مجنونةٌ زوجتي !


قصة قصيرة

منذ مُجادلة الأمس بيني وبين زوجتي، وهي في إضرابٍ مفتوح عن الكلام معي.. لا كلمة، لقد أضاعت النطق بغتةً، وهبط سكون معضلٍ في بيتنا. تكهنت أنّ صمتها زائل وثرثرتها عائدة لا ريب، فكيف لامرأةٍ أن تلوذ طويلاً دون أن تنطق؟ تالله ما ألفنا ذاكَ.. إنما خاب تنبُّئيّ، وعقيلتي تمضي ولسانها مصفّدٌ أمامي.

حتى رفعتُ الأعلام البيضاء عاليًا معلنًا الهزيمة، والإقدام على توقيع معاهدة الاستسلام، أمام قوّة زوجتي الهوادة.. فقررت التصرف وأخذ المبادرة لصلحها. في المساء عند رجوعي إلى المنزل بعد يوم عمل شاقٍ طويل؛ جئتُ بهديةٍ لزوجتي وعلى يقينٍ بفَناء صمتها هذه الليلة، وقد دقت الساعات لينطق لسانها بحلول الهدية، فتهادوا تحابوا. ألقيتُ السلام على زوجتي المطلة من الشرفة، ويدي اليسرى تخفي الهدية ورائي، ولم تبادلني التحية، مكثّت تُلقي بأبصارها إلى الشارع دون حركة، كدمية عرض الملابس، أو كأي شيء ثابت يستحضره البال.

- حبيبتي زوجتي كيف أنتْ؟ لقد أتيتُ لك بهدية!

كأن سمعها قد اقتفى أثر لسانها وغادراني إلى الأبد.. شعرت بالحنق للامبالاتها، فاعتراني الانزعاج.. وإذ بأحد أباليسّتي يُفتي عليّ رأيًا: "حاااا.. اضبرها بتلك الهدية في مؤخرة رأسها.. أجّل، فلتُقدّم على ذلك حالاً "

استدارت دون أن ترمقني، ومرت بمحاذاتي صوب مكان مجهول في المنزل، تاركة إيّاي أنتصب من فرط الذهول مما لقيتُ منها، في مشهدٍ لو رآه كلبي النائم في السطح، لضحك ملء أشداقه على صاحبه.

دُستُ - بانفعال - الهدية بين الملابس أعلى الدولاب.. فكرت أن بعد ما أقدمتُ عليه في التوّدّد إليها؛ فما عدت مذنبًا، وحلفتُ على نفسي أن لا أعيرها اهتمامًا، ولنعتّل معًا في جرف السكون هذا، فما ضرري يا زوجتي الصموت؟ فإن زوجك لم ينسَ بعدُ عشرته القديمة مع العزوبة.

مر يومين، وتقلّب حال زوجتي، من خلوة الصمت، إلى الاقدام على أفعال مُدهشة، فتجلسُ وحيدةً في البهو أمام تلفازٍ مطفي وتبصر في شيء مجهول يبدو لها لوحدها.. أتساءل مع نفسي، أجنّنتِ يا هذه؟

وقع ذات ليلة أن استفقت من النعاس، ومدّدت يدي لأُنير مصباح المنبه، وأستطلع أين وصل بي قطار الليل، فألقى عقارب الساعة تهرع لمعانقة الثالثة صباحًا، ثم لكأني أسمع صوت هرولة قادم من البهو! قمتُ من الفراش لأتبيّن الأمر، فظهرت لي امرأةً بشعرٍ منفوخ تهرول بين الأرائك في نصف ظلام، لطّف من وطأته شعاع قنديل الشارع الآتي من بعيد إلى النافذة.. فكرتُ أنّ بصنيعها هذا، تبتغي إخافتي، وعدتُ إلى نومي الجميل تاركًا زوجتي (عيشة قنديشة) تلك تُبدع في فليم رعب هزلي، ما كان ليهلعني، إن لم يُقهقهني.. إلا أنها واظبت في مسعاها في إرعابي بعد أيام من الصمت، فاستبدلته بمواصلة الإتيان بأفعال لا يقوم بها عدا فاقدي العقول.. فأستيقظ في الصباح لألقاها تحدق فيّ وقد اتسعت عيناها ولا ترمش بهما، حتى لون أبصارها مال للحمرة، وبهت محياها.. أحاول أن أتهاون لأفعالها، وإن كنت أُحِسُ بصرخةٍ في وجهها وقد بدأت تخنقني، حتى تستفيق من هذا الجنون.

