أشرف السكاكي .. الهارب الكبير من السجون



مسلسل " الهروب من السجن" أو (prison break) أشهر وأنجح الأعمال الدرامية الحديثة، التي تدور حول رهط رجال يُنفذون تصميمات معقدة لأجل استعادة الحرية والفرار من السجن.. فالهروب من السجن، هو الأمل العنيد المتمادي الذي يحدو كل معتقل يسمع - برتابة - قعقعة حزمة المفاتيح، بعد أن خلف الحياة وراء الأسوار العالية، وانحصر لدّنه كل ما في الدنيا، عند القُضبان والجدران.. لنجد في الواقع كذلك من أفلح في قهر تحصينات السجون، وبذكائه سحق الأقفال واستنشق هواء الأحرار، أحدهم أرهق شرطة بلجيكا لسنين وجعل من سجونها باحة استراحة.. إنه أشرف السكاكي، صاحب خمسة عشر عملية هروب ناجح من السجون.. أشرف صاحب مشوار مشرف في الإجرام.


ولد أشرف السكاكي عام 1983 في الديار البلجيكية لأسرة مغربية تنحدر من الريف الأمازيغي.. عاش عزلة في طفولته ولم يكن يحبذ الذهاب للمدرسة، حتى غادرها مبكرًا في الابتدائية، ودخل في مشاكل مع والديه الذيْن وجدا ابنيهما أشرف ينهار دراسيًا وعند بداية المشوار، فقرر أشرف الطفل الغياب عن المنزل والتّيه في الأزقة، ليسلك سبيلاً ستقوده إلى الذي لم تتخيّله أسرته يومًا، ألا وهو الهبوط على كوكب المجرمين، وكتابة اسمه هناك بأحرف من الرصاص.. في سن الثالثة عشرة، ستُلقي الشرطة القبض على أشرف الصغير، بعد أن نفذ عملية سطو بسلاح أبيض على أحد المحالات التجارية، لتُدينه المحكمة، ويُدشن أقدامه المباركة إلى سجن الإصلاحية، ولم يمر وقت طويل حتى نجح في الفرار من الإصلاحية، إلا أن غيابه استمر إلى حين، لتنجح الشرطة في إعادته إلى الإصلاحية التي ستعمل على إفساد أشرف أكثر فأكثر، حيث سيتعرف على أفراد عصابة أكبر منه، وينظم إليهم أشرف بحماس وطموح لنيل مراتب أكثر شرفية في عالم الإجرام.. ومن السطو بالسلاح الأبيض، إلى السطو بالسلاح الناري تحت التهديد، وما يزال دون سن الرشد، لتعود أقدام أشرف وتطأ الإصلاحية مرة ومرات، وعلى عوائد السكاكي، فمقامه لا يدوم طويلا في الأسر، حتى يلقى منفذًا يقوده للخارج، وخلفه رجال الشرطة في لعبة كر وفر، التي تكررت إحدى عشرة مرة في الإصلاحية.

سيتحول أشرف السكاكي من مجرم يسطو على المحالات التجارية تحت التهديد المسلح، إلى واحد من أخطر المجرمين في أوروبا، وقام بعمليات سطو على البنوك في بلجيكا وهولاندا وحيازة الأسلحة والممنوعات والتجارة فيهما، وفشلت أجهزة الأمن في القبض عليه، حتى عام 1999 بعمر سبعة عشر سنة، سيسقط أخيرًا أشرف السكاكي، وجهزوا له حكمًا بالسجن بلغ تسع سنوات في أحد السجون ضواحي العاصمة البلجيكية بروكسيل، لم يقضِ منها أشرف سوى سنة واحدة، كانت كافية له لكي يلقى الممر الذي سيقوده وراء أسوار السجن، لتعود اللعبة القديمة المُسّلية بين شرطة بلجيكا والشاب المغربي، تنتهي 2002 بإعادة أشرف إلى باحة استراحته، هذه المرة محملاً بتهم أكثر شرفًا من ذي قبل، وهي الحيازة على الهرويين ومحاولة القتل مع فائض من عمليات السطو المسلح على البنوك، ليُجمعوا له حسابه، وليُكافأ بالحكم عليه بالسجن المؤبد، وإلى هنا اعتقدت الشرطة البلجيكية أنها كتبت السطر الأخير في حكاية أشرف السكاكي، لكن في نفس أشرف، ما يزال في الصفحة الأولى، وذلك الحكم بالمؤبد، لم يكن سوى عام واحد في التقويم السكاكي، بعد أن وجد في السجن معتقل مغربي آخر، يدعى محمد الجوهري، الذي سيصير لاحقًا صديقه المقرب وشريكه في الإجرام، وقد نجحا في الهروب عام 2003، وأفضت التحقيقات، أن بعض أفراد حراس السجن تواطؤا معهما.. ليعود أشرف إلى الهواء الطلق، وهو أكثر خطورة بكثير، فقد تزعم عصابة خطيرة نجحت في تنفيذ ستة عشر عملية سطو مسلح على الأبناك البلجيكية في ظرف ستة أشهر، ودخلت في معارك شرسة لعلع فيها الرصاص في أزقة بلجيكا، وغدا أشرف شبحًا ينتقل في أوروبا دون أن تطاله أيادِ الشرطة.

