الموعد


قصة قصيرة 

أرى السعادة في بابي تتبسم إليّ، وإن بدت لي تارة كأنها تكزُّ أسنانها! لكن أتجاوز بعض توجساتي، وأقنع نفسي، أنها انفلتت بمشقة من الوحدة.

***

غدا سألتقي ماجدة لأول مرة، بعد ستة أشهر من مواعدةٍ في عالمٍ يفترض فيه الناس الوجود، الانترنت. لقد افتُتنت بجمالها الأخاذ، الذي ما رأيت نظيره في دنياي، ولا انجدبت لأنثى من قبل هكذا، أو تراه العشق من جمّلها بعظمةٍ في عيناي؟ الأرجح كلا، فتلك العيون الواسعة والفم الصغيرة والشعر الحريري لا يقدر العشق أن يضفي عليهم حُسنًا إن كانوا يعدمونه. إنما تعديل الصور في الأجهزة لهو قادر على ذلك، فكم من قردةٍ في عدسة هاتفها غزال! وقد سمعت قصصًا عن اللقاءات الغرامية في الواقع بعد مسيرة في العالم الافتراضي، ويا بُعد هذا بذاك فلا يستويان، حتى أن أصدقهم قال لحبيبته في العالم الافتراضي قبل لقائهما الملموس: "بعد ولوجك المطعم حيث أكون بانتظارك، فالشخص الذي تسقط عليه أبصارك وتدعين إلهك أن لا يكون أنا؛ فذلك هو أنا! "

حاولت - جاهدًا - اقناع نفسي، أن ماجدة وإن كانت لربما تعرض صورها المرسلة إليّ للتعديل؛ فليس لأنها قبيحة، فحروف الجمال بادية في محياها. وقوامها مثير حتى يُخيّل إليّ أن إبليس من نحت تضاريس جسدها ليُفتّن به الناس، ورغم ذلك عادت أفكاري إلى تعديل الصور. في النهاية هيأت نفسي للقاء ماجدة كيفما كانت طلعتها، ولا ريب أنها تُفكر فيما أفكر فيه، وتسأل حالها، تُرى كيف يبدو ذاك في العالم الواقعي؟ لكني لم أرسل لها يومًا صورًا مُعدلة، إن صوري كأنها مرآة، أبدًا لا يُسوّغ لها الكذب. فتذكرت العجوز حسناء الماضي السحيق، التي تعتقد أن مرايا هذا الزمن مقرفة!.

بعد أرق مضنٍ، أطلت شمس اليوم الموعود ، الذي ألتقي فيه ماجدة وتمثلُ حقيقتها أمامي، فما عاد هناك مجال (للتكنولوجيا) لترعى مواعدتنا وتتدخل فيها. اللقاء اتفقنا أن يتم في مطعم فخم شهير، اسمه موكادور. وإلى هناك هممت أنيقًا، أو هذا ما يبدو لي، وأحمل معي وردة حمراء، أخشى أن تذبل في الطريق، لأن شمس اليوم ساطعة أكثر من المعتاد، كأنها ستشهد معي على حقيقة ماجدة، إنما وبرغم من قيظ شهر آب وشمسه التي لا يشوبها ولو طيف غيمٍ في السماء؛ إلا أنّ هناك برودة تسري في جسدي! لا ريب أنها ليست من عوامل الخارج، فأنّى لها من ذلك؟! فكرت، أن باعث الشعور بالبرد هو العشق. تسألت أهكذا يتوقد العشق في الكيان باردًا؟ ولأني لم أخبر شعور العشق ذي قبل؛ فقد آمنتُ بالقرس أنه أمارة العشق.

وضعت الوردة الحمراء في جيبي بلطف، راجيًا إياها أن تقاوم حتى لا تذبل، ولعل برودة جسدي تغديها ما يكفي من الوقت حتى أُقدمها عربون محبةٍ لماجدة.

ألقيتُ بنفسي في سيارة أجرى، وأعلمت من يقودها بوجهتي، مطعم موكادور. ثم تحسّستُ الوردة في جيبي، لأطمئن على تمسكها خشية أن تنكسر بعد جلوسي هذا. شعرتُ أن البرد الذي يتهيأ لي سلفًا، قد اشتد عليّ! أيُعقل أن الشتاء الذي يتشعشع الآن في جسدي علامة على الحب؟! أنّى لي أن أعرف؟ ومن هذا الذي يُنبئني بما يُحيّر من أمري؟ فكرت بما أني كائن شتوي يحب المطر والبرد والفيضانات؛ فإن دلالة الحب عندي تكون بأن يسرقني الصقيع من قيظ أغسطس، ربما، أو هكذا حاولتُ صبغ المنطق المعطوب في شعوري بالبرد في يوم حار!

توقفت سيارة الأجرة في إشارة المرور، لأول مرة يبدو لي الضوء الأحمر الذي يُعلن إجبارية التوقف، على أنه خطر! إذ في احمراره الشديد كأنه نذير ما. وبينما أنتظر أن يُنير الضوء الأخضر وتخمدُ إشارة المشأمة تلك؛ سيحشر طفل صغير وردة من النافذة يعرضها كي أبتاعها منه، ولم أرد يده الصغيرة إلا وفيها ثمن الوردة، فصرتُ أملك اثنتين، حتى إن ذبلت الأولى ألقى الثانية، إنما مهلاً، فالتي ابتعتها الآن ليست وردة وليدة المشتل، فهي مصنوعة من مادة ما، لا أعلم ما هي. أخيرًا، ستتوقف سيارة الأجرة جنب مطعم موكادور، حيث سألتقي ماجدة.

ولجتُ المطعم، ولم أجد طاولة فارغة في الطبق الأول، فتوجهت الى الطبق الثاني، لتستقبلني طاولة فارغة بها كرسيان، دون أن أُكلف نفسي بالبحث عن أخرى ولو بإلقاء نظرة، فجلستُ عليها، وكان المكان يطل على الطبق الأول، وأرى الناس من الأعلى، حتى شعرتُ كأني سباح منقذ. حملتُ الهاتف واتصلت بماجدة، لأعلمها مكاني، وبعد مرور وقت قصير، رنّ هاتفي، إنها ماجدة تعلمني بوصولها للمطعم، وبينما كنت أخوض في مهاتفتها، ظهرت لي من الأسفل شابة تضع الهاتف على أذنها، وتلبس فستانًا أسودًا ينتهي على ركبتها، رجوّت في خيالي أن تكون هي، وإن لم أتحقق من ملامحها إلا أن قوام تلك الشابة يغري الأبصار. فسألتها في الهاتف أتكون ذات الفستان الأسود؟ ردت بالإيجاب، فرفعت يدي وأحركها في إشارة الوداع، حتى ألفت انتباهها. وها قد عرفت مكاني وتسير إليّ، حتى باتت تقف أمامي ونتناظر في صمت. ما أجمل عيونها، فمها، شعرها، كل ما فيها. اللعنة على عدسة الكاميرات، التي لم تفِ لهذا الملاك حقه، وأنا الذي اعتقدت أنها تلجأ لتعديل الصور! اللعنة عليّ أنا كذلك.

نجلس معا على طاولة واحدة، بعد أشهر من المواعدة الإلكترونية. تلتقي فيها عيوننا ولا أظنني سأطرق بأبصاري عنها، حتى تفعل هي. فيعناي تستحيان أن تشيحا عن هذا الجمال المنحوت في أنثى. لا تكف ماجدة عن الابتسام وهي تحدثني، بينما أتيه في النظر إلى عيونها حتى ما عدت أسمع ما تقوله، كأنها تحرك فمها وتغلقه دون أن تتفوه بشيء، فعيونها وادٍ سحيق تتفتت فيه مشاعري وتجتمع من جديد، ببساطة، إن ماجدة هي التي ستراها مرة واحدة في العمر. فجأة شعرت أن تمة أمر ما ليس على ما يرام، فبُهْرتُ ماجدة لي، جعلتني أشك أني نظرت في عيون أنثى من قبل؛ وإن ظننتُ نفسي مرتويًا منهن منذ أمد بعيد. عاد البرد إلى جسدي، ثم تبعه عرق يسير! وبها بلغتُ مجمع النقيض.  

كل شيء في ماجدة طبيعي ويثيرني، إلا أظافرها الاصطناعية، لم أجد فيهم أي إضافة لحُسنها، إن لم يكونوا نشازًا في معزوفة جمالها.

***

خرجت من المطعم مبهور الأنفاس، وأشير بيداي على كل سيارة أجرة تظهر لي، من قريب ومن بعيد! أيًا كان يقدر على حملي فيُبعدني عن هنا، وبدأت أهرول بعيدًا عن المطعم، حتى شعرت بقبضةٍ تُمسك قميصي من
كتفه، زاد هلعي، ثم تلاشى ما إن استدرت، لألقى عامل المطعم يصرخ فيّ، على أني لم أدفع فاتورة العصير الذي تركته فوق الطاولة! أخرجت محفظة نقودي وسلمتها له، وأبعدته عني بعنف حتى طُرح أرضًا وأخذ معه في قبضته مزقٌ من قميصي، وواصلت الركض حتى مررت على سيارة أجرة متوقفة، فعدت إليها وأمرت السائق أن يبعدني عن هنا، ويأخذني إلى وحدتي. هدأ روعي بعد مُضيّ السيارة، وبدأت أستجمع شتات ذهني، لأستوعب ما حصل، وقبل ذلك، لعنتُ حظي أولاً، وثانيًا، ثم ثالثًا، حتى يرضى وبعد الرضا.

بعد أن كنت على مرمى حجر من السعادة، وتعاقب سنين كنت فيها جليس الغم، وظننت أن الحب طرق بابي ولو متأخرًا؛ انقلب الحلم كابوسًا مفرطًا في قبحه، فعشيقتي على الشبكة العنكبوتية، قد أماط الواقع لثامها، وليته لم يفعل، حتى أنعم في الوهم، وأن لا أدري أن الحسناء ماجدة لم تكن من البشر! وأن تلك الأظافر التي تشبه الخناجر؛ ليست اصطناعية كما اعتقدت في بادئ الأمر.

استعدت أنفاسي، وأدركت هول ما رأيت من لحظات في عالم ماجدة، بينما تقترب سيارة الأجرة من وجهتي، وقطعت وعدًا على نفسي، أن لا أراسل مجهولاً بعد اليوم على الشبكة العنكبوتية. فجأة خففّت السيارة السرعة وتتهيأ للتوقف، رفعت رأسي لأرى إن كانت وجهتي، فرأيت ماجدة تحمل إكليل الورد وتُشير إلى السيارة حيث أنا، والسائق يستجيب لها.

ضحكت. ثم واصلت الضحك مقهقهًا.

تعليقات

  1. عبد الرزاق ايدر2 سبتمبر 2023 في 5:52 م

    السلام عليكم

    فرحت عندما وجدت الجديد في المدونة سأعود للتعليق على القصة لاحقا وأتمنى أن يكون غيابك المتكرر خير إن شاء الله

    ردحذف
    الردود
    1. عليكم السلام،

      وأنا فرحت أكثر عندما رأيت اسمك مرة أخرى.. أتمنى أن تعجبك القصة.
      وعن غيابي المتكرر، فالحمد لله خير.. وسأحاول في الفترة المقبلة الاهتمام أكثر بهذه المدونة .

      حذف
  2. لطالما كنت معجبة بأسلوبك الراقي في الكتابة، وكنتَ في طليعة الكتاب الذين أُحبب قراءة أعمالهم في قسم الأدب على موقع كابوس. لقد أخذتني بكلماتك الفصيحة، وشعرت بشوق البطل للقاء ماجدة، حتى إشارة المرور وظفتها في القصة وجعلتنا نزداد تشويقاً لذلك اللقاء المنتظر. مغزى القصة واضح وهو في خطر نسج العلاقات على الإنترنت. وأُضيف صوتي لصوت البطل فيما يخص الأظافر الاصطناعية، فهي لا تضيف أي جمال لليد.

    قصة مشوقة وجيدة جداً، وأتمنى أن أقرأ لك المزيد من القصص.

    تحياتي لك.

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بكِ وبأصدقاء موقع كابوس، وأشكركِ جزيلا على شهادتكِ عني، فمثل هذه الردود هي التي تُحفز الشخص وتدفعه على الاستمرار.
      وأنا بدوري أنظم إليكم في التصويت سلبا على الأظافر الاصطناعية ^^

      إن شاء الله يكون هنالك المزيد من القصص القصيرة، على أمل البقاء عند حسن الظن.

      شكرا على المشاركة الطيبة معنا

      حذف
  3. في النهاية جن الرجل ههههههه!! بصراحة في هذه القصة صعب توقع خطوتك القادمة آخر شيء توقعته أن يعود من موعد الغرام مجنونا وفي الواقع أغبطك على لغتك المميزة الراقية التي جاءت أقوى من محتوى القصة وممكن القول أنها قصة غريبة الأطوار لكنها أعجبتني في كل الأحوال

    ردحذف
  4. أهلا مراد،

    هو طالما لم تتوقع خطوات القصة التالية؛ فقد نجحنا فيما نريده. من جانب آخر، إن أتت اللغة أقوى من المحتوى؛ فذلك لا يجعلني أفتخر كما يمكن أن تتوقع ^^ فهو رسوب في معادلة التوازن. عموما أن تعجبك القصة فهذا من أولويتنا.

    في الأخيرة أشكرك جزيلا على حسن القراءة والرد.

    ردحذف
  5. في عالمنا الحالي اصبح العالم الافتراضي كالواقع تماما فيه الجيد و السئ و لا يخفى بالطبع اي منهم طباعه لفترة طويلة كما يظن البعض.. على اية حال هذا التواصل يحمل شئ غريب ان تكلم شخص و تنجذب له ثم يتبعه علاقة دون ان تراه لهو امر اشبه في الجنون لو تكلمنا عنه في سنين ولت لكن الان اصبح الامر سيان مع التعارف الواقعي و يعود الامر لأختلاف الاراء .. اين انا و اين رأيي من هذا !
    انا لا ابغض الامر و لا اشجع الوثوق الاعمى ف الدخول في هكذا علاقات اشبه السير بطريق و انت مغمض العينين معتمد على حواسك البقية و بصيرتك في تحديد وجهتك فالحذر مطلوب بالطبع قبل نقل الشخص من الافتراض الى الحقيقة و اشراكه في واقعك ..

    بالعودة الى القصة لم تخبرنا عن النهاية هل جن من جمالها الاخاذ ام جن من قبحها الدميم او جن لانه علم انها ليست من البشر لكون حظه الاسود لن يحالفه الى هذا الحد بفتاة جميلة و تحبه 😂 ..ام انك تركت لنا التخمين ! انا اظن ان الاحتمال الثالث هو من اصاب عقله بلوثة 😂

    ردحذف
  6. صحيح، تماما. طالما يُطلق عليه العالم الافترضي؛ إذن هو محاكاة للحياة الواقية وليس معزلا عنها. في إشارتك الثانية، أتفق معها كذلك، لأن من يريد شرا من الانترنت لن ينتظر لسنوات، فله غاية وواجب عليه الوصول إليها في أقرب وقت.. إذن ستظهر حقيقته في أقرب وقت. اما الانجذاب من علاقات الانترنت، فالذي يكسيه بالمنطق هو كما أسلفنا أن ما يحدث في الحياة الواقعية يحدث في العالم الافتراضي أيضا، من جريمة ونصب وحب ووفاء... لكن الفرق أن التخفي والخداع يكون أسهل، ولهذا وجب الحذر.

    أظن أنها واضحة، أو لي على الأقل ^^ بعدما ظن أنه وجد فتاة أحلامه اخيرا، فكانت فيها كل المواصفات، لولا انها ليست من البشر هههه

    شكرا على مشاركتك الدسمة.

    ردحذف
    الردود
    1. اها اذن فهمت الان يا لبؤس الرجل قد وجد فتاة احلامه و لكن خانه الحظ في النهاية و لكان الامر اقل وطأة لو كانت دميمة و لكن على الاقل من بني جنسه😂

      و بالعودة لمضمون القصة يبدو انك لم تتعرف على صاحبة المشاركة الدسمة يا مسيو 😅

      حذف
  7. هو كذلك.. ويا فرحة لم تتم ^^

    الحقيقة لم أعرف صاحبة الدسم لأني لم أدقق جيدا وإلا كنت ربما لشككت هههه عموما مرحبا بالعائدة من الأرياف ^^

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -