الظلمات الباهرة


أنا والليل نتحاﺏُ ، إني أرى في عتمة  الليل ما لا ﻳُﺮﻯ ، جمال قدسي تغرق في سحره الروح ، فما تشبع منه ولا ترتوي..  شطح الوهم ﻭﺗﻬﻠّﻠﺖ الأسارير في جوفه الحالك الباهر لأصحابه .. ياليت الليل يغدوا خالدا هنا  ، حتى لا يشقه ضوء فجر ولا يجله قدوم النهار . إنما على الليل أن يكف بأن يكون الليل ، فلا رجاء لي عند النهار..


أنين السرير

أجر نفسي جرا في الشارع لأصل به إلى منزلي ، لكن في الحقيقة ليس بالمنزل ، إنما - غرفة في السطح لا أكثر - فأنا فوقهم جميعا ، لكن في الحقيقة هم فوقي أجمعين.. قذفت بنفسي ليعانقني الفراش ، ﻓﺄﻥّ السرير ، صرفت نفسي إلى الجهة الأخرى وإذا به السرير يئن ثانية ، إنه يعاتبني ! .. - يا ذاك المتعوس عليك بسرير جديد ، فأنا عجوز لم أعد قادرا على حملك سابحا في آناء الليل ! إليك عن ظهري يا هذا
في تلك اللحظة التي أنظر فيها إلى العتمة أرى كل شيء ، نفسي يظهر في مختلف الحلل ، أرى الماضي جاثم هناك يذكرني بالخوالي ، أرى المستقبل بجنبه تارة ييتسم وأخرى يشهر بمخالبه . الإنسان قد يكون عدوه الأول هو نفسه ، بل تفكيره . من يخلصني من هذا الرأس المحموم ؟   تذكرت زهرة وقرب زواجي بها ، إبتسمت ، ﻓﺄﻥّ السرير ، هذه المرة يسخر مني ! .. - لم أستطع أن أحملك لوحدك لتأتيني بزهرتك !
تذكرت كلام أمي..  الزواج الحقيقي ليس جلبابا  تلبسه وعلى حين تتجرد منه ، إنه أبدي ..  كلمة " أبدي " تخنقني ، إذن لست مأهلا لزواج طالما أنا متردد.. لكن ، كيف سأقنع زهرة ، فهي تتقلب على الجمر بانتظار هذا اليوم ، كيف سأزف لها الخبر ومفاده.. - يا زهرتي إن بعد كل هذه السنين والوعود والأحلام الوردية لن أتزوج بك حاليا فأنا لست مستعدا بعد.. تبدوا عبارة سهلة على اللسان ، لكنها ثقيلة في وجه زهرة . حتى النوم غاب في ظل هذا السرحان.. أنرت المصباح ، هدأت أمواج الأفكار ، أطفأت المصباح ، ﻓﺄﻥّ السرير..  - يا هذا الخشب ، أوليس يكفي من العويل !  فلا سرير غيرك سيثقل بجسدي ، فأنا مفلس وكفى .


**
                 
في المطعم

تتأمل زهرة وجهي والعشق يرقص في عيونها . أتساءل في نفسي.. - ماذا تحب فيّ زهرة ؟ فلو كان عن نفسي لما أحببت نفسي ! اللعنة على الفلسفة
- موعد الزفاف على الأبواب يا حبيبي 
- ماذا يا عيون حبيبي ؟
وكأني لم أسمع ، كررت الجملة بإبتسامة أكبر ، أجبتها بإسناني الشاهرة في وجهها كأنها إبتسامة مذبوح..
حضر نادل المطعم ليذكرني ﺑــ جيبي !
- أطلبي يا حبيبتي ما تشائين
وفي نفسي أتوسل إليها  أن لا تطلب شيئا
- آتني بعصير الكوكتيل مع - البيتزا الصغيرة بالجبن - ولا تنسى السلطة..
- وأنت يا سيدي
قلت له في خيالي.. - كأس ماء وقرص دواء لرأسي !
- شاي