أعود في المساء لبيتي، ومعي ما سآكله، فما عدتُ متزوجًا، فزوجتي المفترضة، تخوض - باندفاع - في غرائبها، بشعر مغبر أشعث، وملابس مهترئة، وأنفاس سريعة حارّة، تُهرول داخل البيت، فتختفي معظم الوقت، وتظهر على حين غرة، كأنها تلعب مع الأشباح.. تنام جنبي في السرير، ثم تختفي، وتظهر من جديد وترمقني بعيون لكأنهما تُضيئان في وجهي ومسكونتان بأمر مرعب! صوت ضمير يخاطبني: "هذه العيون، ليستا ذاتهما التي عشقت يومًا، فبُعد ما يكونان!" أصرف تلك الأصوات الكفيلة برّج حياتي، حتى ما عدتُ قادرًا على أن أتهاون؛ فأفكر، أكل هذا المجهود العظيم من أجل إخافتي؟ لقد أفلحتِ - حقًا - يا زوجتي بمرادك، فها قد بدأت أمارة الشعور بالريبة تأتيني! ففكرت فيما أصرف تصديقه، وأرتاب منه؛ تُرى أتكون قد جُنّت حقًا، وأنا - يا غافل - أؤمن أنها تتدعي ذلك؟ فما بدر منها، لهُوَ الجنون بدرجة فارس، فما عدتُ مصدقًا أن زوجتي تتقن كل هذا التصنع.. ضاق بي أمري والوساوس تنهال عليّ، ورأسي يغلي كقِدْرٍ، فأخشى أنهم زوجوني مخبلوةً ودّونوا اسمها إلى جانب اسمي في كنانيش الدولة! آهٍ يا مسكين أنا. قررت طلب أباها في الهاتف واستفساره عن ماذا حلّ بابنته؟ علّها نوبات جنون تنتابها، وهو على علم بها. 

 تركتُ زوجتي وهي تُشاهد تلفازًا مطفيًا في البهو - كعادتها - وردّدتُ باب غرفة النوم، ورفعت سماعة الهاتف لأتصل بوالدها.. تفاقمت نبضات قلبي مع تواصل الرنين "تووووت" ثم  صوت والد زوجتي في أذني يلقي عليّ السلام، وبعدُ عجلني بالكلام: 

- بالله عليك، كيف يُسّوغ لك خاطرك هذا الصنيع؟

فأصمت لأحاول أن أخمِّن - بإسراعٍ - ماذا يريد من كلامه.. أتكون زوجتي أطلعته عن خصامنا؟ فيردف: 

- أكثر من أسبوع، وزوجتك غاضبة في منزل والدها وما تزال، وأنت لا شأن لك بها، ولم تكلف نفسك حتى الاتصال لمعرفة أين استقرت حرمك؟!

وقفتُ كالمسعوق بلا اكتراث للمكالمة والعُتّاب الآتِ منها، وأحاول جمع شتات ذهني، وأن أستوعب ما يقعُ فلا أقدر.. لأستدير ناحية المنبه مخاطبًا إياه في أملٍ أخير:

 "رِّن أيها المنبه". 



تعليقات

  1. يا لها من نهاية صادمة ! أتخيل نفسي لو حدث معي هذا الموقف كنت سأهرب من البيت ههههه

    شادية ♡

    ردحذف
  2. وجدتني أفكر ماذا سأقوم به لو وقع معي نفس الموقف ؟ ربما أتهم نفسي بالجنون وأُكذب عيناي.. في كل الأحوال لن أقتفي أثرك في الهرب، لأنه بيتي ^^ فكيف أهرب من دمي؟

    سعدت كثيرا بأن أجد لك تعليقا جديدا بعد غياب.

    شكرا.

    ردحذف
  3. *في مشهد لو رآه كلبي النائم في السطح لضحك ملء أشداقه على صاحبه*

    ههههه أضحكتني هذه العبارة وعلى العموم قصة محبوكة جيدا بسيطة ومتقنة في سطورها قدرة عالية على التصوير الكتابي وبها لمسة لا يملكها سوى الكتاب المحترفين ، دائما أقرأ قصصك بهدوء حتى أستمتع بتوظيف الكلماتك التي تختارها بدقة ، وأشعر أنني محظوظ عندما وجدت مدونتك بصدفة ، ففي الحقيقة أستمتع كثيرا بقراءة مقالاتك وقصصك

    أتمنى لك التوفيق

    ردحذف
  4. أهلا بأخي العزيز علي بوطيب..

    تلك العبارة التي اقتبستَها؛ كلما أتخيل الموقف، ينتابني شعور بضحكة عالية يرد صداها صالون الجيران ههههه

    أشكرك جزيلا على هذه الشهادة منك، والتي أعتز بها كثيرا ومكلفّة جدا في الواقع لأني ما زلت أتعلم..

    وأنا كذلك محظوظ بقارئ مثقف مثلك، وممتن لتلك "الكلمات المفتاحية" التي قادتك إلى مدونتي^^

    بارك الله فيك.

    ردحذف
  5. أحببت كيفية إيصالك رسالة "ثمة شيء خاطئ" للقارئ. تضع حجراً ثم تبني عليه ببطء، وكلما ارتفع البناء، كلما زاد تأثير الرسالة، قم تنتهي باكتمال البناء ووضع القطعة الأخيرة لتكتمل الصورة كما حدث مع قصتنا هنا.
    أحببت "دماغ" بنصالح في كتابك قصص الرعب، وأحببت أكثر رؤية قصة أخرى بلون مختلف عما عودتنا عليه، لذا لا تحرمنا من المزيد.
    وهذه المرة سأعلق باسمي بما أنك كشفتني في المرة الماضية هههه

    ردحذف
  6. أهلا بصديقنا العزيز البراء..

    أحسنت.. فهكذا أريدها، أن تكون القصة مثل بالون ينتفخ وينتفخ حتى ينفجر ^^ أو في بعض المرات أحب كتابة القصص التي تبدأ بهدوء ثم ترتفع حتى القمة وتعود للهدوء في النهاية، وهذا الصنف فيه من الحزن والبؤس.. ولو شبهتها بالموسيقى، سأتذكر لحن نشيد الخيالة الروسي.

    دائما ما تستوقفني آراءك حول القصص، ففيها رؤية القراء الذين قرأوا كثيرا.. وأتمنى حقا أن يظل دماغ بنصالح على حسن ظنك ^^ وسعيد حقا برؤية اسمك في مدونتي يا صديقي، وهكذا إذن كنت تنتظر أن تُكشف لتضع لنا هويتك.. وهذا لا يجعلني أفتخر بأجهزة استخباراتي التي تأخرت في كشفك هههه

    تحياتي لك.

    ردحذف
  7. كنت أبحث في جوجل عن محاولة انقلاب 1971 المعروفة بانقلاب الصخيرات وصادفت مقالا كتبته وبهذا تعرفت على مدونتك وقرأت فيها مقالات أخرى واحتفظت بها في هاتفي وبالمناسبة لفت انتباهي في ردك على الأخ حديثك على قصص في قالب موسيقى نشيد الخيالة أو البداية بالهدوء والوصول إلى القمة في المنتصف والختام بالهدوء يعني قالب مثل الهرم . هل ممكن أن تعطينا مثال ما ؟

    ردحذف
  8. تقصد مقال "جمهورية اعبابو" للأسف فقد ترتيبه الجيد في جوجل بعد ذلك.. لكن لا بأس فقد أدى مهمته وجلب لنا قراء جدد، من بينهم أنت يا عزيزي، فمرحبا بك مرة اخرى، وأرجو أن يظل ما أكتبه يعجبك، وتتجاوز عني ما لا يرضيك. فيما يخص سؤالك، فسأضرب لك مثلا.. أهل قبيلة استبد بهم اليأس والحزن بعد أن طال بهم انظار عودة الجنود، الذين خرجوا إلى الحرب، حتى ذات يوم رأوا من بعيد الجنود وهم عائدين، فتعالت الصيحات والزغاريد، وبعد وصول الجنود إلى باب القبيلة؛ تبين أن عددهم قليل، وقد عادوا مهزومين.

    ردحذف
  9. شكرا أخي محمد هذا من أخلاقك الكريمة وأشكرك أيضا على المثال الذي أعطيته والذي يؤكد أننا أمام قاص بالقلم والمسطرة وعلى القارئ أن ينتبه جيدا وهو يقرأ لك لأن كتاباتك عميقة جدا

    ردحذف
  10. لعبة نفسية متقنة بدون جرعات زائدة في الرعب كأن الكاتب يعطي للقارئ قنبلة موقوتة ويقول له أنا لا أعرف ما يحدث أصلا هههههه
    ((رن أيها المنبه)) فعلا هذه الجملة هي الأمل الأخير عندما نقع في موصيبة ونتمنى أن نستيقظ هههه

    ردحذف
    الردود
    1. في الواقع لا أحبذ بهارات الرعب الزائدة.. أعجبني قولك أن الكاتب هنا سلم للقارئ قنبلة موقوتة ^^

      وللأسف المنبه لا يرن عندما نريد ذلك، يفعل فقط حينما لا نتمنى سماعه هههه

      شكرا على المشاركة معنا.

      حذف
  11. راقت لي كثيرا هذه القصة التي تذكرني بقصص الأدب الغربي القصيرة جدا ، والتي تعتمد على الغموض غير المباشر والصدمة في النهاية ، ولا زال قلمك يبهرنا أخي محمد

    ردحذف
  12. أهلا بصديقنا الوفي، الدحداح..

    سعيد أن القصة راقت لك.. وأتفق معك تماما، هذا أقرب إلى الأسلوب الغربي أكثر منه للعربي، وأستحضر الآن أسلوب الكاتب الإسباني رفاييل نوبوا في القصة القصيرة، فهو يعتمد على صدمة القارئ دون مقدمات.

    شكرا على هذه المشاركة الطيبة.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

بوتفوناست (صاحب البقرة)

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية

جاءتنا امرأة