خمس سنوات كاملة روع فيها أشرف السكاكي وعصابته بنوك بلجيكا، وأحرج فيها شرطة البلد.. أخيرًا، وفي عام 2008، سيسقط الشبح أشرف في يد العدالة، كطريدة طُردت طويلاً، وحان الوقت للقصاص منه، وعزمت أجهزة الأمن البلجيكية على إنهاء أسطورة السكاكي إلى الأبد، مهما تطلب الأمر.. وأعادوا إليه حكمه السابق، وهو المؤبد، وزجوا به في أخطر سجون أوروبا، "سجن بروج" في بلجيكا، الذي يستحيل الهروب منه على ما يبدو، بل وضاعفوا الحراسة على أشرف مخافة أن يعيدهم مجبرين إلى اللعبة القديمة، ومرت سنة واحدة، ليحظى أشرف بتخفيف حكمه، وتحويله من المؤبد إلى المحدد، ليبقى في تسعة عشر سنة، هذا بعد حسن سيرته داخل السجن، وبات واضحًا أنّ نهاية أشرف السكاكي ستجد فصلها الأخير في سجن بروج، ولكن...

أشرف السكاكي في يد الشرطة

تيقن أشرف السكاكي، أن من أجل الفرار من سجن بروج، عليه الحفر بأصابعه، أسنانه، حتى يرّد المستحيل واقعًا مطال، فتذكر أنه الشبح، كما أُطلق عليه سلفا.. وجهز طريقة للهروب، لا تُتقن إلا سينمائيًا، وبعد محاولات متكررة حتى.

23 يونيو 2009، عصابة أشرف ستختطف طائرة مروحية، وهم مدججين بالسلاح، وستتوجه إلى ساحة سجن بروج، وتحط هناك وهي تحدث ضجيجًا جعل كل السجناء في الساحة يفرون، وفي لمح البصر، سيظهر ثلاث سجناء يركضون نحو الطائرة المروحية ويركبون فيها.. لتُقلع عصابة أشرف التي زارت السجن وخففت الزيارة بعد أن اصطحبوا أميرهم، واختفت الطائرة المروحية في السماء، معلنةً انتصار الشبح أشرف السكاكي من جديد، والذي دعى الشرطة وهم مجبرين للتلبية الدعوة إلى لعبة أشرف المفضلة، أن يركضوا خلف الشبح.. وكانت هذه واحدة من أروع مشاهد الفرار من السجون الموثقة، دون تعقيدات، كأنه مشهد سينمائي أتقنه صانعوه.


بعد أن واصل أشرف هوايته المفضلة في الفرار في السجن، وبات أخطر مجرم حرًا طليقًا؛ ستشهد بلجيكا استنفارًا أمنيًا، تدخلت فيه حتى المخابرات، وبدأ تتبع خطوات أشرف السكاكي وعصابته، وتوقيفه أضحى أمرًا لا مرد منه، وقد وصل السعي للوصول إليه إلى أن خرجت والدة أشرف تطلب منه تسليم نفسه للشرطة بعد ضغطٍ من الأجهزة الأمنية على أسرته، لكن ظل أشرف في ثوب الشبح، بل وواصل في سطوه المسلح، لينجح في عملية جديدة استهان بها بشرطة بلجيكا واستفز عملهم.. لتصل مبالغ عملياته، قرابة نصف مليون دولار، في رقم كبير يزكي على خطورة أشرف وعصابته.

تم مسح بلجيكا، ولا أثر لأشرف السكاكي، لتصل المخابرات البلجيكية إلى معلومة سفر والدته إلى المغرب، ووصلوا إلى احتمالية وجود المطلوب الأول في بلجيكا في المغرب، ومنذئذ، تم إصدار مذكرة بحث دولية في حق أشرف السكاكي وأصدقائه، فصدقت ظنون المخابرات البلجيكية، وأشرف وأصدقائه موجدين في المغرب.. فكيف وصلوا إلى بلدهم دون أن يعترض سبيلهم أحد؟

أشرف وأصدقائه الثلاث، استعانوا بجوزات سفر مُزيفة، وابتاعوا سيارة من نوع (bmw) في ألمانيا، قطعوا بها فرنسا وإسبانيا، وصولاً للمغرب كأيها المهاجرين العائدين للزيارة بلدهم، وبدأ التنسيق بين المخابرات المغربية والبلجيكية، وإلى هنا وضعت الأجهزة الأمنية البلجيكية المنشفة معلنة الهزيمة، لتدخل الأجهزة الأمنية المغربية المعركة، ممثلةً في المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، العيون التي تتفحص الجن والإنس معًا، لتقتفي أثر أشرف وأصحابه، واشتّد الخناق الأمني على منطقة الريف في الشمال، حيث مسقط رأس أسرته ومنزلهم هناك، حتى اهتدت الأجهزة الأمنية المغربية إلى مكان تواجد أشرف، وهو مدينة بركان شرق المغرب، وبات مراقبًا وهو لا يدري.