دخلت ليلى إلى المطعم وجلست وحيدة قبالتي ، إنها حبيبتي السابقة في أيام الجامعة ، لكنها تخلت عني أمام طالب آخر  كان يملك سيارة !  ومن ثم كرهت نساء العالم قبل أن يطالها النسيان .. ترمقني بنظرات تقول أنا هنا . زهرة أمامي لا تكف من التخطيط لما بعد الزواج ، أكتفي - ﺑــ نعم - ردا عليها ولم أكون أدري أنني أوقع عقد إعدامي !
ليلى تنظر إلي وفي ثغرها ابتسامة لادغة ، شعرت بلذة الإنتصار عليها، وعيوني ترد على ثغرها ذاك .. - أين حبيبك المتبهرج يا حسناء جامعتي ؟
رن هاتف زهرة وإذا بأمها تنتظرها ، ودعتني وغادرت المطعم وتركتني وحيدا أسترق النظارات إلى ليلى

**

يا ليلى أذاك أنت ؟ أم عيني بها وهم ، إذا كان هذا حق ، فأين قمر أسمارك ؟ أين غرورك الجاثم في العوالي ؟ أين في عينيك الذي كان سيف رمق ؟ .. ما هذا التجلي العارض أمامي ؟ لا تقل لي  أن - الثلاثين - فتحت لك أبواب قصورها الموحيشة ، ومرايا الدنيا أصبحت تعاتب تقاسيم وجهك ، وخمر كأسك لم يعد يسكر به أحدا .. آه ، كم أنا مدين لك  يا موكب الزمان .. رد الزمان قاسيا..
- حتى الصخر الصلد إنشق بل و تفتت في مروري مواكبي ، حتى أدين لك في متبهرجة متصنعة !.

**

أفكر ماذا أفعل مع ليلى ، هل أخرج دون اعتبارها ، أو أتوجه نحوها لمعرفة ما تحت رأسها ، إنشبكت الآراء في ذهني ، لقد تخلت عني سابقا ، بعدما أمطرتني بأراجيف النساء ، كيف أعود للحديث معها إذن ؟.. لكن لما لا أعود إلى ساحتها ، فمازال حساب الماضي عالق بيننا..
- هل هذه ليلى ؟
- نعم . و أنت مراد ؟
- وهو كذلك . لقد تغيرت كثيرا يا ليلى ؟ 
- وأنت أيضا . أين ذهبت زوجتك ؟
- عن أي زوجة تقصدين ؟!
- التي كانت معك ؟
- إنها أختي ! و....

**


 ذاك اللعين

رائحة الليل تفوح مني هذا الصباح بعدما كاد الليل عندي أن يفقد النهار ، إلا من ضياء باهت أذركه  وكأن به يعاتبني من بعيد حتى يتلشى مغادرا ليرمي المساء بجلبابه الثقيل ، و تبدأ دنياي أنا ، دنيا الروح وأسمار الحياة..  لكن هذا الصباح  كسرت هذه السلسلة لأجدد العهد بالنهار  ..  جالسا في المقهى و صديقي عمر لا يكف من الثرثرة وأنا أرد عليه بصمت ونفط الأدخنة .. فقط أفكر في كلام ليلى المثير ، وانتظارات زهرة الموعودة ، حتى عادت بي ذكريات مدرج الجامعة حينما كانت ليلى - هي ليلى ! - .. آه من حنين آه ،  عد يازمان.. لا تعود يازمان ! فربما أغير رأيي وأندم ، وهذا حال البشر الميؤوس منهم ، يحبون ماضيهم وإن كان أسوء من حاضرهم .. زهرة تظهر في خيالي وتختفي لتنهي حفلتي في كل مرة ترقص ليلى عارية في ذهني ، إنها تراني زوجا ، نعم زوجا..  - هل إختفى كل الرجال في الأرض يا زهرة ؟!   لا تقولي هذا  حبا ! .. فكرت أن أكبر مصائب الرجال هم النساء ، ولم يفتني حقي ، لا بل جمعت حقوق غيري .. عمر أمامي مازال  يفتح فمه ويغلقه كأنه تلفاز أبكم ، بينما القطط تتماوأ وتتخالب في ذهني . لقد تشوهت خيوط أفكاري ولم يعد فيها ما يحبك ، إني أحتاج إلى غسيل ذهن إذا كان متوفر  .. إستدرت نحوى عمر المسكين :
- هل تتحدث معي !
- أين تسرح بكلابك يا هذا اللعين ؟
- هل تذكر ليلى ؟
- ماذا بها ؟
- لقد عادت
- و زهرة !
- دع عني زهرة الآن
- ماذا ستفعل بي ليلى ؟
- لا أعرف
- هل تعرف شيئا يا صديقي
- ماذا ؟
- ستبقى ملعون طول حياتك .
ورحل !
إنه على حق ، بل كل الحق ، فأنا ملعون من قبيلة أشد الملاعين ،  الذين يقدسون النساء في الليل ويلعنهن في الصباح !.

