًا عن بلاد القهر و الكبت، بعيدًا عن مدينتنا التي شبعت من الموت ".. في ختام الأغنية التي أنهكها الارتحال معها وحيدة،تذكرت تلك المرة التي أخبرته فيها ماذا لو علم نزار أن أبطال قصيدته قد اجتمعوا هنا في الغربة و سرعان ما سوف يشتتهم بلدهم حينما يعودون زاجرًا بهم،فالبلدان التي اعتادت أسى الموت حتى حملت رائحته في كل زواياها بالتأكيد لا زالت تتشاءم من فرحة الحب سيما الحب المعقود خارج أحضانها .. تهاوت بعد أن راقصت العدم و هي التي كانت تقول سأرقص حتى تخلق لي جناحات و أطير.. ها هي تجلس على الأرض تلهث بمفردها لا شريك رقص يقاسمها التعب و لا عرق يختلط بعرقها.. تلاشى صوت الأغنية و انتهت النشوة من الأجواء، نظرت إلى الساعة، إنها السابعة مساءًا عليها أن تلحق موعدها.. موعد مع قلبها على ضفاف فينيسيا الصامتة، الصامدة.. وفي محاولة منها للوقوف في المنتصف و اتخاذ الحياد تدرك أنها تكذب، إذ لا يوجد منتصف إلا لأولئك المتشككين و المترددين.. هي مترددة بين الاحتفاظ بنفسها منفصلة عنه، و بين تشكيل نفسها كما يحب لتحتفظ به في أدق تفاصيلها.. فبين حبه للشعر القصير و حبها للشعر الطويل، اختارت أن تتركه في المنتصف عند مرفقها غجري بانسداله، و بين مأخذه عليها في العطور و حبها لعطورها التي تترك من خلالها توقيع على أشيائها و اشيائه اختارت عطر يتميز برائحة مشابهة للعبق الذي يخلفه عطر على مشارف الزوال.. فكرت و هي ترش قطرات العطر، ربما كان يخاف أن يراوده عطرها في مكان ما فتغريه الذكرى و يقع في أثم الحنين مجددا.. رسمت شفتيها بلون أحمر قاني، تذكرت و هي تضع زينتها، تزيين الأسلحة و تنظيفها قبل أن يتم الاغتيال بها، لا تعلم لماذا على القتلة أن ينظفوا دومًا من تلك الدماء و ان يخرجوا بأبهى حلتهم و هم يضربون موعدًا مع الموت.

وقفت أمام أحذيتها، لم يكن من حياد لتختاره أما أن تواري قصر قامتها أو تعريها لأنه أحب ضآلتها، وبكعب يرتفع انش واحد فقط، خمنت أنه الخيار الحيادي.. خرجت من الشقة، نزلت من طابقها العلوي و ليس كما في الأفلام و الحكايات المبتذلة، لم يكن هناك العم سيد بواب العمارة.. في فينيسيا هنا يتركون البيوت دون بوابين، والعمارات كذلك لا يعود الامر الى يوتويبا مجتمعهم إلا أن الأقفال فكرة في منتهى الابتذال، حيث تقفل الأبواب خشية أن تسرق أشيائك، بينما يسرق منك كل يوم عمرًا و أحلامًا.. وقلبًا.

قادتها قدماها عن سبق اصرار و عزيمة إلى قرب جسر بونتي ديلي سكالزي، حيث كان يقف هناك كمن على موعد مع القدر، فلا يدري لم جاء هنا ولماذا في هذا الوقت بالذات؟، إنه هنا لأن شيئًا ما أراده أن يتواجد في هذا الوقت و في هذه الساعة، وكمن يتوقع قدوم شخص راح يبحث في الوجوه حتى رآها  تقترب من ناصية الجسر، تضع يديها في جيبي معطفها المقفل.. ألقت التحية عليه كاسرة لذلك الصمت الذي بدأ عند عودتهم لبلادهم، حيث صمت هو وصمتت هي ثم صمتت الحكاية.. وبصعوبة أن تنهال بمعولك الصغير على حائط ضخم.. كان من الصعب أن يكسروا صمت مدته عشر أعوام كبر كل يوم حتى باتت في حضرته كل عبارات الترحيب باردة برودة فينيسيا في أمسية شتائية..  هو الوجه الوحيد الذي عرفته هنا، اتخذت موقعًا الى جانبه، فسألها ببرود:

 _ أهي مصادفة أخرى؟!.

