بلاغ إلى الشفاه



أمس كانت هناك مريم ، الإسم الشفاف الذي صنعت منه أشرعتي ، فإذا بها تتمزق في أول عاصفة تبث على مركبي . كانت تقول : إن فخامة إسمي تكفي . حتى رحلت مريم وتمثالها من معبدي ، ثم غدوت مريضا  محتضرا تجره الموت بيقين ، فترجلت من على صهوة ليل العاشقين ، ثم علمت أن دنياي  لا تحب أن تراني من الأسفل ، فصارت كل نساء العالم تكتسي ثوب مريم .

***

غربت شمس اليوم، وأرخى الليل صمته ولف الدنيا سوادا ، فتوهجت مصابيح الشارع ، في الأثناء رجل  باسق يخطو واثقا بين البنايات في خشوع، ولا يلتفت برأسه، كأنه وحيدا في هذا العالم ، وكل ما يدور حوله إنما أشباح و ومضات من غابر الأيام ، إنه سعيد الذي اقترب من خط الأربعون ربيعا، ومازال على ذمة نفسه، لا زوجة ولا أطفال ولا خطيبة ولا حتى عشيقة، إنه يركن إلى أحوال حاله في هذا العمر الشبه بعيد من الغراميات وغزل العيون ، كأنه إرتوى وكفى ، وقرر اكمال المشوار وحيدا سعيدا بوحدانيته ، يعرف في الحي أنه دمث الأخلاق ، يكتفي بإلقاء السلام على من يصادفه في سبيله ذاهبا أو عائدا من عمله ، إلا من بين المرات يكسر القاعدة وإذا به يدندن أغنية بصوته العميق الأبح ، كأنه يغازل الماضي من فتوحات العشق ، لم لا وهو مازال يحتفظ برشاقة و بملامح مليحة توشيان على أنه ساحر نساء متقاعد . وهكذا دواليك دأبا سعيد في رتابة وسلسلة من الأيام المتشابهة ، يعود في المساء إلى شقته التي لا تمت بقرابة ﻟـ شقق العزاب ، إنها مرتبة بعناية فائقة، تنم على استقرار الخاطر وحب الحياة .  في الصباح يغادر صوب عمله في هدوء وثقة كأنه انسان ألي لا مشاعر تبث في جسده ، نال قدرا كبيرا من الاحترام من لدن جيرانه ، إنه الجار المثالي الذي لا يزعج احدا ، حتى البقال استنفد كل السبل لكشف الستار على هذه الشخصية الفريدة في الحي ، فلا شيء في لا شيء ؛ سعيد لنفسه وكفى.

ذات ليلة ليلاء، غاب النوم عن جفون سعيد ولم يقابل الدعوة هذه المرة ، فحضر الأرق بدلا من النعاس . في عتمة الغرفة ، يؤمل سعيد مشاهد  تظهر وتتلاشى في العدم ، مشاهد غدت في مشاعره كثور هيجته رقعة حمراء.. وبلغ به الأرق مبلغه ؛ فلبس الخيال الأجنحة الزرقاء ليسبح في الفضاء ، وكأن الماضي عاد لينفخ الروح في مقبرة سعيد المهجورة.. فقذف الرجل  بالغطاء بعيدا واستنجد بالنور ، ثم لاذ جالسا في حافة السرير، يحملق في أرضية الغرفة وعيناه لا تكاد ترمشان . توجه إلى المطبخ فعاد منه بكأس ماء بارد ، شربه بدفعة واحدة كأن يطفي لهبا يفتك بأحشاءه ، ثم عاد  يركن على حافة السرير ينظر بتأمل إلى كل زاوية في غرفته ، أتراه بماذا يفكر؟ كأن به يستعيد ذكرى جميلة دونها المستحيل في كتابه البغيض ، أو به ينتظر الآتي الذي أبى أن يأتي ، فطال الليل وتمدد وبدا كأنه الأبد ، فما كان من سعيد سوى أن خرج لشرفته ليتأمل أضواء المدينة وهي تتلألأ في الربوع، فأشعل سجارة ولم يكترث لإحتراقها بينما يرمي بأبصاره بعيدا ، ثم أشعل سجارة أخرى كانت أيضا من نصيب الخواء.. ليعود بهدوء إلى غرفته ومكانه مازال على حافة السرير . إنها ليلة شيباء غمرتها مشاعر حزن الفقيد أو يا ترى فرح الزفة، فأيهما يجر جحافله ليغزو مملكة سعيد . 