**



الليليون والنهاريون

يبدو وقت الانتظار طويل ومتعب ، هذا تأكدت منه وأنا أنتظر ليلى في الحانة.. نفسها حناتي التي تتعاقب على أمسياتي ، إلا أن هذه الليلة  هي ليلتي ، ويكفي أن ليلى ستمتزج مع الليل ،بل ستكون هي الليل، وأنا طبعا لن أكون قمرها ، ولا قناديلها  .. زهرة تتفتح في ذهني ، أقطف اوراقها . أذبلها ، لأكون أنا خريفها .
أنا والليل  نتحاﺏُ ، إني أرى في عتمة  الليل ما لا ﻳُﺮﻯ ، جمال قدسي تغرق في سحره الروح ، فما تشبع منه ولا ترتوي..  شطح الوهم ﻭﺗﻬﻠّﻠﺖ الأسارير في جوفه الحالك الباهر لأصحابه .. يالت الليل يغدوا خالدا هنا ، حتى لا يشقه ضوء فجر ولا يجله قدوم النهار . إنما على الليل أن يكف بأن يكون الليل ، فلا رجاء لي عند النهار .

ليلى لم تأتي بعد.. تأخرها ينادي به ظهور قعر كؤوسي..  فتحت هاتفي لإتصال بها ، و فيه وجدت زهرة قد أرسلت إلي صور مختلفة - ﻟـ  قفاطين الزفاف - وتطلب رأيي فيها ؟ لقد طفح الكيل .. أنا لا أريد الزواج أيها العالم ، أخبروها كذلك ووفوا لها .
لقد قالو لي وأنا صغير أن زوجتك المستقبلية هي - زهرة بنت عمك - كنت متحمسا سابقا لزواج بها ، الآن لم أعد.. لكن ، من غيرني يا ترى ؟
كلام ليلى في اللقاء المطعم مازال يثيروني ، قالت بكل تمرد النساء وإثارتهن : أنها مازالت تحبني كما في أيام الجامعة ، ولم تكف عن ذلك يوما ، وما حدث بيننا سابقا سوء فهم لا أكثر
النساء عصيات عن الفهم . تعلمت الكثير وفاتني علم النساء ، اليوم  تموت معك هذه ، وغدا قد لا تعرفك ، غريب أمرهن حقا.
أخيرا وصلت ليلى . أطل علي بهاء ليلى لينفض عني  سكرات سكري .. جلست وآسفت على تأخرها ، أجبتها بلابأس طالما سينتهي الإنتظار هكذا ، فالعمر فداءا لهذا الإنتظار إذا كان المقابل في الأخير بزوغ قمرك يا ليلتي.. ما أجمل النساء فوق الثلاثين، حينما تكتمل الأنثونة وتتنضج الثمار ، لكن من هذا الذي يقطفها.. إنها المرأة الثلاثين مثل لبوءة تفترش الحشائش ، جميلة هي ومخيفة .
ليلى تحكي عن الجامعة ، عن الحب ، الخيانة ،  تعترف من جديد أنها تحبني ! تحبني.. أكتفي  بالإستماع لها . إني في حضورها  كطفل صغير في حضن جدته ، أقول كلمة ، تقرأ علي كتابا .. في داخلي أسخر من نفسي والإنتقام الذي جهزته لي ليلي ، لكنها دمرتني بالإفصاح عن مشاعرها.
هل هي صادقة يا كأس خمري ؟ أخبرني إن كان كلام هذه القابعة أمام عيني ،حق أم  حجج واهية .

**

الكلاب تنبح في الظلام والضياء ، نباح صخب يصم الأذان ،  زغاريد قادمة من كل مكان.. زهرة جالسة معي تبتسم لي  وأنا ألبس جلبابا أبيض غريب ،  الأهازيج تصدح في المكان.. ليلى تصرخ وهي ملطخة بالدماء ، تنادي بإسمي ، لا يسمعوها غيري .. زهرة لم تعد باسمة ، عيونها ترعبني ، ثم إنقضت فجأة على رقبتي لتخنقني بيديها حتى سار ينبوع الدم من أنفي وشوه ناصعة جلبابي.. جسمي يهتز ، أصرخ وكأني لا أصرخ.. نور ساطع يقسو على بصري . كف الكلاب من النباح وتلاشى الضوضاء ،  إختفت زهرة.. النور من جديد ، جن جنون قلبي وهو  يدق حتى كاد ينفلت من صدري.. استيقظت !  أدركته أني كنت أحلم.. ياله من حلم يثير الرعشات ، دماء وزفاف وكلاب ، هكذا كان ختام ليلتي .. لكن  أين أنا من كل هذا ؟.. أخيرا عاد رأسي للعمل ، وجدت الساعة تركض لمعانقة العصر ، وتذكرت ليلى ؟ لقد إختفت بعدما قضت ليلة الأمس معي ، فجأة  ظهرت لي رسالة متروكة جنب الباب  ، إن ليلى تركتها لي ورحلت ، ثم قرأت محتواها.. فغر فمي ،جحظت عيناي ! مزقت الرسالة.. لعنت ليلى ، شتمت نفسي والعالم ، وخرجت إلى النهار .


**


السقوط

هأنذا يا النهار كما ودعتني ، أميل حيث تميل الرياح ، أهوج سائر هنا هناك أبحث عن المقهى المعتاد لأرمي في معدتي السكيرة ما يمدغ ، فقد ملت المسكينة من الشراب ،  على آمل أن أجد هناك صديقي عمر ، فإني  أحتاج على من أشكي ، بل على من أبكي .
لحسن الحظ صديقي عمر جاثم هناك كتمثال جالس لا يزعزع رأسه سوى مرور الحسناوات..
- ما هذه الحالة يا مراد ؟ أولم تنام يوم أمس ؟
- كنت مع الملعونة ليلى !
- وماذا حدث ؟
- سأخبرك لاحقا

أشعلت السجارة لأبتلع الدخان وأتقيئه بهدوء ، ثم أحملق فيه يتلشى في الهواء تاركا أريجه هائما حولي ، لأعيد الكرة والكرة حتى يتسنى لي أن أجمع مزبلة أفكاري الفائحة عفونة .
رسالة  ليلى تلك قصفت قواعدي إن كان لي قواعد ، إنما دفعتني في بركة ماء ليلة صقيع . 
- لم تخبرني ماذا حدث مع ليلى
- لقد كشفت أمري وعرفت أن زهرة ليست أختي ، بل خطيبتي
- وكيف عرفت ؟
- تصفحت هاتفي ، بينما أنا غير متوفر في هذه الحياة
- وأين المشكلة ؟
- لقد تركت لي رسالة تقول فيها أنها كشفت حقيقتي ﻟـ زهرة وبدلائل الموثوقة ، وأنا تأكدت من ذلك..  إنها اللعينة عادت بكبريائها الغابر وهي تعتقد أنني كنت أستغل مشاعرها
- أي دلائل تقصد !؟
- يالك من بليد.. هل تريد أن أصرخ في الشارع حتى تفهم.. فكر قليلا يا هذا الدلو فكر !
- لا أريد أن أفكر ، أخبرني بالتفاصيل وإلا فعليك بحدود الصمت
- لقد أرسلت إلى زهرة  صورا تجمعني بها ، وأيتها من صور ! يا عزيزي العزيز
- لكنك كنت تريد التخلص من زهرة 
- ليس هكذا ، هل نسيت أنها إبنة عمي
- إسمع يا هذا الكلب ، لقد تعبت منك ومن مشاكلك التي لا تنتهي ، فأنت سكير لا تصلح لأي شيء.. لا أعرف ماذا يعجب النساء فيك ؟!
- أوليس تدري ؟ لأنني وسيم عليك يا شمبانزي !
- وبعد
- أحتاج المساعدة
- حسنا يا كلب 
- ونعم الأخوة  !

زهرة لا تجيب من هاتفها ، لقد صارت من الماضي.. كنت أريد التخلص منها او تأخير الزفاف لوقت أطول ، لكن ليس هكذا.. و يا فضيحتي يا أنا.
الآن لم يبقى لي سوى ليلى ، وأنا مدين لها على مرتين ؛ الماضي والحاضر ، فبئس هذه اللعينة .

**


فاتني أن أكون ابنا صالحا

أخطط أنا وصديقي عمر لإسقاط ليلى ، لم يعد لي شغل غير العصف بها .. لكني لا أثق كثيرا في عمر ، فهو غبي ذو رأس كبير مقعر ، مثل صديق البطل في الرسوم المتحركة ، يحتاج دائما إلى من يكون خلفه في مثل  هذه المهمات ، ولذا أخشى أن يغرق في عيون ليلى وينسى مهامه ، وبذلك تنال منا ليلى أجمعين .
جعلت من عمر أميرا ، بل إني حولت مهرجا إلى عارض أزياء ، آتيت بسيارة فخمة وختمت التخطيط . لقد أصبح عمر جاهزا لمقابلة ليلى..

- إياك والخطأ ، فهي آخر فرصة لتصفية الحساب مع الملعونة
- لا تخف يا مراد ، اليوم ستعرف أن لك صديقا يعتمد عليه
- سنرى ذلك يا عزيزي
أتت ليلة التنفيذ ، لقد خططت لكل شيء ، الليلة سأقلع ضرس ليلى.. ذهب عمر لتنفيذ ما خططناه ، وأنا أنتظر مكالمته حتى أتكلف بالجزء الثاني والأهم ، لكنه لم يتصل ، بدأت أشك بفشله ، أعرف أني منحوس ، لكن ليس إلى هذه الدرجة أفشل في كل شيء..  عاد عمر في آخر الليل يجر نفسه مثل كلب أعرج !
- لا تقل أنك فشلت !
- أحم..  مم.كنت أريد.. في الحقيقة هو كذلك !
ثار بركاني وجن جنوني
- كيف فشلت يا هذا ؟! أولم نخطط لكل شيء
- ليس هذا.. إنما كان عند.. اقصد.. أن.
- أولم أقول لك سابقا  أن رأسك هذا المنفوخ لا يصلح لشيء غير وضعه على الوسادة !
- لا تخف يا مراد ، فسأنتقم لك من ليلى لاحقا
- بل أنا من سينتقم منك أولا ! هل تدري أن المال الذي صرفته في هذه المهمة يكفي لزواج ﺑــ زهرة وقضاء شهر العسل في ميانمار ! .
رحلت وتركته يهدي ، الغبي فشل كما عوائده.. لم أعد أريد أي شيء من العالم ، فقط دعوني أختلي بنفسي لأعرف من هذا الذي يسكنوني .. هل أنا هو أنا ، أم أنا لست أنا !