 _ يمكنك أن تعتبرها كذلك.. أن أمتلك أسبوعًا للإجازة، يصادف فيه اليوم الذي زرت فيه إيطاليا أول مرة للالتحاق بالجامعةللحصول على الدكتوراه.. أشعل بداخلي رغبة العودة و إحياء الذكرى.. أعلم أنه لن يعرفني هنا أحد، لكن بلا شك ستعرفني فينيسيا، و جدران الشقة التي سكنتها منذ عشر سنوات، ولحسن الحظ وجدتها شاغرة أيضا هذه المرة. ماذا عنك أي مصادفة ألقت بك هنا؟.

 _ أنا هنا منذ أسبوعين في رحلة عمل، و لم أقاوم اغراء أمسية على ناصية جسر بونتي ديلي سكالزي.. في جميع أماسي الأسبوعين السابقة كنت أتي إلى هنا،  فأُخمن أن وجودك الاَن هو هدية من الجسر لي على وفائي له.

تبسمت و لم تظهر تجعيدات ووجهها كابتسامة مزيفة أمام كاميرا وهمية:

_ إذن لا زلت على توقعك بوجود الحياة في الاشياء؟!. 

أشاح بصره عنها متأملًا الوجود وهو يلقي كلماته:

_ أتدرين لو كنا نأخذ صمت الأشياء موت؛ لما كان الأخرس في عداد الاحياء، و لو أخذنا العجز الحركي انعدام لحياة لما كان المعاقين في سرب الأحياء.
  
استفاضت بها رغبة ملحة أن تمسك وجهه و تديره ناحيتها قبل أن تقول له: 

_ لكن الصمت هو الوجه الاخر للموت.

و كأن يد خفية استدارت به تجاهها.. ثم التقت بعينيه ففاجأتها ابتسامة يائسة بزاوية فمه: 

_ تصمت الأشياء و الكائنات حينما لا تختار هي ذلك، هناك شيء يقمعها يبدد صوتها في الهواء.. إذ ليست كل الخيارات نمسك زمامها والصمت أحدها.

نشأت بداخلها زوبعة من الكلام والاشتياق، ودت لو أن كل شيء بينهم كان أكثر حميمية من الآن، أن يحتضنها على مرأى من الأبنية المتراصة والعابرين بوجوه لا تحمل ملامح، على مرأى من الجسر الذي تقابلا عنده أول مرة.. لكن كيف يمكن و قد تكونت بينهم صحراء جليدية لم يحن بعد موسم سيولتها.. وحينما يحتشد الكلام في جوفها يختنق الصوت و يصرع بالصمت. تحاشت النظر إليه وراحت تراقب الطيور التي أحاطت بطفل يرمي فتات الخبز، وعلى جانب منه مشرد يأبى أن يستسلم للصمت فيمتع المارة بموسيقى كمانه فاردًا قبعته تستقبل اموال تُطيل عمر الموسيقى.

_ أنتِ صامتة الآن وتلازمين المكان ذاته، أنا أخشى أن تكوني حسب نظريتك تحتضرين الآن.. هل سمحتي لي بمنحك مزيدًا من الدقائق في الحياة بالتمشي قليلا.

 التفتت فور سماع صوته و قد رأت عينيه، لم تكن باردة ولا دافئة، كانت حيادية لكنها لم تكن كاذبة ولا مترددة، ربما كان يقف متأملا بها  في الوقت الذي شردت عنه.. قابلت ابتسامته بابتسامة باهتة و قد قبلت عرضه:

_ لا أمانع طبعًا.

راحا يمشيان جنبًا الى جنب، مشغول هو بالتمعن في هندسة المباني الارستقراطية القديمة، بينما هي كانت تزور بنظراتها التفاصيل البسيطة و الحالمة، كالمياه المتدفقه، الطيور التي تحط و تحلق سريعا، تأخذ نفسًا عميقًا علها تتزود من عبق مدينة العشاق ما يكفيها للتخفيف من سخونة الموت والخوف في بلدها..  انسابت الموسيقى هادئة من أحدى المحال  الى سمعهما:  

 Ci sono giorni in cui non dormo E penso a te.
(كم من ليلة لم أستطع  النوم فيها و أنا افكر بك).

عند سماعه لمطلع الأغنية ردد معها بدندنة خفيفة  قافزًا الى المقطع الأحب اليه:

Come vorrei..  Che questo amore che va  via  Non  si  sciogliesse come fa la neve al sole Senza parole
(كم أود لو أن هذا الحب لا يختفي كما تذوب حبات الثلج تحت الشمس بدون أي كلمة). 

 استدارت تجاه محل التذكارات البسيط  الذي صدرت عنه الاغنية للتو، لم يفاجئها أن تعلم أنه ذاته الذي وقفت عنده وسمعت منه الأغنية هذه أول مرة، وعلى مقربة من بابه رقصت معه التانغو عند أقدام  جسر  بونتي ديلي سكالزي.. وفي غمرة سهو منها أيضًا، لفظت مقطعها الذي كانت تردده دومًا وتقطع به قداسة صمت التانغو و شراسة عمقية.

  Dovrei capirti quando  vedo che vai via E non  amarti quando non vuoi farti amare Senza  cadere in una  nuova gelosia Che solo tu.
(هل يجب علي أن أفهمك حين ترحل بعيدًا؟! هل يجب عليّ ألا أحبك إن لم ترد انت هذا؟! دون أن يراودني شعور الغيرة التي أنت وحدك تجعلني أشعر بها؟).

همست بعدها بهدوء و هي تقترب أكثر من النافذة حتى كادت تلصق وجهها بها:

Come vorri che tu mi amassi a modo  mio
(كم أود أن تحبني بالطريقة التي أريدها)

ظنت انها رأت في انعكاس زجاج النافذة أجسادًا تدور و تندمج مع بعضها، ثم تبتعد وتبقى الأيدي محكمة القبض، كأنها تخشى أن تنفلت فيسحبها العدم نحوه.. ومن خلال زجاج النافذة  التي كانت تعرض تذكارات بسيطة لم تر انعكاسه خلفها.. أتاها صوته من جانبها مع تزامن تكون انعكاسه وكأن الزجاج تذكر للتو وجوده:

_ هل تودين الرقص؟.

التفتت اليه و بتردد لم يخف عليه أجابت:

_ لا، لا أظن ذلك.. فقد تعودت أن أراقص الفضاء حتى فقدت قدماي تناغم الرقص المزدوج.

أكملا سيرهم مخلفين صوت الاغنية وراءهم، وعجبًا أن تعاتب الكلمات ذاتها وهما هنا يتجنبان العتاب كما يتجنبان الألغام الموقوتة خشية أن تنفجر فتسحقهما معًا،  وهم الذين اعتادوا التواري للهروب من الموت بشتى أنواعه حتى و إن كان بشكل عتاب.. حيث هنا فينسيا تصلح للحب و الحياة لا للعتاب. قطع الصمت مجددًا بصوته و هو يتمشى برتابة من أعاد الموقف مرارًا حتى فقد غمرة الاندهاش الأول:

_ عند هذا الجسر كانت آخر رقصة  في حياتي أديتها معك، بعدها طلقت التانغو كله.. فقط عندما تغادر فينسيا، عليك أن تترك كل شيء فيها كما هو و لا تسحب شيء منها الى وطنك، إذ يناله العطب و تفسده رائحة الحرمان و الموت فور وصوله إلى هناك.. هنا عليك أن تفرز ما يخص فينسيا ليبقى حلمًا جميلًا، وما تأخذه معك إلى وطنك، كتلك الأشياء التي لا تخاف فسادها لأنها ليست ثمينة هي فقط تستحق ان ترافقك، تمامًا كالأيام الماطرة في بلادنا حيث ترتدي لها ما اقتضت الضرورة و تترك الماركات في البيت خشية تلويثها بطين لن يزول و لو قضيت عمرًا تكدح لإزالته.

