جامع الفنا .. ساحة الفنون والعجائب
هي ساحة شاسعة تتوسط مدينة مراكش القديمة، وتعتبر القلب النابض للمدينة عبر أكثر من عشر قرون، وتحديدا منذ انشاء مدينة مراكش عام 1071م، لم تهدأ فيها الأهازيج والعروض، حتى نالت مكانا لها في التراث العالمي للإنسانية في منظمة اليونسكو، وكذا في كتاب غينس للأرقام القياسية، كونها أكبر مسرح مفتوح للعروض في العالم.. إنها ساحة جامع الفنا.
مراكش، الإشعاع العالمي الكبير في مجال السياحة، وواحدة من أكثر مدن العالم استقطابا لزوار، المدينة الحمراء كما تلقب، حازت عام 2015 على المرتبة الأولى لأفضل وجهة سياحية في العالم متفوقة على اسطنبول وباريس وروما.. هي اليوم عاصمة السياحة في المغرب، وكل من عبر سبيل مراكش سيتوقف في ساحة جامع الفنا، حيث صرح عملاق يقع على مقربة من جامع الكتبية، أو ما تبقى من أطلاله، والذي يعود تاريخ ميلاده إلى عام 1147م.. تعرف ساحة جامع الفنا بالمسرح المفتوح الذي يسترزق فيه أصحاب المهن الغابرة، هنا ستجد عروض شعبية مختلفة، وأشهرها "فن الحلقة" هذا الفن نابع من الثقافة المغربية يعود بنا إلى عصور سحيقة، وما يزال مستمر يتحدى تقلبات الحياة الحديثة.. "فن الحلقة" يقصد بها حلقة من الجمهور تحشد حول صاحب العرض أو أصحاب العرض.. ومن أبرزهم "الحكواتيين" الذين في جعبتهم حكايات شعبية يسردونها للجمهور.. في جامع الفنا يحضر أبي الفنون : المسرح الهزلي.. إنك ستلقاه هنا، وليس مسرح واحد؛ بل مسارح وممثلين كثر يمكنك اختيار ما يناسبك.. من العروض الفرجوية كذلك الموسيقى والغناء، والألعاب البهلوانية، والخوارق أيضا، تلك التي تسيل لعاب السياح وهم على مرأى استعراضات لأشد سحرة المغرب، مع آخرون يتحدون حدود الطبيعة بقيامهم بأعمال يعجز العقل عن تفسيرها.. ولا ننس مروضو الأفاعي على أنواعها، وأصحاب القردة التي تنفذ أوامر سيدها. هي لمحة بسيطة عن بعض العروض الترفيهية أو الفرجة الشعبية في أكبر مسرح مفتوح في العالم. في جامع الفنا أشياء أخرى بعيدة عن الفرجة الشعبية النابعة من الثقافة المغربية، نذكر منها المسابقات المختلفة، القمار، خدمات متنوعة مثل النقش بالحناء، قراءة الفنجان أو علم الأبراج، وستجد كذلك في الساحة من يرسم وجهك الجميل.. ثم نصل إلى المطبخ أيتها البدينة، في جامع الفنا مطاعم متنقلة تقدم لزبنائها وجبات مغربية تقليدية وأخرى عصرية، وكذا أكلات عالمية مشهورة.. ولا يفوتنا ذكر أصحاب العربات بائعي العصائر المختلفة.. يذكر أن جامع الفنا يتعرض لهندسة تفرض على من كل يسترزق فيه، حيث تصطف المطاعم المتنقلة في جهة مخصصة لها، بينما عربات بائعي العصائر كذلك لها مكانها المخصص، وأصحاب العروض الترفيهية أو الخدمات العامة يفرض عليهم قانون وهندسة، حتى لا تظن أيها النابغة أني أحدثك عن مرتع عشوائي؛ بل إنك تقرأ عن تراث عالمي يزوره ملايين السياح سنويا، ويحظى باهتمام خاص من طرف الوزارة المكلفة من أجل الحفاظ على هذا الموروث الثقافي.
غليز، أرقى أحياء مراكش، بعد العصر، تسمع فيه حوافر الخيول وهي تجر العربات التي يركب عليها الزبائن الذين قرروا الإستغناء عن المحرك، في جولة خاصة في الهواء الطلق، في منظر يوشي بأننا في القرن الثامن عشر.. تلك الخيول بعرباتها الأنيقة ذات العجلات العملاقة، تطوف حول مراكش، وأبرز المقاصد تستولي عليها ساحة جمع الفنا، وهناك تصطف العربات المجرورة من الخيول.. بعد أذان المغرب تبلغ الساحة دروتها وتكتظ بالزوار حتى انتصاف الليل تقريبا، ما عدا أمسيات رمضان حيث تتواصل الفرجة والخدمات حتى وقت السحور.. بعد هدوء مزامير وطبول جامع الفنا، وتعود الأفاعي والقردة إلى أسرها، ورحيل الزوار واختفاء المطاعم المتنقلة والعربات؛ يسقط صمت رهيب على سرح عملاق فارغ، ثم يأتي دور عمال النظافة بخراطيم المياه، لكي يتم تنظيف الساحة وتهيئتها لليوم الموالي، وهكذا تستمر الحياة في جامع الفنا منذ أزيد من ألف عام.
