ويُقال بأنّ...؟



(قصة قصيرة)

لقد تحقّق مُناي ورجاء طفولتي، أن أكون مُدرسًا، وإن لم تكتمل سعادتي.. هذا لأنه طُرِّح بي في  قريةٍ نائيةٍ بعيدة عن ملامح حضارة القرن الذي يعيشه العالم. قريةٌ معزولةٌ لا يُضيء لياليها عدا مصباح الله. هكذا يستّهل الأساتذة الجدّد وظائفهم في بلدنا: أن نُدّرس أبناء الوطن المنسي أولاً، الوطن الغير صالح. أن نتعلم تصّلق الجبال، والتّزحلق على الثلج، ويحدث أن نطهو فوق الخشب كما يفعل أسلافنا الأوليين، ولا يتبق لنا سوى ضرم النار باستخدام الحجارة. 

هنا في هذه القرية، حيث كل ما استطاع إليه حظي، التقيت بزميل سبقني إلى هنا بعامان.. نقطن معًا في منزلٍ مهداة لنا من أهل القرية الطيبين، وإن كان على ضفاف مقبرة مهجورة، فلا اعتراض لنا، طالما جيراننا هادئين متخمين بنوم سحيق، ولا يصدر منهم إزعاح ولا شكاة. أهل القرية يحدث أن يجلبوا لنا الطعام، ويقدروننا أية تقدير، فنحن من نُعلم أبنائهم ونُنير سُبلهم بالعلم والمعرفة، فقم للمعلم وفهِ التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا.. ومثال ياباني يقول: ابتعد عن المعلم سبعة أقدام، حتى لا تدوس على ظله. 
زميلي الأستاذ، خرج لتدخين بالخارج ولم يأتِ بعد.. لم يسبق أن تأخر هكذا.. ربما، لأن يوم غد عطلة، فقرر السهر عند أحد أصدقائه في القرية. ربما. 

طرقات عنيفة على الباب، ثم قمت إليه على مضض لفتحه، فألقى  زميلي وشريكي في السكن هو الخابط، تكفهرت ملامحي إليه معاتبًا إياه، مُتسائلاً، أين تخلى عن المفتاح الخاص به؟. لم يكترث للذي أقول له، فدخل بأنفاس مبهورة، مذعور، مُترنح، ثم طوّح بنفسه على أرائك البهو، فبدا ككلب مريض!.

- يا ذاك الأستاذ، هذه المرة الأخيرة التي تجعلني فيه أفارق فراشي لأفتح لك الباب، والوقت قد ناهز الثانية صباحًا، أضف إلى ذلك هذا الزمهرير اللاسع للأجساد.

يواصل صمته المُريب. يرمق السقف للحظات، ثم ينظر ناحيتي، وبعد هنيهة يطرق بأبصاره، وما تزال أنفاسه تتوالى بسرعة. ترى ماذا جرى معه في هذا الليل الشتائي؟. أيكون قد جُنّ؟. ضُرب على رأسه فلا يتذكر عدا محل إقامته؟. طرده رجال الدرك؟. اللصوص؟. الكلاب؟.

- أقسم إني رأيتها هناك.. ليس وهمًا، ولا حُلمًا.. ليتّه يكون. آهٍ، كم أرجو أن أستيقظ الآن. 

- ماذا رأيت يا هذا المتعوس؟.

- أشرب أولاً.. آتني شربة ماء، وأنر معك كل أضواء المنزل، وتحقق من إغلاق الباب والنوافذ.. أحكم موصدّها يا رفيقي، فما رأيتُه يُفْزِّع الأجنة في الأرحام!.

هل يقصد ما يقوله؟. أو خُبّل التعيس؟. أو أنا حالم لا أكثر؟. دعونا الآن من وضع التكهنات، حتى أجلب له شربة ماء، ثم نستطلع ما يجري في هذه الليلة الباردة، التي لا تبدو أنها على خير.

جلبت له كأس ماء من الصنبور، فلا ثلاجة في منزلنا، وعدت وكلي حماس وشوق لكي يحكِ لي؛ وما إن دلفت البهو، حتى تبيّنا مشهدًا جعل كأس ماء يسقط من يدي، وتناثرت شظايا الزجاج حولي. قلبي يخفق بسرعة كقنبلة تقترب من رقم الصفر. سارت في جسدي رعشة باردة شعرت بها، كأنها دخلت من رأسي وخرجت في أصابع أقدامي.. مصعوق أنا.. واقف كفاقد للوعي، حي وشبه ميت. كيف لي أن أستوعب ما أرى؟. وقد بدا لي كحلم يتداخل في الواقع.. لقد أضعت ما أحفظه من آيات القرآن والأذكار، لكن ما جدوى تذكرها الآن، فربما فقدت النطق!.

لقد تبيّن لي زميلي وقد خرجت مقلة عينه اليمنى من جحرها!. إنه في نفس المكان الذي تركته فيه، إنما هو ميت الآن لا ريب!. هكذا انتهت موجة الذعر التي أتته. فماذا كان الذي رآه؟. 

تراجعت بخطوات حثيثة إلى الوراء دون أن أستدير، ثم سمعت خبطات عنيفة على الباب!. 

بلاااق.. بلاااق.. بلاااق..

لم أجرؤ على الاتيان بشيء، عدا الصمت، وتخيل نفسي بعيد عن هنا، يحملني الموج مبتعدًا عن هذه القرية، إلى مكان لا فيه إلا الله. تتكرر الطرقات على الباب، ثم موسيقى مألوفة. الطرقات.. موسيقى.. الطرقات.. موسيقى.. حتى شعرت بعيناي تتيقظان، وبرطوبة في عنقي وجبهتي، وتعب شديد في كل جسدي، ففتحت عيناي على نغمات المنبه الذي يُعلن أن الساعة السابعة قد دقّت. وإن كان حلمًا، إنما لست على ما يرام، فتكرار أمثال هذا الحلم يراودني منذ قدومي إلى هذه القرية، حتى يُخيّل لي أنها ليست أحلمًا عرضية، فأكاد أشعر أن الواقع يتداخل مع أحلامي المُريبة، حتى غدوت أخشى من قدوم سواد الليل البهيم، إنه يحضر إليّ وخلفه رهط عيون لامعة.. إنه شيطان آتٍ يقصدني، في جعبته أحلامًا جديدة ترد لياليّ جحيمًا. المعضلة العظيمة لديّ، هي جهلي التام عن ماذا يجري معي؟. لا أعرف من هو خصمي، أهو إنس أو جان، أو أي خلق الله هذا؟. أتكون جيرتي للمقبرة السبب في مآسي نعاسي التعيس؟. أنا أستاذ لا يؤمن بتلكم الأشياء.. لكن اشتدت حيرتي وبلغ صبري أقصى مداه، فكرت كأني إبل تكسرت ساقه في منتصف جبل، فوضع أحماله واستلقى إلى جانبها.. فماذا ينتظر؟. أن ترى الناس قادمون يحملون السواطير، يهمون على هشم اللحوم وتفريقها على المتأدبين.

في ذات الوقت، غيري يُغني لِليلى في ليله، وآخرون يبثون هوائهم مع النجوم والقمر إلى حبائبهم؛ وأنا هنا ليلي لا قمر ولا نجوم.. ليلٌ هذا يشهر بوحشته ويقابلني بكل جزعه، إن أغمضت عيناي ومرادي الاسترخاء من تعب النهار، حتى يُعلن فيلم رعب آخر تدور رحاه في منامي!. أرى مُقّل عيون منزوعة من جحورها وقطط تلتّهما، صراخ طفل مجهول آتٍ من مكان ما....... حتى يرن المنبه معلنًا انتهاء دوام فزعي الليلي.  

في حجرة الدارسة، أتجشم نسيان أهوال ليلي.. فماذا عن تلاميذي...؟ هم غرباء عني، أشعر كأني أُدّرس أطفال قادمين من قبل التاريخ، نظراتهم إليّ تجعل برودة تسري في جسدي، آبائهم لا يكادون ينطقون أمامي، وأمهاتّهم لا تُرى ملامحهن، هن يرتدين ملبسًا تقليديًا قد يُغطي الوجه. ثلاثة أشهر هنا، انقضت كما تنقضي السنون، ففيها لا يتراءى لي، عدا ظلال سحاب داكن مثقل بالكآبة، تجعلني أشعر كأن جسدي يزن زنة الأطنان، حتى حلّت العطلة والعودة إلى مدينتي حيث قدمت.. هناك فكّت الكوابيس أسري، فما عدت أرى في منامي ما يسير له عرقي، حتى آن وقت العودة إلى القرية، فقررت أن أصطحب معي روحانيًا قيل عن قدراته الشيء الكثير، علّه يفلح في فعل ما يطرد عني مأساة أمسياتي. ونحن في سبيل القرية، بدا كأنه تغير ولا يبدو كما تركته، فوجدت الروحاني يتساءل بتعجب: أأنت تظن حقًا أن هذا السبيل يفضي للقرية التي تُدّرس فيها؟". 

- ربما. 

- إن هذا الطريق لكأن قدم إنسان لم تطأها منذ زمن بعيد.

في سبيلنا، صادفنا رجل تعجب لرؤيتنا.. رجلٌ  محياه يوشي بأنه قد إعتزل عشرة الناس، وسألناه عن القرية التي ربما حدث وتهنا عن سبيلها، إذا كان يعرف أي طريق يصل إليها.. فقال وهو يشير بإصبعه إلى جبل: "إن هذه قرية توجد خلف ذاك الجبل". ثم أردف بفضول بادٍ عليه: "ما غرضكما  في تلك القرية؟ إنها مهجورة، ويُقال بأنّ...؟ 


تمت

تعليقات

  1. لقد قمت بمزج أشياء كثيرة رعب وتشويق وحالة إجتماعية وكانت النتيجة قصة قصيرة جميلة مخيفة غامضة أبدعت أخي محمد

    ردحذف
  2. أرجو ان تكون قد استمتعت بقراءة القصو.

    شكرا لك.

    ردحذف
  3. لقد نجحت في إخافتي وجعلتني أتصور الموقف

    ردحذف
    الردود
    1. أسعدني ذلك، شكرا لك.. وأعتذر عن التأخر في الرد، فلا أعرف أين كنت نائما؟

      حذف
  4. أكثر ما سعدت برؤيته في هذه القصة، هي كتابتك للون جديد، وانظر كيف خرجت لنا، هذا يثبت أن لديك المقومات لكتابة أي شيء تريده.
    قصة جميلة بأسلوب تشويقي لطيف. أنصفت قلمك.

    ردحذف
    الردود
    1. سعدت حقا لتعليقك المحفز، وإن شاء الله نكتب لبقية الألوان^^

      شكرا لك

      حذف
  5. ياسين الرامي9 مايو 2021 في 12:15 ص

    هذه القصة لمست شيئا في داخلي لأنها تدور عن مهنتي وكم جعلني المثل الياباني عن المعلم أشعر بالفخر وأثرت نقطة تستحق الوقوف عندها طويلا وهي إرسال الأساتذة الجدد إلى القرى البعيدة !! ما رأيك أنت ؟ واستوقفتني هذه العبارة (فكرت كأني إبل تكسرت ساقه في منتصف جبل، فوضع أحماله واستلقى إلى جانبها.. فماذا ينتظر؟. أن ترى الناس قادمون يحملون السواطير، يهمون على هشم اللحوم وتفريقها على المتأدبين) ماذا تقصد بالمتأدبين؟

    جميلة ومتقنة لكن ليس أفضل ما كتبت من حيث القالب رغم أن الحلم لم يظهر في القصة تقليديا لكن صنعتك واضحة

    ردحذف
  6. حقّ لكم الفخر يا مربيّ الأجيال.. عن سؤالك أقول، أن الواضح أن للأمر أقدمية، ويحدث أيضا مع الجيش والدرك.. فالجديد يُذهب به إلى مناطق نائية، مثلا الدركي الجديد سيمر من الصحراء في الأغلب، كأن بعد التخرج يلزمك المرور أولا من الأصعب، وهذا ليس له تفسير آخر يا سيد رامي^^

    ذلك التشبيه فكرت فيه وأعجبني، "إبل كُسرت ساقه عند منتصف جبل، فوضع أحمال واستقلى إلى جانبها". تأملها قليلا، أليس المنظر قاسيا ويدعو للحزن والشفقة؟ إذن هي حالة بطلنا، لا يدري ماذا يقدم أو يؤخر؟ هو شيء يفوق كل الحلول التي تسقط في مخيلته. والمتأدبين، ينتمي إليهم البطل في خيالي، وأحماله سيرثها غيره.. لكن العبارة ليس هكذا تفسيره بالدقة، لأني وبينما أكتب هذه الكلمات، تبدو الآن في زواية مختلفة.

    كم يزعجني أن تنتهي قصة ما أو فليم بالإستيقاظ من الحلم ! لهذا انتبهت منذ البداية لهذه النقطة التي أنفر منها أساسا، وحاولت إخراجها من النمطية. ولو يا سيد ياسين أنها ليست الأفضل، لكن نعتز بشهادتك حول الصنعة.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

بوتفوناست (صاحب البقرة)

ايسلي و تسليت .. أسطورة العشق الأمازيغية

جاءتنا امرأة