تساءلت في سرها هل كان يكمل الحديث معها بعفوية أو يعطيها جرعة مسكن؟! ردت عليه بالتمويه ذاته:

_ حقا من المؤلم أن يعيث فيك فسادًا من أحببت حتى الموت و يرممك غريب رمتك المصادفة على قارعته.

لم تمنع نفسها و هي تمشي أن تنسحب الى تلك الذكرى ، حيث سمعت اغنية come vorrei من المحل، كانت الأغنية على وشك الانتهاء إلا أنها تسللت الى المحل،  وأخبرت الصبي البائع بلكنتها الايطالية المشوبة بالانجليزية، أن يعيد الأغنية مجددًا و يرفع صوت المسجلة الى أقصاه، ثم خرجت من المحل واقفة أمامه بفستانها القصير، حيث كانت تواريه بمعطف خلعته.. فعندما تنوي أن تكون في حضرة التانغو عليك أن تتجرد مما يثقلك و يعيق حركتك و تتجهز الى رحلة التحليق.. قالت:

_ لا تخبرني يا أستاذ التانغو أنك تخجل من ممارسته في العلن.

التفت يمينًا و يسارًا، كان الشارع في أمسية قبل رأس السنة بيومين لا يحتوي الكثير من السياح إذ أنه وقت اجتماع العائلات، أما المغتربين هنا الذين أتوا لينهلوا من علم عز على وطنهم أن يمنحهم أياه بالشكل الذي يفتخرون بوضعه في شهاداتهم، هم وحدهم يتخاطفون يتأملون في المكان ،يوازنون بين برودة الغربة و برودة الاجواء،  إذ يخشون انعدام التوازن فتصيبهم انفلونزا النبذ و الدونية الخفية لهذه المدينة.. تساءل :

_ الان ؟!.

_ نعم و في هذه اللحظة.

مدت يدها إليه، تناولها و انغمرا في تناغم موسيقي كلوحة متحركة.. تخطو يمينا تدور ثم خطوة الى اليسار و تدور، تعلق ساقها الى أعلى ساقه و وتتمدد الى الخلف، يسندها بيدها ثم يرفعها ..  هناك حيث لا شواهد و لا مقابر للأحلام و لا منصات تجعلك تحت الاضواء، عليك فقط باقتناص فرصة الضياع و الانغمار حد الامتلاء بعبق من مدينة لا ينام سكانها و لا تنطفى أضواءها ولا يتوقف ماء حياتها ما دامت ترقد كحورية على ظهره.  ذات مرة و هو يراها تتدرب على الرقص، حيث نجحت فيما بعد باغراءه بالتسجيل بنفس النادي الذي كانت تختطف ساعة أو ساعتين بعد جامعتها للذهاب اليه، كما كان هو يهرب من قيود دراسته..  وفي غمرة انتشاءهما برقصة منحاها لنفسهما عند انتهاء امتحاناتهما، سألها عن سر اختيارها لهذه الرقصة في حين يمكنها أن تتعلم السالسا او الكلاكيت او أي رقص آخر.. أجابته:

_ يعجبني شراسة رقص التانغو و كبرياء راقصيه، في الوقت ذاته يخلق فسحة من التأمل و الشعور بالسمو، ليس كما رشاقة السالسا او صخب و حيوية الكلاكيت، لكن السبب الحقيقي وراء اختياري انه في هذا الرقص فقط تقترب من شريكك الى حد الغوص في عينيه على أنغام هادئة.