أصل التسمية
اختلف المؤرخين في أصل تسمية "جامع الفنا" منهم من يعتقد أن "الفنا" تحريف بسيط لكلمة "الفناء" بفتح الفاء، أي "النهاية" وهذا يقصد به أن الساحة في عهد المرابطين، كانت حقا مسرحا لتنفيذ الإعدام، وكذا للإستعراض الجيوش قبل انطلاقها نحو المعارك، وأشهرها "معركة زلاقة" تلك التي قادها يوسف بن تشافين وانتصر فيها على جيوش "ﺃﻟﻔﻮﻧﺴﻮ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ" ﻣﻠﻚ ﻗﺸﺘﺎﻟﺔ في عام 1086م. البعض الآخر يربط كلمة "الفنا" بـ " ﺍﻟﻔِﻨﺎﺀ" أي أن الساحة وجدت على أنقاض فناء المسجد الأعظم الذي شيدوه السعديون.
جامع الفنا تراث عالمي.. و مجنون مراكش ﺧﻮﺍﻥ ﻏﻮﻳﺘﻴﺴﻮﻟﻮ
في عام 2001 تم ادراج ساحة جامع الفنا في منظمة اليونسكو لتراث العالمي للإنسانية، ونيل هذه المكانة المرموقة لم تأت بسهولة؛ لأن منظمة اليونسكو لم يسبق لها أن اعترفت بمكان مماثل حول العالم كونه تراث عالمي ! كيف ذلك والعالم يكتظ بساحات مماثلة لجامع الفنا ؟ في الحقيقة إن في المغرب أماكن عدة تندرج في قائمة التراث العالمي ونالت هذا الشرف بسهولة، أبرزها، مدينة فاس العتيقة وتطوان، قصر بن حدو، وليلي، وغيرهم كثير.. لكن انتزاع الاعتراف من اليونسكو بساحة جامع الفنا جاء عسيرا، والسبب كما أسلفنا؛ هنا ناضلت كثيرا وزارة الثقافة بالمغرب حتى تنال جامع الفنا اعتراف اليونسكو.. وهنا كان لا مرد لنا من استحضار أحد من كان لهم الفضل كذلك في أن ترتدي جامع الفنا ثوب العالمية؛ إنه الكاتب والصحفي والمفكر الإسباني ﺧﻮﺍﻥ ﻏﻮﻳﺘﻴﺴﻮﻟﻮ، الذي قاد حمالات دولية لأجل وضع جامع الفنا في قائمة التراث العالمي، حتى تأتى ذلك أخيرا عام 2001 م. يكرر الكاتب ﺧﻮﺍﻥ ﻏﻮﻳﺘﻴﺴﻮﻟﻮ قول "إن جامع الفنا لا نظير له في العالم".. لقد شغفته جامع الفنا حبا، ثم قرر الإستقرار على مقربة منها، وتحديدا في حي القنارية.. لقبوه بمجنون مراكش لإرتباطه الكبير بها أكثر من مدينته ميلاده برشلونة، حتى أنه تعلم الدارجة المغربية.. ظل غويتيسولو يلازم مراكش كظلها حتى وفته المنية في المدينة الحمراء في 4 يونيو 2017 وهو بعمر 81 عاما.
(كلمة)
كيف بالله استطاعت ساحة جامع الفنا أن تستمر كما بدأت قبل أزيد من ألف سنة رغم أنف كل تقلبات الأزمان؟ لا أقصد استمرار المكان، أبدا لا.. بل استمرار المكان والزمان والناس، ربما إذا جاز التعبير : بقاء الزمكاناس لألف عام. سؤال يستحق التأمل والتفكير.. ما أعرفه أن الساحة إرث ثقافي مغربي وجب الحفاظ عليه، والتصدي لأي خطر اندثار قد يهدد بقاء هذه الأسطورة الحية.
وما تزال جامع الفنا، كأنها تعيش أزمنة سحيقة، وما زال روادها يأكلون فيها كسرة الخبز كما لو كنا اليوم في عصر المرابطين في زمن وعز الأندلس.. أقصد حسرة الأندلس.
اقرأ كذلك :
- العيساوي .. سلطان الأفعى
- امي نفري .. بين الجمال والمعتقد
#محمد
تعليقات
إرسال تعليق