**
خرجت إلى الشارع الفارغ ولو من كلب ضال ، جلست في الحديقة كأني الوحيد في هذا العالم ، وكل البشر لائذون في قعر النعاس.. الصمت التام هدأ من روعي .  ﺭﻓﻌﺖ ﺭﺃﺳﻲ ، ﻇﻬﺮﺕ ﻟﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ، ﺇﻧﻬﺎ ﺻﺎﻓﻴﺔ ﺑﻘﻤﺮﻫﺎ ﺍﻟﺸﺒﻪ ﻣﻜﺘﻤﻞ ، ﻭﻗﻨﺎﺩﻳﻞ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻣﻨﺜﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺭﺟﺎﺋﻬﺎ ﺗﻠﻮح ﻟﻲ ﺑﻴﺪﻫﺎ ، والجو يحمل نفحات العليلة للفجر المتنفس ، ﺗﻐﻴﺮ ﺷﻌﻮﺭﻱ ﺍﻟﻤﺴﺘﻔﺰ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ متأمل .. تذكرت الماضي ، وجدت نفسي لم أكون هكذا ، إني جنيت على نفسي ما أنا عليه اﻵن ، ومن لطمه كفه فلا يحق  له البكاء..
مات أبي في خارج البلاد وأنا صغير ، كبرت مع أمي و إخواتي البنات ، تعلمت حتى أصبحت مكتظ بالشواهد ، و في الأخير وجدت نفسي وحيدا أقضي حياتي في الليل وطقوسه وأنام في النهار . خمر و مخدرات و عاهرات ، كل تلك الظلمات كانت عندي باهرة.
تذكرت زهرة ، آسفت عليها ، على ماضيها ، على فعلتي بها.. كنت أعرف أنها ستعرف حقيقتي يوما ، ولابدا لفجر الحق عليها بالبزوغ ليضع الحد  لهرطقاتي ، وستعرف أن ابن عمها بل خطيبها إنما الذي كان سيكون مشروع حياتها ، مجرد سكير أضاع السبيل.. تغيرت زهرة في عيني ، أدركت أنها كانت تحبني ، أنا أيضا أحبها ، لكن ذاك لم يكن أنا ! بل المدمن اللعين مراد..
الندم يغزوني ، يقهرني ، أفكر في إصلاح أخطائي.. جمع شظايا زهرة لعلها تعود كما كانت.. حتمت على نفسي اللقاء بها  من أجل محاولة أخيرة يائسة  ، أو الإعتذر لها لخيانة ثقتها ، أو على الأقل إلقاء نظرة أخيرة عليها .. طبعا لن أذهب إلى منزلها ، فلا وجه لي أدخل به إلى منزل عمي..
ترجلت من كرسي الحديقة متجها إلى سريري ، على آمل بزوغ فجر جديد .
في الغد إنتظرت طويلا قرب منزلها حتى ظهرت لي ، دفعت نفسي لمقابلتها .. صدمت لما رأتني ، لم تتوقع أن وقاحتي ستصل إلى هذا . إني أسير في جنازة من قتلت !

- أرجوك يا زهرة ، اسمعني فقط ومن ثم لك ما تريدين
- لا يا ابن عمي ، لن أسمع منك شيئا ، يكفي ما سمعت
- فرصة أخيرة يا حبيبتي وسأتغير
- اسمع يا ابن عمي ، كنت أعرف أنك سكير لا مسؤول ، ودائما أكشف أنك تكذب علي ،لكن كنت أقول لنفسي إنه سيتغير ، سيعود كما كان . هل تدري لماذا ؟  لأن الحب أعماني ، لكن أن تصل إلى تلك الدرجة فأنا آسف يا مراد فأنت لا تصلح لنفسك ، وكيف لغيرك
- إسمعيني فقط .. فقد إكتشفت أني أحبك حقا
ورحلت دون كلمة أخرى وهي لا تلتف إلى الوراء.. إياك يا زهرة والإلتفات ، فهذا هنا لا يستحق منك نظرة أخرى.
أصبحت شخصين في واحد ، أحدهم يقول :
لقد ضيعت ما لا يعرف له مقدار  ، بسبب الخمر والمخدرات وشعر العاهرات .
الآخر يقول :
إنك لا تستحق هذه العفة والحشمة من النساء ، مكانك بين الكؤوس والساقيات .
وقفت أنظر حتى ولت زهرة عن أنظاري ، حنيت برأسي وتيقنت أنه برحيل زهرة ، فاتني أن أكون ابنا صالحا .
 