9 غشت 2009 ستقتحم الشرطة فندق في مدينة بركان، حيث يتواجد فيه أشرف السكاكي وصديقه المقرب، محمد الجوهري، وسيتم القبض على الأخير، بينما أشرف سينجح في الفرار بسيارته باتجاه الحسيمة، والشرطة تطارده، وفي الطريق، سيتعرض لحادثة سير وتنقلب به السيارة، وهكذا سقط أشرف مرة أخرى، وهذه المرة الأولى في قبضة أمن بلده.. ويتم نقله إلى وجدة أقصى شرق المغرب، بمعية صديقه في الحياة والإجرام، محمد الجوهري، وهناك ستبدأ جلسات محاكمة أشرف السكاكي، بينما هو متواجد في سجن وجدة بانتظار إصدار الحكم النهائي، لكن أشرف لن ينتظر حتى يتعرف على عقوبته الجديدة، فقد آن الأوان لممارسة هوايته المفضلة: أن يهرب من السجن.

بينما كان القضاة يتناقشون في كيفية توزيع السنوات وعقاب أشرف؛ كان هذا الأخير قد تفتقت قريحته بمسار جديد للفرار، هذه المرة بمساعدة عشيقته القادمة من بلجيكا إلى مدينة وجدة، حتى ذات يوم تلاشى فيها أشرف في العدم وما عاد له وجود، في صدمة عظم استيعابها لدّن موظفي السجن، فلم يترك أشرف أي أثر خلفه، لا شيء عدا سريره حيث كان ينام، كأنه عرج إلى السماء.. فكيف فرّ أشرف هذه المرة؟

صديقة أشرف جلبت له عقارًا، سيجعله يفقد وزنه بعد ثلاثة أشهر من تعاطيه المستمر، وأدوية أخرى يحافظ من خلال تناولها على حيويته ونشاطه، حتى أضحى السكاكي بوزن ضئيل جدًا، وعادت صاحبته في زيارة ثانية وهي تجر حقيبة سفرية ذات العجلتين، وفي غفلة من الحراس، سيدخل أشرف بجسمه النحيل إلى داخل الحقيبة وتُغلق عليه صاحبته وتجر الحقيبة وفيها صديقها ناحية حرية جديدة ينالها ملك الهروب من السجون، وهكذا تمت علمية فرار عبقرية أخرى، هذه المرة في سجن وجدة بالمغرب.

لم يمر سوى أشهر قليلة، وقبل بداية عام 2010، ستكون الشرطة المغربية قد وضعت يدها على أشرف السكاكي مرة ثانية، وتمت محاكمته، لينال اثنا عشر سنة سجنًا نافذًا، وتم التوجه به إلى أخطر السجون المغربية وأكثرها حراسة، سجن سلا، حيث كبار الخارجين عن القانون والإرهابيين، هناك سيوضع اشرف السكاكي في عزلة تامة، وفي تصريح منسوب إليه، يقول أشرف:

"في اليوم الذي أُقرّر فيه الفرار من السحن؛ فلن يمنعني أحد"

إلا أن البعض رأى، أن أشرف عجز أخيرًا على كسر تحصينات سجن سلا ذا الحراسة المشددة.. إنما تصريحات أشرف متناقضة، وأنه يفضل البقاء هناك، ما يزكي التصريحات المنسوبة لأشرف السكاكي، كان في عام 2017، حيث ستلقي شرطة بلجيكا القبض على عصابة خطيرة مدججة بأسلحة الكلاشينكوف والمسدسات، سيتضح لاحقًا بعد التحقيقات، أن أشرف السكاكي هو زعيم هذه العصابة ويُسيّرها داخل سجن سلا.. ما سينفيه المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج بنفسه، محمد صالح التامك، مؤكدًا أن أشرف السكاكي يقضي عقوبته داخل سجن سلا بشكل طبيعي ولا يتدخل فيما يدور خارج السجن.


يقول مثل مغربي: "إذا نتّن اللحم، فجمعه يعود لأهله" هكذا انتهى أشرف السكاكي على يد أبناء بلده، بعد أن عظم على الغرباء النيل منه. أشرف، الرجل الذي سخر ذكائه وشجاعته في غير موضعهما.

تعليقات

  1. تصحيح معلومة جاءت في المقال، وهي أن عصابة أشرف جنت نصف مليار دولار من عمليات السطو على البنوك.. والمبلغ التقريبي الذي تم الكشف عنه، هو نصف مليون دولار، وليس "مليار" كما طمعت أناملي ^^

    ردحذف
  2. تجدني أشفق عليه فلو استغل ذكاءه وشجاعته في دراسته أو عمله لذهب بعيدا بدلا من عالم الاجرام الذي انغمس فيه وبالمناسة هذه السنة سيكون قد أنهى عقوبته السجنية في سجن سلا

    ردحذف
  3. ربما يستحق الشفقة، وربما لا.. وفي الأخير نال جزاءه.

    أجل، ففي متم هذه السنة سيكون قد قضى اثنا عشرة عاما في السجن، وهي المدة التي حُكم بها.

    تحياتي.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

بنت الدراز