زلزال الحوز : سبعة درجات ولحظات، تشقان جغرافيا المغرب العميق



كانت قرى الحوز تنطُ فرحًا وإشراقًا في وجوه الفلاحين. فجأة تغير كل شيء، وبدا الفضاء بفوضويته وجنون تنظيمه كأنها القيامة. الناس مذهولة والعيون مكلومة، بعد ليل فقد فيه الجبل صوابه، وفي آنائه تُسمع صرخات نساء وأطفال، كأنهم عالقون في أحلامٍ كابوسية، وشواهد مقبوضة بقرون الشياطين. لقد استحال الحال بقايا قرى، كشف عليها نور الصباح، وهي تفوح منها رائحة الموت.

1960.. 29 شباط، عند الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة ليلاً، زلزال بقوة 5,8 درجات، يهز مدينة أكادير هزًا. وإن كانت درجة سلم ريشتر متوسطة؛ إلا أن بؤرة الزلزال كانت جنوب المدينة وبعمق قريب، نتج عنها أكبر كارثة أصابت المغرب في القرن العشرين، فقد أودى الزلزال بخمسة عشرة ألف شهيد و25 ألف مصاب، وما يزيد عن 35 ألف بلا مأوى. لقد انهار ثلث أكادير وعانق الأرض، وما تبقى تهيأ للسقوط. 8 أيلول 2023, بعد مرور 63 عامًا وستة أشهر، و ثمانية أيام، عند نفس الساعة المشؤومة، الحادية عشرة ليلا وخمس دقائق، زلزال آخر يُراود المغرب، هذه المرة بعيدًا عن أوج التمدن، هناك عند المغرب العميق، مناطق قروية جبلية في إقليم الحوز وتارودانت، الذي مر عليها موكب الحداثة المغربية ولم يلتفت إليها، إلا أن الزلزال التفت هو، وبدرجة سبعة على مقياس ريشتر، وشعر به ثلث المغاربة في ثمانية مدن كبرى.


صبيحة التاسع أيلول، سيستيقظ المغاربة على فداحة مصابهم الجلل، عشرات القرى في إقليم الحوز مدمر تحت الأنقاض، ومعها مناطق محاذية في تارودانت وشيشاوة وأزيلال ومراكش، فانطلق عداد احصاء الضحايا والمصابين، الذي وصل إلى حدود يوم 16 أيلول، إلى قربة ثلاثة آلاف شهيد وأزيد من خمسة آلاف مصاب، ووجد آلاف الناس أنفسهم بلا مأوى.

سُميّ بزلزال الحوز، لأن بؤرته في إقليم الحوز، والضرر الأكبر ناله الإقليم، ثم يأتي ما جاوره، حيث اختفت قرى بأكملها، وأضحت أطلالاً. قرى أخرى دُمرت جزئيًا، وانهارت الصخور على الطرق وزادت من متاعب فرق الإنقاذ للوصول للقرى المنكوبة. وبعد الزلزال الأول، جاءت الهزات الارتدادية التي تجاوزت الألف هزة، غالبيتها غير محسوس.


تُشير بيانات الأقمار الاصطناعية، أن زلزال الحوز، رفع مستوى الأرض إلى حدود عشرين سنتيمترًا في بؤرة الزلزال، وأشارت البيانات كذلك أن الأرض تعرضت للتشوه انطلاقًا من مركز الزلزال، في مساحة خمسين كيلو متر ناحية الشرق والغرب، ومئة كيلو متر اتجاه الجنوب والشمال، وكذلك انخفض مستوى الأرض في أرجاء أخرى بنسبة سبعة سنتيمترات. هذه الحركة الأرضية نتج عنها انفجار مياه عذبة جوفية في عيون نضبت منذ سنين.

زلزال الحوز يُثير العجب ويدعو لتغيير المفاهيم

المعروف أن الزلزال تنشط في الشريط الحدودي ما بين الصفائح القارية، وهذا الشريط قريب من شمال المغرب، ما يُفسر تسجيل عشرات الهزات الأرضية سنويًا في نواحي مدينة الحسيمة، التي تقع على مقربة من الشريط. إلا أن إقليم الحوز الذي ضرب فيه زلزال مدمر وبدرجة كبيرة بلغت سبعة على مقياس ريشتر؛ يبتعد عن الصفائح القارية بأزيد من خمسمائة كيلو متر! ما يشكل حدثا نادرًا في رصد الزلازل بهذه القوة بعيدًا عن نقاط التقاء الصفائح القارية، ولم يجد لها العلماء بعد تفسيرًا منطقيًا. حتى زلزال أكادير 1960 الذي يبتعد بدوره عن الشريط الحدودي بين الصفائح القارية، كان بدرجة متوسطة الشدّة بلغت 5,8 على مقياس ريشتر. فحصل العجب في درجات زلزال الحوز!.

الكُتبية تصمد في وجه التاريخ ورجة الأرض

ولأن مدينة مراكش هي أقرب مدينة كبرى إلى بؤرة الزلزال؛ فقد وصل تأثير زلزال الحوز إلى المدينة السياحية الشهيرة، وهز معلمها التاريخي صومعة الكُتبية، وعلى مرأى الناس وعدسات الكاميرات، تأرجحت تسعة قرون من تاريخ المغرب ممثلةً في الكُتبية، وحولها صراخ الناس يخشون على معلمة ظلت شامخة طيلة 876 سنة، وبدأ هول التفكير في مراكش دون الكُتبية. الكُتبية الآن تتمايل يمينًا ويسارًا، في صراع بين سبعة دراجات من جهة، وسبعة رجال* من جهة مقابلة، وانتهت المعركة بعد عشرين ثانية بخسارة الزلزال، وبقاء الكُتبية.


(كلمة)

قبل ستة عقود نجح المغرب في بعث مدينة أكادير من ترابها وحجرها المنهار من جراء الزلزال. اليوم تقف المملكة قبالة تحدٍ آخر، في تهدئة رجّة زلزال الحوز، وإعادة الحياة لقرى أفنتها سبعة درجات ولحظات. والأهم من ذلك، الالتفاتة ناحية المغرب العميق، عند بوادي جبلية متروكة على الهامش.


* سبعة رجال، هو أحد ألقاب مدينة مراكش، ويُقصد منه رجال سبعة تعاقبوا على تاريخ مدينة مراكش، وهم فقهاء متصوفون يُعرفون عندنا العامة بسعيهم للخير وزهدهم في الدنيا، وقد بُنيت أضرحة فوق مراقدهم. وأشهر الرجال السبعة، نلقى القاضي عياض، الذي تحمل جامعة مراكش اسمه.

تعليقات

  1. لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم أجرنا على مصيبتنا وارحم موتانا 🤲

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط