المخزن : لفظٌ يتأرجح بين مخازن السلطان ومعركة وادي المخازن

سلسلة نفحات من مملكة - 3 - 


وأنا صغير، يُخيّل إليّ كلما أسمع "المخزن" رجلٌ عملاق بطول الجبل،  يرتدي بذلة أمنية، ويجلس على كرسي عظيم يبرق فيه ذهب مرصوع. يُشير بإصبعه فيهرع الجميع للتنفيذ. ذاك المخزن في مُخيّلتي الصغيرة. 

المخزن.. لفظٌ يُطلق - أحيانًا - على الطبقة الحاكمة في المغرب، حتى أنّه قديمًا يسمى قصر السلطان "دار المخزن". كذلك هو لفظٌ شعبيٌ متداول، "المْخْزْنْ" (بسكون جميع الحروف) بالدارجة المغربية، ويقصد به الناس، خدام الدولة، وفي الغالب رجال الأمن، سواء الشرطة أو الدرك وكل ما يدور في فلكهم. وقد تسمع في المغرب عبارة، "فلان يشتغل مع المخزن"  أي  أنه يعمل مع الدولة في سلك السلطة، لكن فئة شعبية أخرى لا تحصر المخزن في السلك الأمني فقط؛ بل تربطه بكل ما يتعلق بالدولة. وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال مُلّح: ما دلالات المخزن، ومن أين جاء؟ وقد نبدأ من نهاية الجواب، ونقول أن "المخزن" في الأخير هو لفظ غامض - فيما يظهر عليه - وليس له الجواب المطلق ليشفع للسائلين، ويضع الحد لكثرة السبل التائهة في ربط المخزن بهذا وذاك، لكأنه وهم وحقيقة في آن واحد، وهنا نستحضر الكاتب الفرنسي إتيان ريتشي، الذي وصف المملكة المغربية في القرن التاسع عشر، كزمجرة طنجرة ما وراء جبل طارق، لكن لا أحد يعرف ما يوجد فيها. مقولة ريتشي قد تسقط كذلك على لفظ المخزن، وكيف ارتبط بمركز السلطة في الدولة المغربية، وصاحب المغاربة ما يفوق ستمائة عام.

السلطان الحسن الأول في زيارة لمدينة طنجة عام 1889

سنبتعد عن اللفظ الشعبي ودلالاته الأمنية، ولنلقيّ نظرة على ما قيل عن المخزن، حيثُ يُعتقد أن المخزن هو السلطان أو الملك حاليًا، أي حاكم الدولة وممثلها الأسمى. ورواية أخرى ترى أن المخزن ليس حكرًا على شخص الملك، بل يُضاف إليه رجال الدولة، أي المحيطين بالملك، فيما يُعرف عليه مفهوم الدولة العميقة. في تأويل آخر يذهب البعض أن المخزن هو مجموعة من أشخاصٍ مفوضون من القصر ويسهرون على شؤون الدولة، أي الحكومة في زمننا هذا. إلا أن هناك فريق لا يربط المخزن بالأشخاص كيفما كانت مكانتهم؛ بل بمراكز وهياكل الدولة، ومن يديرونها، هم خدام المخزن. 

 وبعيدٌ عن دلالات المخزن ومقاصده، سنصل إلى موضوعنا من هذه الأسطر، وهي أصل التسمية، ولو حاولنا  فهم جذور اسم المخزن وكيفا أتى؛ فعلينا بداية التّرفع عن الخوض في اجتهادات البعض ممن يضعون تكهنات تفتقد لخلفيات تاريخية، لنصل إلى حكايتين هما الأرجح تاريخيًا لميلاد المخزن في مركزية السلطة المغربية، وفي كلا الحكايتين،  فإن تداول اسم المخزن ضارب في عمق التاريخ. الحكاية الأولى تستند إلى مفهوم المخزن في اللغة العربية، وهو مكان تخزين، آتية من "خزن" وهنا  نتوقف عند مخازن السلطان قديمًا، لنسّتوعب أننا اقتربنا من إدراك كيفية مجيئ المخزن. لقد كان في المغرب مخازن توضع فيه الذخائر من الضرائب والأعشار والزكاة، قبل أن تذهب لبيت المال، وتُدعى "مخازن السلطان"، ولهذه المخازن حُراس، وهنا جاء لقب المخزني، أي حارس المخزن، ثم استّمر اللفظ مع تعاقب العصور، رغم اندثار مخازن السلطان، لكن ارتبط بكل ما يسهر على أمن الدولة فيما بعد. هذه الرواية تبدو الأقرب لكشف مجيئ لفظ المخزن، إلا أن هناك خلفية تاريخية تُبعد المخزن عن مخازن السلطان، وهي في الرواية الثانية، أن بداية تداول المخزن كان قبل ستة قرون، وهذا متفق عليه من قبل المؤرخين،  تحديدًا في بداية حكم السعديين، الذين كانوا أول من استخدم اسم المخزن، حيث أُطلق على حدود الدولة المركزية الخاضعة للقانون تحت سلطة العاصمة فاس، "بلاد المخزن" بينما القبائل والمدن المتمردة كانت تُعرف "بلاد السيبة" أي أرض الفوضى، بالدارجة المغربية. واعتماد السعديين على لفظ المخزن، جاء تيمنًا واعتزازًا بمعركة وادي المخازن، التي هزم فيها المغرب البرتغال وحلفائه في عام 1578م في بداية العهد السعدي، بقيادة السلطان أحمد المنصور بالله، أحد عظماء ملوك المغرب، ولُقب كذلك، بالمنصور الذهبي، بعد الانتصار التاريخي على الامبراطورية البرتغالية في معركة وادي المخازن وانهيارها على يد المغاربة، وسميت المعركة كذلك، بمعركة الملوك الثلاث. ومن هنا بدأ اسم المخزن يتداول في عهد أحمد المنصور بالله، ويطلق على رجال الدولة في المغرب، ويقصد منه، المنتصرون. ويذكر أن السلطان أحمد المنصور بالله، كثير الافتخار بمعارك السعديين، فقبل معركة وادي المخازن، جرت معركة طاحنة بين المغاربة والعثمانيين، وسُميت معركة وادي اللبن عام 1557م،  أجهز فيها المغاربة على حلم العثمانيين لاحتلال المغرب والوصول للمحيط. لكنه استّقر على لقب المخزن، ليحفظ معركة وادي المخازن، وليشهد على انتصاره على البرتغاليين في معركة كان المنصور الذهبي يحمل سيفًا فيها.

تلك روايتين، الأرجح أن إحداهما تكمن فيها بداية المخزن في المملكة المغربية، وإن اليوم لا وجود لشيء ملموس يُدعى "المخزن" في المغرب، باستثناء بنايات قديمة ظلت محافظة على اسمها القديم "دار المخزن"  أو تداول شعبي وربط المخزن برجال الأمن. فإن الدولة لا تعتمد هذا اللفظ الذي شُهد لآخر مرة أو سُمع به قبل قرن من الزمن.

تعليقات

  1. عبد الرزاق ايدر21 أبريل 2023 في 7:52 م

    السلام عليكم
    أولا عيد مبارك سعيد وكل وأنت بخير أخي محمد ،
    مقالك هذا تنطبق عليه مقولة ما قل ودل ، وبرأيي أعتقد أن المخزن له ارتباط واضح بمخازن السلطان ، لهذا أرجح الرواية الأولى

    تحياتي.

    ردحذف
  2. عليكم السلام.

    أعتذر اخي عبد الرزاق عن التأخر في الرد، فلم أنتبه لتعليقك إلا الآن. ولا اعرف حتى كيف أرد تبريكك لي العيد، فقد مرى بأسبوع تقريبا ^^ عموما بارك الله فيك أخي، ويسعدني دائما أن أجد تعليقاتك في مدونتي. وعن رأيك، فالكثيرين متفقين معك فيه، لأن الرواية الأولى هي الأكثر تداولا.

    ردحذف
  3. لأول مرة أجد من يتحدث عن ربط المخزن بمعركة وادي المخازن ؟؟ ربما لأنني لست جيدا في التاريخ ههههه وفي الحقيقة أرجح الرواية الثانية تبدو لي الأقرب والله أعلم.
    ومن الجيد أن أجد لك جديدا بعد غيباتك المتكررة.

    ردحذف
  4. أُسعدت بهذا التعليق منك أخي بوطيب.. وإن شاء الله الجديد موجود رغم الاختفاءات ^^

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-