كارولينا أولسون : المرأة التي نامت 32 سنة !



ويحدثُ أن نهوي إلى فراشنا، ونتمنى أن نخوض في نوم بلا ختام؛ لكن ختامه - في الغالب - يكون صوتَ مُنبهٍ يُشعرنا بالتّذمر عند فراق الفراش، والعودة إلى الحياة التي نعرفها. فكم أملتُ أن أطيل في النعاس، ثم عزمت على ذلك، حتى تخونُني عيناي وتتيقظان من رغبتهما. فكرت: من هذا الذي يقدر على إطالة أمد نومه حتى يغسل تعب بدنه ونفسه؟ في التاريخ سمعنا قصصًا كثيرة لأناس ناموا لمدة خارقة من الزمن دون إرادة منهم، وأشهر ما تستحضر ذاكرتنا؛ نلقى أصحاب الكهف. إنما دعونا من الكهف وأصحابه، ولِنُلقي نظرة على قصة حديثة وموثقة لفتاة نامت لأزيد من ثلاثة عقود، تحديدًا، 32 سنة وهي على مقربة من الحياة والموت في آن واحد، وتُدعى، كارولينا أولسون.

كارولينا أولسون في طفولتها

وُلدت كارولينا أولسون، في خريف عام 1861 في جزيرة صغيرة نائية جنوب السويد، تُدعى، أوكنو، لعائلة فقيرة تعيش على مهنة صيد الأسماك، ولها أربعة إخوان. كانت الطفلة نشيطة تُحب الحياة ويطبع تصرفها حس المغامرة، حتى يوم 22 شباط من عام 1876، وقد اكتسحه بياض الثلج، وارتدت الجزيرة لحافها الأبيض الشتوي، وبينما كانت كارولينا ذات الأربعة عشر عامًا عائدة من المدرسة، وفي طريقها ستسقط في بركة ماء كانت تحجبها الثلوج، ولحسن حظ كارولينا، فقد حضر الشهود لتلك الحادثة، وسارعوا لانقاذها من الغرق، وقد أفلحوا في استخراج الطفلة من البركة سالمة دون أي جروح حتى، لكنها ستشعر بألم في رأسها وكذا في أسنانها، مع ذلك ستقضي يومها بشكل طبيعي، حتى جاء ليل لن يجله نهار، ليلٌ خالدٌ لن يطلع عليه الفجر إلا بعد مرور 32 سنة!

منزل عائلة أولسون

بألم من فكها، هوّت كارولينا أولسون إلى الضفة الأخرى من الليل، وأغمضت عيونها لتنام نومة هنيّة ستطول طول الأزمنة. في الصباح تفاجأت أسرتها من تأخرها في مفارقة الفراش والاستيقاظ، حاولت العائلة ايقاظ الطفلة، فلم تُفلح، كأنها انتقلت من هذه الحياة، إنما هي تتنفس بشكل طبيعي، وقلبها ينبض معلنًا مقام الروح في هذا الجسد الصغير الذي يخوض في نوم بلا هوادة. مر النهار وأتى ليل آخر ورحل بدوره، ونعاس كارولينا متشبث بعدم الرحيل. لقد استنفدت العائلة كل الطرق ليوقظوا ابنتهم من نومها؛ رشوا عليها الماء، وخزوها بالإبر؛ ثم لا جديد، نعاس كارولينا بدا كأنه شقيق الموت، ولم يبق عدا عرضها على الطبيب ليدلي بدّلوِه إن كان له دلْوًا يناسب ثقل هذا النعاس الذي هبط بغتةً على عيون كارولينا. ولأن لا طبيب في الجزيرة، والأسرة فقيرة وليس بمقدورها إحضار طبيبًا إلى الجزيرة؛ فقد مدوا أهالي الجزيرة يد المساعدة وجمعوا ما يكفي من المال واستدعوا الطبيب إلى منزل كارولينا للنظر في حالتها. حضر الطبيب، ولم يُدرك أي تفسير لحالة الطفلة كارولينا، سوى أن صحتها جيدة، ولا تُعاني من أي مرض، وقرر متابعة حالتها الغريبة.