حملها من خصرها كعصفورة فردت جناحيها، وحركت ساقيها كأنها تسير في الهواء وعندما أنزلها استدارت لتصبح أمامه وأكملت :

 _ أتعلم أن أكثر ما يهمني هو العيون، حتى أني الآن أكاد أتذكر عيون جميع من قابلتهم، في حين لا أتذكر أي ملامح أخرى من وجههم و لا أجسادهم.

قال في الوقت الذي أحنت فيه ظهرها إلى الخلف مستندة على ذراعه:

_ و ماذا عني، هل ستختزليني بعيون فقط؟.

رفعها و فتح لها يده معطيها حق الابتعاد، وفي خلال ثانية لفت نفسها بذراعه لتعود مقاربة لصدره و ممعنة في عينيه:

_ ربما لا و ربما نعم، لكن الأكيد أني لن أنسى عينيك.  وفي رغبة منه لاعادته إليها حين رآها تبتعد في فكرها عنه، عرض عليها أن يدخلا  مقهى يحتسيان فيه شيئا من الشراب، وافقت دون اعتراض ليس لأنها تعبت ففيها من الطاقة ما يمكنها أن تلف فينسيا أربع مرات،لكنها تخشى الامتلاء حد الشبع بها ولن ترضى بعد ذلك أن تلقم جوعها بما دونها و ستعاني من ادمانها و ادمان الماضي بشكل أسوء وأخطر من أدمان الهيروين.

***

يجلسان في المقهى، ولا كلمة تُسمع بينهما، كنف الصمت المقهى، بل فينيسيا بأهلها تلوذ في الهدوء. يتناظران، يطرقان برأسيهما ثم يعاودان النظر في عيون بعضهما. توّد أن تبوح له بمكنونات قلبها، لكنها تدري يقينًا أنه لن يسمع بَوحها، عتابها، أيًا كان لتقوله.. فعاصي لا يزيد عن غمام متمادي في خيالها.. عاصي لا هو موجد هنا، وحتى الكرسي الذي يجلس فيه غير موجود!. أغلقت دفترها، دفعت فاتورة حساب الهوت التشوكليت الذي برد منتظرًا منها أن تضع قلمها و في حال وضعته غادرت المقهى دون أن تحتسي شيء من مشروبها.. سمعت صوت النادل من خلفها:

_ سنيورينا، لقد نسيتي دفترك و قلمك.   التفتت اليه، وأجابته بابتسامة:

_ لا حاجة لي بعد الآن بهم، إني أمنحهم لك إن كنت من محبي القراءة، وإن لم تكن فدعها هنا ليأخذها شخص آخر.

نظر بدهشة إلى الدفتر المغلف بجلد أسود وقلمها الذي لم يتخلَ عن هيئته العربية كما تستطيع أن تميز بدويا من لثامه.

_ أصبتي أنا من محبي القراءة، يمكنك أن تأخذي النقود سأدفع بدلا عنك امتنانا لهديتك.

 _ هذا لطف منك، لكن قد دفعت مسبقًا.

نظرت الى ساعتها و أخبرته.

 _ يجب  أن أذهب الان Arrivederci (وداعا).

_ Arrivederci.

خرجت من المقهى حيث لم يكن  من عاصي معها و لا رجاء بداخلها  قد تحررت أخيرًا.. ولاشيء يمنحها الحرية الآن أكثر من معرفتها أنها لن تبكي، لن يخالجها الحنين، لن تقف سائلة مجددًا على أبواب القدر، تستجدي لقاءًا مع عاصي يقاطع مسار حياتها، لأنها لم تعد تنتظر شيء وتأمل شيء.. وفي قمة التحرر و التحليق في سماء الصوفية، تدرك أنك تحرر نفسك فقط عندما تتحرر من الرغبة الانتظار، الحلم، و الشغف بوهم لن يأتي.. حيث في لقاءهم الافتراضي على الورق الذي دونته و تخلصت منه للتو، كان  كما تحكي سرًا لقارورة و ترميها في عرض البحر رغم أنك تعلم أن البحر لن يقرأ و ربما لن تصل لأحد، لكنك تنشد التحرر.. كذلك هي أرادت ان ترمي أمنية لقاءها به مجددا في عرض فينسيا لا يهمها ان انتهت بمكب قمامة أو أي مكان آخر،إالا أنها لم يعد بامكانها أن تحمل معها منحات هذه البلدة من ذكريات  الى بلادها .. لم يأتِ عاصي و لم تراه تلك الأمسية كما لم تستمع الى come vorrei ولم ترَ الجسر ينطق ولم يحتفِ بها و هي التي رقصت له كراهبة في مذبح الاله قبل عشر سنوات.