**


غروب وشروق الحياة

أين أغدوا ؟ في أي سبيل هذا أختار .. الوشاح القاتم قد لف سمائي ولم يعد بصيص ضياء  ينصل منها. لقد سحق فيها النور ، وها هي قافلتي تسير هوجاء في تلال الصحراء ورهط الكلاب المسعورة  يتبعها ..
   فتحت عيني متأخرا ، أدركت عن غير وقت.. أما الآن ، فلا حل مما تبقى من الحلول  غير الهجرة والنسيان ، طي صفحات الماضي ودفنها في مدينتها ، إني سقطت في بئرا لا قعر ومازلت أسقط ، وللخروج منه يتوجب علي أن أحفر نفقا بأصابعي ، بأسناني . يحدوني الأمل العنيد بأن أبصر أمي ، ولو للثواني  خالدة متمادية . نظرة خاطفة أصونها وأحفظها في مآق عيني ، لكن.. أين أمي ؟
أعرف أين هي ، وفي نفس الوقت لا أعرف !
إنها تفترش التربة تحت الثرى في مكان ما في المقبرة ، كلما أتذكره هي الجهة التي دفنت فيها الحبيبة أمي في مرقد الأموات .
قررت زيارتها قبل أن أغادر المدينة إلى الأبد .. في باب المقبرة تصادفت مع زوجة عمي ، لا سلام ولا كلام  وكأني لا أعرفها أو كأنها  لا تعرفني
وصلت إلى  الزاوية التي تركت فيها أمي . لا أعرف أين قبرها بين هؤلاء القبور.. ظهر لي الشيخ المقرئ عن قرب وناديته :
- أين قبر الذي تريد القراءة عليه ؟
- فقط إقرأ القرآن يا شيخ.. إقرأ فقط     إقرأ !

بدأ الرجل في قراءة القرآن وأنا أرمي بنظر إلى مشهد هذه القيامة ، وفي لحظة أذركت أن بعض المقابر تبدو فخمة.. شواهد ورخام تتحدث عن مقام من يرقد فيها   . حتى عند الموتى توجد الفوارق ؟! و من السهل أن تعرف الذي كان  ميسورا وذا الذي كان فقيرا ! .. فكرت أن قبر أمي لا يحتاج إلى شاهد ولا مشهود ، يكفي أني أحسبها عند الله في الجنة .أمي في الجنة ، وأنا ؟ هنا في الجحيم .
رحل الشيخ وتركني وسط تجمهر  الأموات ، جالسا مع طيف أمي..  أتذكر عندما أدخل البيت وأنادي بإسمها لتجيبني لحظتها . إنه أمر بسيط أن تنادي أمك وتجيب  ، لكن تلك الإستجابة البسيطة تفوق كنوز الدنيا عندما لا تعود هنا ، دونها المستحيل إلى الأبد..
تذكرت يوم مماتها ، وحفناة التراب الساقطة على  قبرها تمطرها السماء  الآن أمام عيني ، و صوت المعاول والرفوش تدق في مسمعي ، كأني مازلت واقفا في يوم وداعها ، يوم فقدانها ، آه يوم استحالة رؤيتها ، يوم لا بعده ولا قبله. إنما دنياي أمي ، ماتت ، إنتهت الحياة ، ياليت الشمس لم تشرق بعدك يا أمي، ولا عاش أحد .

**
نسيت نفسي بين برودة المقابر ، جالسا خاشعا أناجي ذكرى أمي ، أشم أريج تربتها المجهولة ، أصنع إبتساماتها في خيالي ، أسمع صوتها المبحوح وكأن السماء به تنادي .. أجيبه صارخا في أعماقي :
- أين أنت يا أمي أين ؟  خذني إليك خذني.. إني نادم على نفسي التي ضاعت يا أمي.. فجأة سمعت نداءا بإسمي ؟ هذه المرة وكأن الصوت خلفي ، تجاهلت الأمر فأنا غاص في الأوهام . إنه وهم..
عاد المنادي..  لا ، ليس وهما !  إستدرت برأسي ، وإذا بي ألقى زهرة . 

fin


إقتباسات من القصة :

« المرأة الثلاثين مثل لبوءة تفترش الحشائش ، جميلة هي ومخيفة .

« قبر أمي لا يحتاج إلى شاهد ولا مشهود ، يكفي أني أحسبها عند الله في الجنة .

« حال البشر الميؤوس منهم ، يحبون ماضهم وإن كان أسوء من حاضرهم .

« أن ينادي الشخص أمه وتجيب ، قد يبدو أمرا بسيطا ، لكن تلك الإستجابة البسبطة تفوق كنوز الدنيا عندما لا تعود هنا ، دونها المستحيل إلى الأبد .

« من لطمه كفه فلا يحق له البكاء .

« إنما دنياي أمي ، ماتت إنتهت الحياة ، ياليت الشمس لم تشرق بعدك يا أمي ، ولا عاش أحد .




بنصالح

تعليقات

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بغلة القبور .. أسطورة الخيانة في حكايات الأمازيغ

الرجل القادم من دولة غير موجودة!

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-