واصلت الطفلة كارولينا أولسون المكوث في نومها دون ضجر، بينما والدتها إلى جانبها في انتظارٍ مُضنٍ متى تفتح عيونها، وإلى أن يتحقق ذلك؛ كان على الأم تزويد ابنتها بالطعام حتى لا تقضي جوعًا في نعاسها. وقد يسأل سائل: كيف ستأكل كارولينا وهي في نومتها الشبه أبدية؟ في الواقع لن تقدر كارولينا على مضغ الطعام والتهامه، لذا انحصر الطعام الذي تُجهزه والدتها لها، في السوائل، تحديدا الحليب الممزوج بالعسل، ليُسكب بلطف من فمها مرورًا إلى معدتها حتى تُحفظ نسمة الحياة في جسد كارولينا، وهكذا مرت سنة كاملة دون أن تستيقظ الطفلة من النوم، وقد استنتج الطبيب الذي يتبع حالتها؛ أن نموها ظلّ طبيعيًا ولم يتوقف، باستثناء شعر رأسها وأظافرها، فلم ينموا منذ أن ارتمت لآخِر مرة في سريرها، كأنهما فارقا الحياة دون بقية أجزاء جسمها. كذلك لوحظ أن كارولينا يحدث أن تنهض من السرير وتأخذ وضعية الجلوس بعيون مغلقة، ثم تتفوه بكلمات مغمغمه، قبل أن تعود إلى وضعها السابق وتستلقي في زنزانة نومها، كما أن وزنها لم ينخفض برغم أن الطعام الذي يصل لمعدتها لا يزيد عن السوائل التي يطغى عليها الحليب.

ستمر سنوات أخرى، وكارولينا أولسون خليلة نعاسها، الذي شق طريقه بنشوة إلى الجرائد السويدية، ليستدعي الشهرة إلى جزيرة فقيرة تقبع جنوب السويد، حتى تدخلت هيئة كبار الأطباء في السويد، بعد إبلاغهم من طبيبها الخاص الذي اقترح علاجها بالصدمة الكهربائية في أمل أخير لنزعها من مخالب النوم، وقرر الخبراء إلقاء نظرة على "الجمال النائم" * في نسخته الحقيقية، كان ذلك عام 1892 حيث تم نقل كارولينا أولسون إلى مدينة أوسكارشامن، لتمكث في المستشفى لعدة أشهر، ووصل الأطباء إلى استنتاج واحد، على أن كارولينا تعاني من أحد أنواع الشلل المرتبط بالخرف، وأن حالتها لا تستوفي شروط الغيبوبة. وفي النهاية نصح طبيب كارولينا عائلتها بإرجاع ابنتهم إلى المنزل، فلا أمل هناك لعلاجها، عدا انتظار قدوم معجزة واستيقاظ الشابة أولسون.

ما تبقى من عرس الغرابة، سيكتمل في حكاية الجمال النائم الحقيقي، بعد أن دخلت كارولينا في نوبة بكاء في اليوم الذي رحل فيه أحد أشقائها، كأنها تبكي موت أخيها، وستُكرر نفس الفعل عام 1904، بعد رحيل والدتها دون أن يتحقق أملها في استيقاظ ابنتها النائمة منذ سنين متعاقبة. بعد ممات الأم، ستستعين العائلة بمدبرة منزل حتى تعتني بكارولينا كما كانت تفعل والدتها، وتحضر لها طعامها الخاص الذي أبقى على روحها منذ عقود. بعد سنوات أخرى، أي في عام 1907، سيموت اثنين من أشقاء كارولينا غرقًا، بعد أن انقلب بهم القارب، عام بعد ذاك، أي في يوم 14 أبريل سنة 1908، ستدخل الخادمة غرف كاورلينا، وستجدها مستيقظة وهي تبكي بعد أن ألقت نظرة في المرآة ليُطل عليها شخص لا تعرفه. لقد استيقظت كارولينا أولسون أخيرًا، ليُطلِّقها النعاس بعد 32 سنة من العشرة، دون أي مضاعفات، كأنها نامت لليلة واحدة وليس منذ 1876. فتحت عيونها على عالم لم تره منذ أزيد من ثلاث عقود، منذ كانت طفلة في ربيعها الرابع عشر، واليوم تبلغ 46 عامًا، قضت من عمرها ثلاث أرباعه في النوم، وملامحها لا يظهر عليه أنها في أواخر العقد الخامس من عمرها، بل شابة في العشرينات.

كارولينا أولسون بعد استيقاظها

كان أول سؤال وُجه لكارولينا أولسون: بما كنت تشعرين طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة من النوم؟ تقول كارولينا، بأنها كانت تعيش في حلم غريب، وترى فيه وجوه زرقاء تحت الماء، ولم تقدر على تذكر ملامح تلك الوجوه، عدا أنها كانت تشعر كأنها تغرق معهم، ولم تكن تظن أن نعاسها دام كل هذه السنوات.


حلم كارولينا فسره البعض، على أنها شعرت بموت إخوتها، الذين قاضوا غرقًا. وفريق آخر، يرجع الحلم إلى حادثة كارولينا في طفولتها بعد أن سقطت في بركة ماء. في النهاية استيقظت كارولينا، وهذه هي الحقيقة الوحيدة الماثلة أمام الجميع، واضعة نقطة النهاية لنعاس دام 32 عامًا، إحدى عشر ألف وسبعمائة وثلاثين يومًا. هي أطول نومة موثقة بالشهود والأطباء، الذين لم يجدوا تفسيرًا منطقيًا لحالة كارولينا أولسون، سوى ادعائهم أن مرضًا غريبٌ أصابها، وجعلها تغلق عيناها في شبه نعاس طيلة ما يزيد عن ثلاثة عقود.

كارولينا في آخر أيامها

في عام 1950 توفيت إحدى مشاهير النوم في التاريخ، كارولينا أولسون، بعمر 88 عامًا، ليرحل الجمال النائم، إلى نومة أخرى، التي ستُدركنا  جميعًا.

وكالعادة، كان ولا مرد من سهام التشكيك تُرمى على أشهر من خلدت للنوم في تاريخ السويد. ففريق يرى فيما يراه أن قصة نوم كارولينا أولسون لا تعدوا كونها حكاية شبه خرافية، لخلوها من المنطق في عدة أوجهٍ مما يُزعم عن 32 سنة من النعاس الذي حظيت به كارولينا أولسون، ويعتقدون بوجود تواطؤ من عائلتها. لكن هذا الفريق المشكك يقف مترنحًا عند تعرض كارولينا للعلاج بالصدمات الكهربائية، فهل يعقل أن الأطباء كذلك متواطؤون، حتى تخرج لنا حكاية الجمال النائم إلى رقعة الحقيقة؟

ومع حكاية الجمال النائم وأبعادها الحقيقية؛ نتذكر البشاعة النائمة، من طاب لهم النوم في البرلمان، بعد أن أنهكتهم وفرة الوعود التي وزعوها يمنة ويسرة.

 


* "الجمال النائم"
- حكاية خرافية من تأليف الكاتب الفرنسي شال بيرو عام 1697


تعليقات

  1. استمعت كثيرا بقراءة هذه القصة كأنني أشاهد فليم من صنف الغرائب وأعتقد أن القصة حقيقية وتشبه حالة ما من الغيبوبة ولله في خلقه شؤون أما الخاتمة فقصف أرض جو بحر هههههههه لديك حس طرافة مدمر
    البشاعة النائمة ههههههه

    مع أطيب التحيات

    ردحذف
  2. أهلا بالأخ رشيد..

    معك حق، القصة ليست مستعصية عن التصديق، خصوصا لكثرة الشهود عليها، والله أعلم ^^

    فيما يخص الخاتمة، فهي شر البلية الذي يُضحك.. وطبعا ذاك نوم بشع، أو حتى لا نظلمهم، فربما ناموا في البرلمان ليرتاحوا قليلا من فرط تفكيرهم بهموم المواطنين، ربما.

    تحياتي.

    ردحذف
  3. عبد الرزاق ايدر11 أكتوبر 2022 في 9:36 م

    دائما ما اتحمس لقراءة المقدمات التي تضعها لمقالاتك وايضا الخاتمة الموسمومة ب (كلمة) واللون الاحمر لكن هذه المرة الخاتمة مختلفة تماما الكوميديا السوداء تتحدث عن نفسها هههه وعن المقال فهو راااائع ابداع في سرد القصة برااافو ومسكينة كارولينا نامت كل شبابها سبحان الله

    ردحذف
  4. يسعدني ذلك أخي عبد الرزاق.. على أمل البقاء عند حسن الظن، وكما ترى هذه المرة في الخاتمة ألقيت فيها نظرة على ذو الألسنة التي تُطلق الوعود قبل أن ينام أصحابها في المجاز وحتى بمعنى الكلمة هههه

    إن كانت قصة كارولينا حقيقية، فوالله صعبة جدا.. لو سألها أحدهم عن شباببها، ستجيب: قضيته في المنام!

    ردحذف
  5. مقال رائع كما العادة منك يا محمد .

    حسنا .. شخصيا أصدق القصة، فلا يمكن أن يكذب كل هؤلاء الشهود . لكن حرام كارولينا ضاع عمرها و شبابها في النوم . وأنا التي كنت دائما أتمنى نومة طويلة الأمد . لكن طبعا ليست للأبد😂

    من الآن فصاعدا لن أقول إن شاء الله نومة أهل الكهف، بل إن شاء الله نومة كارولينا أولسن ، على الأقل دعوة قابلة للتحقيق😂

    تحياتي لك👋

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا وفاء..

      نعم ضاع شبابها، أو ربما نامت وارتاحت من مصاعب الدنيا، هذا جانب آخر ممكن ^^ لكن لمجرد التفكير بأن خيط عمرها قُطع في 14 والتُصق ب47؛ فإن الأمر محزن مخيف!

      لا عليك يا وفاء، كلنا سننام نومة طويلة الأمد، أو طويلة الأبد هههه ونرتاح بين ظفرين.

      نعم أحسنت بدعائك، فأهل الكهف يبدو من المستحيل تكرار إنجازهم ^^ لكن كارولينا، ممكن دعوتك تلحق هههه

      شكرا على مرورك.

      حذف
  6. السلام عليكم
    اعذرني في الخروج عن الموضوع ، فقط أردت سؤالك عن الإعلانات هل تأتي بأرباح جيدة وما هي الشروط الذي يجب أن تستوفيها المدونة قبل أن تعرض الإعلانات لأنني أريد إنشاء مدونة وعرض الإعلانات عليها وشكرا مسبقا

    ردحذف
  7. عليكم السلام..

    في الحقيقة يا سيد مراد، لا أدري إن كانت تجربتي مع الإعلانات ستفيدك أو لا.. المهم أدعوك لتواصل معي عبر البريد التالي.. bensalahsimo018@gmail.com

    ردحذف
  8. قصة عجيبة !! كيف أمكن لها أن لا تتأثر بكل هذه السنوات من النوم وتستيقظ دون مضاعفات ؟؟ على العموم ممكن أن تنام لسنوات طويلة بشكل يشبه الغيبوبة لكن عدم تأثيرها هو الغربيب .
    مقال رائع كالعادة مع عدم الإجتهاد في العنوان هذه المرأة

    ردحذف
  9. قصدت هذه المرة وليس المرأة ههههه

    ردحذف
  10. أهلاً بعليٍ ^^

    لقد أشرت إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي عدم تأثرها صحيا بنوم دام لجيل كامل! وللأمانة، هنا توقف المشككين كثيرا.. إنما قد نجد لها مخرجا، وهو أن أسرتها تقوم بتحريك أطرافها، أو حتى جعل تجلس والله أعلم. الشيء الذي أزعجني أكثر في هذه القصة؛ هي تضارب المعلومات في عدة مصادر، من كتب أنها نومتها بدأت في نفس يوم الحادث، وهناك من أرجع ذلك إلا وقت لاحق.

    لا يا سيد علي، هناك اجتهاد في العنوان، وهو أن غالبية المصادر العربية، كتبت "أولسن" وأنا أضافت واوًا، فصارت (أولسون) ^^ أليس ذاك اجتهادًا؟ ^^ وذلك الواو المبارك ساعد في جعل المقال يظهر في الصفحة الأولى لجوجل بعد يومين من نشر المقال.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

تازمامارت .. أحياء في قبور !