فور خروجها لسعتها نسمات البلدة الباردة تحمل شيء من عبقه شيء يخبرها أنه هنا، ربما على الجانب الآخر من الجسر ينتظرها لكن لا يهم، فما عادت الآن تفكر في احياء تلك الجثة التي ربطتها بحبل متين و رمتها في مياه فينسيا وتحديدا  في مقهى على مقربة من جسر بونتي ديلي سكالزي.

 تمت.

تعليقات

  1. قصة دسمة مليئة بالوصف والشاعرية واجواء ايطاليا الرومانسية النهاية رائعة مفاجئة اعجبني الكثير في القصة مثل رقص التانجو ووصف اجواء فينيسيا وبعض الاقتباسات تصلح بان تضعها في النهاية كما كنت تفعل سابقا وسؤالي عن اسم البطلة ؟؟ ام فاتني ولم انتبه هههههه
    احسنت اختيار القصة اخي محمد

    ردحذف
    الردود
    1. بداية كل الشكر الى الاخ محمد بنصالح على نشره لقصتي في مدونته و اتاحة الفرصة لمشاركة كتاباتي ..

      Abdo al dahdah
      سعدت اخي الكريم ان القصة اعجبتك او اعجبك الكثير منها ..
      بالنسبة لاسم البطلة قد ذكرته بالقصة بعبارة يمكن أن تفهم بمعنيين "خرجت من المقهى حيث لم يكن من عاصي معها و لا رجاء بداخلها" و المقصد هو رجاء اسمها و كذلك الرجاء الذي بداخلها، اردت تغييره ليكون اوضح لكن وجدت العبارة هكذا اجمل فتركتها .. لا اخفيك اني لم اكن اود من الاساس ان اذكر اسماء في القصة الا ان في نهايتها عدلت عن ذلك و كشفت هوية البطلين ، كما اني لم اذكر بلدهم ايضا رغم اني كنت اشير لبلدي العراق ووالذي لا تختلف احواله عن احوال الكثير من البلدان العربية ..

      اشكرك مجددا على مرورك ..تحياتي


      غدير الفضلي_العراق

      حذف
    2. شكرا لك اختي على التوضيح ونتمنى السلام والامان لبلدك العراق وكل بلاد العرب والمسلمين

      حذف
    3. اميين يارب .. شكرا لك اخي على دعواتك الجميلة.. تحياتي

      غدير الفضلي_العراق

      حذف
  2. حسنٌ يا غدير، القصة فائضة بالمشاعر، انهمرت علينا وتشبعنا منها، ورحلنا إلى فينيسيا العشاق وتنفسنا هواءها، وزرنا معالمها، ورددنا الأغاني الإيطالية، ورقصنا التانغو لنشتّم أنفاس بطلتنا في أجواء وردية.. وفي غمرة كل هذا؛ اكتشفنا أننا نعيش في دفتر أغلقته علينا تلك الشابة فجأةً، وسلمته لنادل المطعم ورحلت دوننا، لنعود إلى واقعنا، ونتيّقن أن الحياة ليست بهذه السهولة.

    أحسنتِ.. ومرحبًا بك دائمًا.

    ردحذف
  3. ارأيت يا سيد كم هي الحياة جميلة و شاعرية عندما نكون ممسكين بورقة و قلم ، يمكننا ان نتخيل اللقاءات الوهمية و أن نخلق حياة اخرى ..
    اتعلم أن احلام مستغانمي في أحدى رواياتها تذكر اجوبة الكتاب عندما سألوا لماذا تكتب قال احدهم " ليجاور الاحياء الموتى" وقال اخر"كي اسخر من المقابر" بينما رد بائس اخر "لاضرب موعد مع امراة"..
    كما ترى ان في كتاب فقط يمكن أن تتحرر من القيود المادية لهذا العالم ، و هكذا فعلت رجاء في القصة عندما تلاعبت بعقارب الساعة و في مصادفات القدر لتخلق لقاء بارد وهمي ..
    و كما قلت الحياة ليست بتلك السهولة ..

    تحياتي لك و اجدد شكري لك مرة أخرى ..


    غدير الفضلي _ العراق

    ردحذف
    الردود
    1. صدقت.. أقول قد يكون أجمل العيش هو وهمه.

      العفو

      حذف
  4. ياسين الرامي31 أغسطس 2020 في 1:47 م

    فكرة القصة بسيطة إلا أنها تستحق القراءة ،، فهي هادئة قليلة الفلسفة كثيرة الأحاسيس تذكرني بأدب النساء ،، البحث عن الذات في الغرب طريق شاق ورجاء تبحث عن وطنها الذي تركته عند عاصي لكنه اسم على مسمى ،، ولم تستطيع تحقيق ذلك إلا في دفترها وتوهم نفسها لمدة وجيزة ،، ومن النقاط التي أراها إيجابية في القصة هي الكثير من العبارات المعبرة التي تستحق أن نتأمل فيها ولا نمر عليها مرور الكرام ،، النهاية رفعت من أسهم القصة فلو كانت تقليدية فلن يكون هناك أي ابداع وتكون القصة أقرب إلى خاطرة.
    كاتبة موهوبة أتمنى أن أقرأ لك مرة أخرى.

    محمد : وهل كنت تظن أن الحياة بهذه السهولة حتى ترقص التانغو في فينيسيا رفقة العشاق ؟؟

    ردحذف
  5. ياسين الرامي
    سررت باعجابك بالقصة ، نعم هي لا تحتوي الكثير من الفلسفة او تلك الفلسفة العميقة التي تجعل القارئ يشعر ان الكاتب يتحداه بالفهم ..
    و كما قلت ان الفكرة بالنهاية اساسا، انها من النوع التي تجعلك تشعر انك مخدوع طيلة الوقت هههه .. لا احبذها في كثير من المرات لكن اردت شئ مختلف هذه المرة ، سيما ان القصة تحكي عن فتاة تصارع الذكريات المؤلمة فتحاول ان تعود الى المكان ذاته التي التقت به لاول مرة بعاصي ، تدون لقاء افتراضي معه في ذات المكان عندما تعذر عليها ان تقابله مجددا بالواقع، و تركت الدفتر بمحاولة لتقطع مايربطها بالماضي تماما .. و هذا اشارة ان التحرر يكمن بمواجهة ما يؤلمك حتى ولو كان بتدوينه على الورق..
    تحياتي لك و اشكر لك اطراؤك الجميل ..


    غدير الفضلي_العراق

    ردحذف
  6. عبد الرزاق ايدر4 سبتمبر 2020 في 9:51 م

    أعتقد هذه أول قصة رومانسية في المدونة وهي قصة معبرة وأسلوبها جميل ... لاحظت أنك بدأت تنشر لكتاب آخرون وهذا جيد حتى لا تعتمد على نفسك فقط ما يجعلك تتأخر في النشر في بعض الأحيان ... وللأمانة قصص أصدقائك في المستوى ...
    تحياتي لك وشكرا للكاتبة على مجهودها

    ردحذف
    الردود
    1. أشكر لك مرورك اخي الكريم ،و سعيدة ان القصة أعجبتك..

      تحياتي

      غدير الفضلي_العراق

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما