فيلم البرتقالة المرّة .. القصة الحقيقية



أتدري ما حلّ بي بعد رحيلك أيها الحبيب؟ لقد جُنّ فيّ الجنون.. أسير في الطرقات، أسْتُر جسدي بالأسمال، هيأتي رثة، شعري مغبر أشعث تحيا فيه القُمّال، وتفوح مني رائحة العفن.. تبتلعني الأزقة، تلفُظني أُخرى، أقتات من القمامة لأسد رمقي.. على الأرجح إن الأمراض خليلة جسدي النحيل، لكني لا أشعر بها، فالشعور بعشقك يُبدّد فيّ كل الأحاسيس.. وهكذا أيها الحبيب أقف على حافة الدنيا، التي قيل عنها في طفولتنا، أنها مظلمة، وفي آفاق  العتمة، أبحث عن أحلام شبابي.  

البرتقالة المرّة 

السعدية، شابة جميلة مُفعمة بالحياة، تعيش مع والديها حياة كريمة، يغلب عليها طبع التحفظ، فلم يسمح والدها بأن تدخل المدرسة مع أقرانها، فكبرت السعدية لا تقرأ ولا تكتب.. عواطف، صديقتها الوحيدة، وهي تعمل خادمة منزلية لدنّ جيران السعدية، فيخرجن معًا عند كل سانحة، وقد اعتدتا على قطف البرتقال في حدائق إحدى المنازل، وهكذا تعيش السعدية حياة يطبعها الهدوء، الذي سيُهتك بغتةً بعد أن وجد الحب سبيله إلى قلبها، كان ذلك ذات يوم وجد السعدية تتصلق الجدار حتى تصل للشجرة البرتقال التي تُطل في إحدى الحدائق المنزلية، وصديقتا عواطف  في الأسفل تلتقط ثمار البرتقال التي تُلقي بها السعدية.. إنما هذه المرة لم تسلم جرتهما، فقد شاهدهما شرطيٌ شاب يدعى أمين، فأتى إليهما، وعاتبهما على هذا الفعل، وساعد السعدية على النزول من الجدار، وسألها باستغراب لماذا تقطف برتقال مُرّ لا يُؤكل؟! فردت عليه السعدية وشرحت له كيف يقمن بوصفة تُزيل المرارة من البرتقال، وهكذا تغزل الشرطي بجمال السعدية، ثم رحل بعد أن أبلغهما أنه يتمنى أن لا يقطفن برتقال الناس من الآن فصاعدًا.. نظرات الشرطي وكلماته دقت نبال الحب في قلب السعدية، التي انقلبت حياتها من رتابة ولهو طفولي، إلى غرام يتوطن في كيانها، فبدأت في ملاحقة الشرطي بمعية صديقتها، حتى تعرفت على مقر سكنه، وهو غير بعيد من منزل السعدية، فقررت صاحبة البرتقال المرّ أن تبوح للشرطي بغرامها، وأنّ كل أمنياتها غدت تنحصر في أن يتقدم لها للزواج، وقد استعانت  بابنة خالتها لتكتب لها رسالة غرام، ثم لتبعثها إلى منزل حبيبها، بانتظار الجواب.. فطال الانتظار، حتى ذات يوم سمعت السعدية طرقات على الباب، لتلقى صديقتها عواطف مبهورة الأنفاس تحمل لها بشرى سارة، فرافقتها بعيدًا عن المنزل، هناك أخبرتها أنها سمعت والدة الشرطي أمين ستتقدم لخطبتها، أي السعدية،  وهكذا نجحت رسائل صاحبة البرتقال المر، وها هو الشرطي المعجب بجمالها سيطلب يدها عن قريب، أو هكذا ظنت السعدية، التي أخبرت والدتها عن قرب قدوم والدة الشرطي لطلب يدها، وبدورها أخبرت والدتها والدها عن اقتراب زفاف ابنتهما الوحيدة، وبدأوا في الاستعداد، وصرفوا الغالي والنفيس لأجل ذلك اليوم، حتى أضحوا في أتم الجاهزية، ولم يتبق عدا أن يطرق الخاطب باب المنزل، وتُسمع الزغاريد والتبريكات. 

ذات يوم، كانت السعدية وصديقتها عواطف تتنزهان في الحي، حتى سمعتا أصوات مزامير الموسيقى  وزغاريد تتعالى، إنه موكب عرس بهيج، فأسرعتا الخطوات للحاق بالموكب ومشاركة الاحتفال.. نشوة السعدية بالعرس البهيج ستنطفئ بعد أن تسقط عينها على العريس، إنه الشرطي أمين، خطيبها في الأوهام، واستدارت إلى صديقتها عواطف، تسألها عن الذي يحدث أمامها؟ لتحاول عواطف تهدئة روعها، وأنها كانت تعتقد أن والدة الشرطي كانت تقصدها عند الحديث عن قرب زواج ابنها.. انطلقت السعدية تركض ناحية منزلهم في نحيب تحاول قمعه، وخلفها عواطف تقتفي أثرها وتنادي عليها.. في المنزل ستتعرض لتوبيخ شديد بمعية والدتها من طرف والدها، الذي كان يظن أن الأمر كانت مبنيًا على حقيقة وليس افتراضات ابنته العاشقة.. بكت السعدية حتى أشفق جدران غرفتها على حالها، وظلت حبيسة نفسها، حتى طرق الجنون كيانها ليتشارك المقام مع العشق، فأخذتها والدتها إلى معالج روحاني، الذي قيد يداها ورجليها، وهي تصرخ ملء حلقها، وتبكي، فتشاركها والدتها البكاء، وفي الأخير انتهى بها المطاف في مصحة عقلية، هناك تهذي بالبرتقال المر. 

والدة الشرطي أمين، ستطلعه عن رسائل نسيت أن تُسلمهم له في السابق، إنهم رسائل صاحبة البرتقال المر وقد وصلوا متأخرين جدًا، ليقرأهم أمين، ويتذكر صاحبة البرتقالة المرّة التي أعجب بها للحظة عابرة.

توالت السنين، ومات والدي السعدية، وكبرت صاحبة البرتقال المر وكبر معها الجنون في المصحة العقلية، ثم ألقت بها الأقدار إلى تحت قناديل الشارع، تلبس الأسمال وتطوف في المدينة بلا هدى، والكل بات يعرف قصتها الحزينة، وكيف كانت جميلة أُعجب بها كل أبناء الحي ويتمنى كل واحد أن تكون من نصيبه، إلا واحد منهم، وهو الذي عشقته هي.. وهكذا دأبت السعدية تتنقل بين الأزقة والشوارع، حتى صدمتها سيارة وأكملت ما كان ينقص بؤسها الممزوج بين الحب والجنون ومرارة البرتقال.... 


هي أحداث حزينة فجرتها نظرة إعجاب ثم عشق ثم جنون، في فيلم مغربي، بعنوان، البرتقالة المرة، الذي أُنتج عام 2007،  من إخراج بشرى إيجورك، بطولة هدى الريحاني ويوسف الجندي.. إلا أن وراء قصة الفيلم الحزينة، قصة حقيقية عن عشق قاد شابة جميلة إلى الجنون والتشرد. 

القصة الحقيقة 

في مدينة القنيطرة،  تعيش الشابة فاطمة، جميلة حيّها، وكانت على علاقة حب مع شاب  سيقرر لاحقًا الهجرة إلى فرنسا، بينما فاطمة تنتظر عودته في كل عطلة صيفية، وقد رفضت كل من تقدم لخطبتها، محافظةً على وعدها مع حبيبها، الذي سينفر بعوده ويهجرها، لتذبل الحياة في محيا فاطمة، فعسر عليها تحمل فراق معشوقها، واكتمل عُرس جراح فاطمة، بعد أن سمعت بقرب زواجه، لتتلظى في أتون الفراق الحتمي، وكأن كل هذا لا يكفي في أوجاع فاطمة، فقد رحل حبيبها للمرة الثانية، هاته المرة إلى دار البقاء، بعد أن تعرض لحادثة سير رفقة والدته في الطريق أثناء قيادته للسيارة.

الشابة فاطمة

خبرٌ بتر قلب فاطمة، فخرجت إلى الشارع تبحث عن حبيبها، ولم تعد بدورها.. فمن فرط عشقها، وصدمة ضياعه مرتين؛ جُنّت فاطمة الجميلة وكان الشارع ملاذها.. تجلس قرب حي المسيرة وتنتظر قدوم حبيبها، وعندما تقف حافلة المدينة، تهرول اتجاهها، وتقف تنظر لعله ينزل منها.. فتسأل المارة عن عشيقها، هل رآه أحدهم؟ ثم تستوقف شبابًا لتسألهم: لماذا تركني؟ هل أبدو لكم قبيحة؟ وهكذا باتت فاطمة معروفة عند الناس باسم "فاطمة الحمقة" أو فاطمة المجنونة، التي دلّها العشق ناحية الجنون.