***

"كنت أعتقد أن سعيد الذي كان أمس وري هناك وصار طي الماضي ، فما هو عائد إلى الأبد .. وها أنا ذا أفند اعتقاداتي ..  أمس كانت هناك مريم ، الإسم الشفاف الذي صنعت منه أشرعتي ، فإذا بها تتمزق في أول عاصفة تبث على مركبي . كانت تقول : إن فخامة إسمي تكفي . حتى رحلت مريم وتمثالها من معبدي ، ثم غدوت مريضا  محتضرا تجره الموت بيقين ، فترجلت قسرا من على صهوة ليل العاشقين ، ثم علمت أن دنياي  لا تحب أن تراني من الأسفل ، فصارت كل نساء العالم تكتسي ثوب مريم . فخامة الإسم سفك بدمائي يا أقوام العشق ؛ حتى صرت أبحث بعسر عن مدفني ، لأقيم طقوس الرحيل لوحدي، وأباكي الفاقد قلبي ياعذابي . ميت ها هنا يمشي ، فأين سبيل المدافن  يا قتلة العشق؟"

***

سعيد تلقى مكالمة من أحد أصدقائه يخبره أن حبيبته المتزوجة بغيره قد تطلقت للمرة الثالثة . إنها مريم ، حلم سعيد الغابر الذي كاد ينته بالجنون ، حب عنيف جمع بين قلبين فغدر  أحدهما بآخر  . مريم ضحت بالحب المفلس، بعدما أجادت عليه بالأوهام  ، فلا جاه ولا مال في مملكة  سعيد ، سوى عشق وأحلام ونجوم، وقمر تشكل بدرا إلى الأبد ، فتخلت فخامة الإسم عن مملكته كما يتخلى الجندي الجبان الرعديد على أرض بلده حذر الموت  . تعاقبت السنين وتجشم سعيد المضي في سبيل النسيان، حتى اقتنع أخيرا متأخرا أن مريم غابت في أحضان غريبة ، فما عاد سوى ذكراها من عبق أو وخم الأطلال . ثم أسدل ستائر النسيان على مريم وأيامها ليطرق باب عهد جديد ، لقد هدم الأركان في مملكته وانقلب على حكمه ، وشكل مجلس الثورة في مشاعره ، ثم نظف ما بقي من اللون القاني على جدران البلاط ، فتلاشت الغيوم السوداء الخالية من المطر ، ثم سطعت مكانها شمس الغد باسمة معلنة أيام فاترة على الأبواب . وهكذا منى سعيد بحياة اختار فيها الوحدة السعيدة والمؤنسة الخالية من الأوحاش ، فوضع مساحة بينه وبين كل البشر ، لا زائد عن إلقاء السلام وسؤال عن الأحوال ثم ينصرف إلى حاله سعيدا . يعيش كل يوم على حدى ، لا يشاركه في شقته سوى قطة بيضاء أطلاق عليها "شاشا" . تلك شاشا أميرة لو وزن معيشتها مع أقرانها الهررة ..  حتى أعادت المكالمة جمرات الماضي متوهجة  . إنه وخز الحب الذي لا يموت سوى في قلوب الذين لم يذقوا الحب يوما .

***

" في أحيان ألقى نفسي مازلت أحبك حبا لا أجد له متسعا بين الأرض والسماء ، رغم كل الغياب وسيفك البتار ، وأحيان أخرى أرى ماضيك مدعاة للأضحوكات وكسرات السخرية من بطش الشباب ، وفي كل الأحيان فإني قد آليت على نفسي العزة والموت واقفا ، أبدا يا فخامة الإسم لن ارقص مذبوحا بك سببا أو بـ سواك "

***

ومازال ليل سعيد طويل . فقد طرق الماضي ليله وسرق خلوته ، بين الحنين والندم يتقلب مزاج سعيد ، بينما الساعة تركض لمعانقة الفجر ، حتى قرر كتابة رسالة أخيرة لعشيقة زمانه .

***

"أنا ذاك الذي كان كل غاية مناه ، عش بسيط يجمع بيننا . أنا ذاك الذي ما طال به الكلل وهو يبث لك الهوى . فماذا أبتغي من رسالتي هذه ؟ ليس البحث عن خيط العودة ، ولا سلاما على أجمل عيون رمقتني يوما . هل تدرين يا فخامة الإسم أن زمنك معي غدا مثل كتاب أغبر منفي أعلى الرفوف، لا آمل أن يقرأ من جديد . لا ، بل هو كتاب استسقى منه الجهلة جهلهم ، فليس يغري النوابغ بما خط فيه . لا يغرنك كثرة الغزل والباحثين عن الحظوة ، فلا يجتمع على اللحم النتن سوى الدباب ؛  إن الخاتم مكانه اصبع واحد ، فإذا تعاقب على باقي الأصابع غدا معدنه رخيص.. ها أنت جربت كل الأحضان وفاتك حضن الحب حيث غمدك يا فخامة الإسم لو كان في عقلك مس من الصواب "

***

وقبل أن يؤذن المؤذن داعيا المؤمنين لصلاة الفجر ، أنهى سعيد رسالته إلى عشيقته السابقة مريم، ولم يبقى له سوى العبارة الأخيرة التي سيضع أسفله الإمضاء ، ثم انصرف إلى تفكير عميق ليصطاد تلك  العبارة الأنسب ليختم بها  حكايته مع مريم . أي عبارة تستحق أن تأخذ ثأر قلبه وتغدوا خالدة يراها في كل المخطوطات . فقد شرط على قلمه ؛ أن لا يذكر اسمها طول الرسالة إشارة منه أن اسمها ما عاد شفافا . فكر أن لها شفتين طردت النوم من جفونه في أيام الخوالي ؛ ثم أن مريم تلك تلبث تكرر على مسامعه أن : فخامة إسمي تكفي . وكذلك وصل صديقنا إلى العبارة المنشودة ليختم بها رسالته قبل أن يعود إلى عالمه وقطته شاشا .

***

" وقبل أن أضع قلمي ومعه قلبي ، أعلمك : أن فخامة اسمك غدا في معبدي شيطان .

بلاغ إلى الشفاه.

إمضاء
سعادة سعيد السعيد ".



Fin



اقتباس :
" إن الخاتم مكانه أصبع واحد ، فإذا تعاقب على باقي الأصابع غدا معدنه رخيص"





بنصالح 

تعليقات

  1. رااائعة.. بليغة وجميلة.. أعجبتني كثيرا..
    مريم إذن ترى أنه يكفيها فخامة اسمها، يالها من مغرورة.. لكن سعيد قصفها قصفا ����.. تستحق ذلك..
    وكالعادة أفضل الإقتباسات والنصوص المرافقة أكثر ههه

    تحياتي لك أخي ننتظر جديدك:)

    ردحذف
  2. ياسين الرامي24 يناير 2019 في 7:59 م

    ما هذه الشاعرية ؟؟ شخصيا أحب هذا النوع من القصص البليغة ؟ لكن اسمح لي يا أخي محمد أليس في القصة المس بمقدسات المسيح لأن مريم تحولت إلى الشيطان ؟؟ ونحن المسلمين لن يرضينا مثلا أن يقول مسيحي أن محمد تحول إلى الشيطان لأن وصفت مريم باللحم النتن الذي يطوف عليه الدباب !! وأيضا الخاتم الذي يتعاقب على الأصابع !! قد لن يكون قصدك الاساءة طبعا لكن المسحيين لن يرضيهم هذا الوصف والجلد وهذه المدونة موقع على النت يزوره المسلم كما المسيحي

    ردحذف
  3. التعليق الأول ..
    أهلا أختي العزيزة .. سعيد أن القصة نالت رضاك وكذلك النصوص المرافقة ، نعم انه الغرورالجشع .. إن شاء الله يعجبك القادم .. شكرا على المرور ^^

    ياسين الرامي

    أهلا بك أخي وصديقي الجديد .. لقد ارسلت لك البريد لا أعرف إن وصل إليك أو لا ؟ المهم : أحترم رأيك وأقدره ، نعم أنا كاتب لا يجيد الكتابة حول عصير العصافير ^^ ولا أحب خنق الأقلام وعندي قناعات قد يراها البعض متمردة أو الخروج عن القاعدة .. أما موضوع القصة فثق بما سأقول : أنا لم أفكر نهائيا بمريم العذراء ولم أقصدها لا من قريب ولا من بعيد ، فخامة الإسم لا يعني بضرورة أنه ينتمي للمقدسات ثم إن اسم محمد لا يحمله فقط الشرفاء فقد يحمله حتى الخونة وتجار بالدين ...إلخ .. إنما أتفق معك أن الكثيرين قد يعتقدون أني تجاوزت الحدود لكن الحقيقة هي العكس تماما .. في كل الأحوال أنا شاكر لك رأيك ومشاركتك ورأيك عندي مرحب به وكلامك مسموع ومرحبا بك في مدونتي المتواضعة.. وأعود وأقول : أن لا قصد لي في هذه القصة بالإساءة لديانة المسيح ، أنا مسلم ولا أؤمن بغير الإسلام لكني لن أسمح لنفسي أن أسيء لأحد وحتى عباد المعز ! أو أدنى من ذلك .. بارك الله فيك على اهتمامك أخي ياسين
    وفقني وإياك الله لمرضاته

    ردحذف
  4. ياسين الرامي24 يناير 2019 في 8:40 م

    لقد وصلت رسالتك أخي محمد وفيما جاء في تعقيبك بعد تعليقي انا أتفهمه جيدا ولم أعتقد أنك تقصد الإساءة عموما أخي أنا أيضا أحترم رأيك وقناعاتك هذا هو الكاتب الحقيقي الذي يتبنى منهج واضح ويسير عليه
    وفقنا الله جميعا أخي الكريم

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-