تعليقات

  1. هذا الفليم لا احب مشاهدته منذ ان شاهدته اول مرة وجعلني اكتئب جدا المشاهد الاخيرة والاغنية وردة على وردة دمااااار وها انت تكمل الحفلة وتنقل لنا القصة الحقيقية !!! حراام عليك ماذا تريد عندي ههههههههههه

    ردحذف
  2. إذا كان هذا، فلا تلومني.. طالما قرأت العنوان وشاهدت صورة الغلاف والدنيا كلها برتقال؛ فلم واصلت القراء؟ ألا يكون فضول النساء؟ ^^

    ردحذف
  3. فيلم رائع رائع أذكر أني شاهدته منذ ثلاث سنوات وأعدته، دلني عليه صديق عزيز، بكيت كثيرا كثيرا وأنا أشاهده، خاصة في المشهد الأخير، أما الأغنية فهي أسطورة لوحدها، إن أراد أحد البكاء فليكتف بها . أثرت في نفسي شجون وذكريات عديدة يا مستر، سأعيد مشاهدته الليلة بإذن الله .

    ردحذف
  4. على فكرة قصة الفيلم حزينة أكثر من القصة الحقيقية، على الأقل بموته فقدته للأبد، أما أن تفقد حبيبها حيا بل وتراه وفي حضن أخرى لهو الجنون بعينه . عموما مقال رائع فصلت الفيلم بأسلوب آسر، كعادتك بحر من البلاغة .

    إلى لقاء قريب لا يُفقد فيه باسوورد ايميل .😁

    ردحذف
  5. وبدوري أتذكر أني اقترحته على صديقة عزيزة لكي تبكي قليلا هههه ونقطة البكاء بضبط اشتركت فيها الكثيرات، والدليل الردود على الفليم على اليوتيوب.. يستحق جائز "مبكي البنات"^^

    أتفق معك أن قصة الفيلم أكثر مأسوية من القصة الحقيقية، والسبب قد ذكرتيه.. لكن المحزن أن فاطمة تتجول الآن في مدينة القنيطرة بلا هدى - إن كانت ما تزال على قيد الحياة - والتُقطت لها صورة في الشارع وهي في حالة يرثى لها، لم أشأ حتى نشرها.

    شكرا لك على الاطراء الجميل ^^


    اممم هكذا إذن.. كلمة السر هههه في المرة القادمة ضعي أربعة أصفار وليس أكواد ناسا ^^

    إلى اللقاء إن شاء الله.

    ردحذف
  6. بالمناسبة هل تذكر ثلاثية غرناطة؟ كلما تذكرت تعليقك هذا أضحك من قلبي" ما سر هذه التعليقات والمديح كله، هل كتبتِ ثلاثية غرناطة؟ . كان ذلك منذ سنوات .

    أبشرك بالإلياذة قريبا 😂.. ألق عليها نظرة .

    ردحذف
  7. إذن، ثلاثية غرناطة، أضيفي إليها أكواد ناسا؛ حتى تتعزز ذكراي ^^

    نعم أتذكر حتى التاريخ، وهو سبتمبر 2019، لم أجد وقتا لقراءة القصة، فألقيت نظرة على الردود، لأجد كمية مديح فاق ما حظيّ به الأصمعي في زمانه.. فكرت أن هذه العزيزة ربما تكون قد نسخت ثلاثية غرناطة وألصقتها هنا هههه


    وقد أبشرنا، فبعد ثلاثية غرناطة؛ لا ننتظر منك سوى عملٍ بحجم الإلياذة ^^

    ردحذف
  8. ومن الحب ما قتل ، ولكن في هذه الحالة ، من الحب ما جُنّ ههههه والحب موجود ومن ينكر وجوده فليس إنسان عادي ولكن على العشق أن يصل للدرجة الجنون والعبث بحياة إنسان ، فهذا من قلة الإمان ، ونعم قصة الفيلم تنفجر بالأحزان ولكن المؤسف أنها مأخوذة من قصة حقيقية !!

    المقال رائع والمقدمة أروع وقد ذكرتني "بتاء تراجعت" ولكن على النقيض هذه المرة .

    ردحذف
  9. قصدت على العشق أن لا يصل لدرجة الجنون والعبث بحياة الإنسان

    ردحذف
  10. اتفقنا أخي بوطيب.. أن يصل الحب للقتل أو الجنون، لهوّ البعد عن الله.

    يسعدني دائما عندما ألمس القارئ بعبارة ما.. "والتاء التي تراجعت"، تقصد بتأكيد مقدمة قصة أحلام وشموع، وقبلها: "أعارك اليأس وأستبقي الحلم".

    أشكرم جزيلا على هذا المرور الطيب.

    ردحذف
  11. لم اجد ما اقول خصوصا بعد قراءة تعليقات القراء اظن ان علي مشاهدة الفيلم .. القصة حزينة جدا

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

بوتفوناست (صاحب البقرة)

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية

جاءتنا امرأة