المحجوبي أحرضان .. المتمرد الأمازيغي



في يوم 15 نونبر 2020، مات المحجوبي أحرضان، في عمر التسعة وتسعين عامًا، قضى منها الثمانين في المشهد السياسي المغربي، منذ صموت مدافع الحرب العالمية الثانية. أحرضان، الرجل التقليدي البدوي ذو العمامة والجلباب؛ فيوحي لمن ينظر إليه، بالبساطة والكثير من الوّد.. الرجل الذي عاش في عهد أربعة ملوك، من مولاي يوسف، إلى محمد السادس.

المحجوبي أحرضان، مواليد عام 1921 في قرية أمازيغية تدعى أولماس، في جبال الأطلس الكبير وسط المغرب، لعائلة ميسورة ذات نفوذ في المنطقة، الذي جعل نجلهم المحجوبي بعد حصوله على الثانوية العامة، يلتحق بالمدرسة العسكرية المرموقة "الدار البيضاء" في مدينة مكناس، وتخرج منها عام 1940 برتبة ضابط ممتاز، وكان من بين المشاركين في الحرب العالمية الثانية مع الجيش الفرنسي، لكنه سرعان ما أصيب في الحرب وعاد للمغرب، فتزوج من فرنسية من عائلة بورجوازية، وتم تنصيبه قائدًا على منطقة مسقط رأسه في أولماس عام 1949.

أحرضان التلميذ، في صورة نادرة له في المدرسة العسكرية، ثلاثنيات القرن الماضي

 إثارة الجدل بدأت لدنّ أحرضان أثناء نفي الملك محمد الخامس عام 1955 إلى مدغشقر، حيث اتهم لاحقًا بأنه كان من بين الموقعين على وثيقة إزاحة الملك بتواطؤ مع فرنسا وتنصيب ملك جديد لا علاقة له بالعائلة العلوية التي تحكم المغرب منذ أربعة قرون، فكان الملك المفترض هو محمد بن عرفة.. هذا نفاه أحرضان، وأنه ما كان من الموقعين على وثيقة العار كما سماها، وهذا الاتهام مصدره واحد، ألا وهو ضابط المخابرات المغربية أحمد البخاري، الذي وصفه أحرضان، بعميل خصومه، وقد جعلوه يهاجم المحجوبي ويستهدفه في مقتل؛ أي الخيانة في أقبح صورها.. بينما الذي حدث، فقد رفض أحرضان التوقيع لأجل نفي الملك، ولهذا جردوه من منصبه، وانضم منذئذ إلى المقاومة المغربية ضد التواجد الفرنسي في المملكة. أكان ذلك صحيحًا؟ غير الله لا يعلم أحدًا حقيقة ما جرى، إلا أن ضابط المخابرات الذي اتهم أحرضان بالخيانة، لم يأتِ ولو بدليل واحد، ولا أحرضان نفسه فعل، لكنه يعود لتاريخ لإنصاف نفسه، فقد كان من بين رجال السلطة الذين كرمهم الملك محمد الخامس عند عودته من المنفى واستقلال المغرب عن فرنسا عام 1955، وتم تعيينه في منصب مرموق، وهو عامل على عاصمة المغرب، الرباط. إلا أنه لم يستمر في منصبه طويلاً، ففي أواخر الخمسينات، كان المغرب على صفيح ساخن، فلم يتفاهم القصر مع أعضاء جيش التحرير، الذين رفضوا استمرار من وصفوهم بخدام الاستعمار في السلطة، ومن بينهم صديقنا المحجوبي أحرضان، وصديقينا القديمين، أوفقير والدليمي، وغيرهم من رهط رجال خدموا فرنسا أثناء الاستعمار.. لكن المحجوبي ينكر ذلك، ويعلل بأنه منشق على الفرنسيين. في النهاية حمل المغاربة السلاح في وجوه بعضهم بعضًا، وتم اغتيال قائد في جيش التحرير، عباس المساعدي عام 1956، ووُجهت أصابع الاتهام ناحية حزب الاستقلال وأحد أوجهها زمنذاك، المهدي بن بركة.. ثم استمر الخلاف والتوتر بين جيش التحرير وحزب الاستقلال، والقصر من جهة مقابلة.. هنا سيظهر المحجوبي أحرضان أكثر قربًا من القصر الملكي، أكثر منه إلى جيش التحرير، والمفترض أن الرجل ينتمي إليه.. واكتمل عرس التسيّب باشتعال الريف الأمازيغي في الشمال عام 1958، ووصول خصوم أحرضان إلى الحكومة، ألا وهم أعضاء في حزب الاستقلال الغاضبين على الرجل، فزجوا به في السجن مع صديق عمره عبد الكريم الخطيب، وجردوه من منصبه وليًا لجهة الرباط العاصمة. عام 1959 خرج أحرضان من السجن مع رفيقه الخطيب، ومعًا سيختاران سبيلاً جديدًا في عالم السياسة، وقاما بتأسيس حزب الحركة الشعبية ذو الميول الأمازيغية، فبدا أحرضان في جلد جديد، وهو عرقيٌ أكثر من العادة، فانتعشت خلافاته وازدهرت مع بقية السياسيين الذين يقدسون القومية العربية، لكن أحرضان ظل محافظًا على قربه من القصر ورجالاته، وهو صدق مقرب من الجنرال محمد أوفقير، أحد أقوياء زمنه، الذي يوصف حتى مماته، بالرجل الثاني في المملكة المغربية بعد الجالس على العرش، يضاف إلى ذلك، أن هذا ذو كثرة النياشين، أمازيغي من وسط البلاد، أي نفس منطقة أحرضان، ما جعل (البلديات) تتدخل في خط الصداقة بين الرجلين.. ولأجل هذا وذاك، وبرغم من عصبية أحرضان الزائدة للأمازيغية في زمن ملغم للذين يتبنون القومية الأمازيغية؛ فقد تم تعيينه وزيرًا للدفاع في أول حكومة في عهد الملك الحسن الثاني عام 1961، فيما ظهر أن للجنرال أوفقير يد في هذا التعين لابن عرقه وصديقه المقرب.. استمر أحرضان على رأس وزارة الدفاع حتى عام 1964، فخلفه صديقه محمد أوفقير.. ورغم ترجله من منصب عظيم على رأس القوات المسلحة كونه خريجًا من المدرسة العسكرية المرموقة بمكناس؛ إلا أن المحجوبي ظل في المشهد السياسي والإداري في السنوات المقبلة، فشغل عدة وزارات، بين 1964 و 1983، منها وزارة الفلاحة، التي ستنضاف إليها الاصلاح الزراعي، ثم وزارة الدولة في حقب حكومية مختلفة، التي ستندمج إحداها مع شؤون البريد والمواصلات، وبها سيختتم مساره الوزاري الذي تجاوز عشرين عامًا.. ويشتد تمرده وتسببه بالجدال أكثر فأكثر داخل المشهد السياسي المغربي في منتصف الثمانينات، مع صعود التيارات الأمازيغية، وعودة التصادم مع حزب الاستقلال، الذي رفض دسترة الأمازيغية ووعد أعضاءه بالكفاح لأجل ذلك.


 كما كان منتظرًا، فقد تم الإطاحة بالمحجوبي أحرضان من على رأس حزب الحركة الشعبية في مؤتمره الاستثنائي عام 1986، وبدا واضحا أن الغاية من ابعاد أحرضان، هي تفريغ الحزب القوي من أمازيغيته الذي تستمد قواها من المحجوبي.. إنما أحرضان رفض الركون بعيدًا عن السياسة وجدالها، وأسس حزب آخر يسبح في ذات الفلك عام 1991، فأطلق عليه، حزب الحركة الوطنية الشعبية.. وبعد سنوات قليلة، سيكون أول سياسي مغربي يزور إسرائيل، لينال باستحقاق سخط الأحزاب ذات التيار القومية العربية وكل من يسترزق بالقضية الفلسطينية.. ومع رحيل الملك الحسن الثاني عام 1999، بدأ نجم أحرضان المثير يخفت في سماء السياسة المغربية، بعد ظهور وجوه جديدة في غمرة العهد الجديد.. حتى الكِبر ساعد في انجلاء أحرضان من الساحة، حتى عام 2006، استعاد المغرب بعض من أحرضانه الغابر، بعد أن قررت كل الأحزاب المنشقة عن الحركة الشعبية الاندماج مع بعضها، تحت الاسم القديم، وتم اختياره المؤسس المحجوبي أحرضان رئيسًا شرفيًا لحزب، حتى مماته عام 2020، قبل أشهر قليلة من اطفاء شمعته المئة، ليُحِقّ له لقب، قرن من السياسة.

ما هي حقيقة هذا العجوز ؟


أكان أحرضان مقاومًا ضد الاستعمار؟ الرجل لا يفوت فرصة سانحة، وإلا تجده يتحدث بفخرٍ عن زمن المقاومة والحركة الوطنية.. إنما، ما بال خصومته مع حزب الاستقلال بعد مغادرة الاستعمار؟ الحزب الذي يضم الحركة الوطنية ضد وجود فرنسا في المغرب، والذي أُسِّس لأجل الاستقلال ومن مبتغاه اتخذه اسمًا له.. المحجوبي أحرضان يعود لقوميته الأمازيغية، الذي جعلته يؤسس حزب الحركة الشعبية، لدفاع عن نفسه ضد تهم الاستقلاليين وصدامه الدائم معهم.. فحزب أهل فاس، (الاستقلال) علاقته مع السياسيين الأمازيغ كغيمة متلبدة، تُمطر نيران الصدامات العنيفة بين الفينة والأخرى.. وفي زمن المهدي بنبركة، الاستقلالي المنشق، كان هذا الأخير في علاقة متشنجة مع أحرضان، التي يُعيدها الأخير إلى آراء المهدي عن القوميين الأمازيغ، وخلافه الدائم معهم، فهذا اليساري حتى النخاع يصدح بالعروبة، إلى أن غُيِّب إلى الأبد عام 1965 أثناء تواجده في فرنسا في حكاية أخرى سردناها سابقًا.. وفي محاكمة المشتبهين في تصفية بنبركة؛ كان المحجوبي أحرضان ضمن الشهود المدافعين عن المتهمين، أبرزهم الجنرال أحمد الدليمي الذي سلم نفسه للسطات الفرنسية، في محاكمة شُبهت بالمسرحية للحفاظ على ماء وجه فرنسا، فلم يدفع أحد ثمن الجريمة التي طالت المهدي.. إلا أن خلافات المجحوبي، أدركت حتى صديق عمره ورفيق دربه، عبد الكريم الخطيب، خلاف جعل الخطيب ينشق على حزب الحركة الشعبية الذي أسسه مع أحرضان، ليؤسس حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية سنة 1967، وهذا الخلاف راجع إلى إرادة أحرضان جعل الحزب ذو توجه واحد: القضية الأمازيغية. هؤلاء - باستثناء الخطيب - يدعون أن المججوبي لم يكن وطنيًا في زمن الاستعمار، وقد نتفهم ذلك، فهم خصوم أحرضان الذين يسبحون في نهر السياسة عكس تيار المحجوبي.. لكن، ماذا لو عرفنا، أن أحد رموز المقاومة الوطنية وأحد عظماء اليسار، له نفس الرأي عن أحرضان.. هنا قد يقول قائل: وما الخصوصية في ذلك، طالما أيقونة اليسار بنبركة يشهد بذلك على أحرضان؟ هذا اليساري هو أمازيغي كذلك، ينضاف إلى كونه مقاومًا سابقًا، ألا وهو محمد بن سعيد أيت ايدر، الذي ينتمي إلى أمازيغ سوس في الجنوب، وهو أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الموحد، أحد أعتد الأحزاب اليسارية في المغرب.

اليساري الأمازيغي، محمد بن سعيد أيت ايدر، أكبر معارضي الملك الحسن الثاني

محمد بن سعيد، ولسنوات طويلة، ظل ينفي كون أحرضان مقاومًا ضد الاستعمار وانتمائه للحركة الوطنية قبل الاستقلال، بل ويسخر من ذلك، قائلاً: كيف له أن يكون مقاومًا، وهو خدم فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ومتزوج من بنت ضابط سامي في الجيش الفرنسي؟! يرد أحرضان على ابن عرقه الأمازيغي، أن الأخير آخر من له الحق في الحديث عن الانتماء، فبرغم يساريته الطاغية، فلم يدافع يومًا عن القضايا الأمازيغية، كأنه ليس أمازيغيًا، ويختتم المحجوبي كل أجوبته ردًا على المشككين في وطنيته قائلا، لو لم أكن وطنيا مدافعا عن استقلال عن المغرب؛ لما استقبلني محمد الخامس في قصره ابان الاستقلال، مع وطنيين آخرين رفضوا التوقيع عن وثيقة نفي السلطان وتنصيب سلطان جديد لا يمت بصلة للعائلة الحاكمة. وهل كان الرجل ملكيًا؟ في الظاهر، نعم.. وفي الباطن، فالعجوز لا يؤتمن جانبه المتمرد، ففي محاولة انقلاب الصخيرات عام 1971، كان ضمن الحضور في عيد ميلاد الملك في قصر الصخيرات، التي داهمته كتيبة الكولونيل امحمد اعبابو، أمازيغي آخر، إنما هذه المرة من الشمال في الريف.. قيل إن المحجوبي أحرضان في زوال ذلك اليوم الذي لعلع فيه الرصاص في ردهات قصر الصخيرات، كان يدردش مع جنود اعبابو ويبارك نيرانهم، لكأنه يُهيِّئ لنفسه موطئ قدم لو حدث ونجح الانقلاب.. عام بعد ذلك، سيُتّهم صديقه وابن مسقط رأسه الجنرال محمد أوفقير في محاولة انقلاب على الملك بأدلة دامغة، بعد أن قصفت سرب مقاتلات اف 5 طائرة الملك المدنية، في منتصف آب أغسطس 1972.. ظهر بعد ذلك أحرضان مدافعًا عن أوفقير وإن بحذر شديد، ليستبعد تدبيره للانقلاب الفاشل.. في الأخير، ورغم هذا وذاك، لم يسبق للمحجوبي أحرضان، أن عارض قرارات ملكية، بل كان دائم المباركة لها، عكس سياسيين أمازيغ آخرين، مثل محمد بنسعيد أيت ايدر وغيره.. وظلت القضية الأمازيغية ملازمة له حتى مماته، ويصطدم مع كل مروجي القومية العربية في المغرب، التي يرى أنها خرفات المشارقة التي لا تعني المغاربة في شيء.

الزايغ

الزايغ.. المتمرد باللغة الأمازيغية الأطلسية، عنوان سيرة ذاتية للمحجوبي أحرضان، خرجت للوجود عام 2015، اختتم بها الزايغ اصداراته الكتابية في عالم السياسة والأدب، وهو شاعر وأديب ورسام.. عُرف بولعه الشديد بالرسم، فجعل الزايغ من الريشة عالم مغاير بعيدًا عن حمم السياسة في زمن الجمر والرصاص، وحتى بعد العهد القديم؛ ظلت الريشة تعشق أصابع أحرضان، التي تؤتى منها لوحات تستحق إطالة التحديق إليها، لمحاولة كشف بعض الأسرار التي يأبى الزايغ الكشف عنها، ويكرر قوله: "أنا لست جرسًا للإنظار يستخدمه أي كان وقت ما يشاء".. إنه ذاك الذي دأب على الظهور بإطلالته البدوية، في جلباب لا زينة عليه، وطربوش لا يستوي على رأسه،  ولا شك أن هذا العجوز مُثقل بأسرار كثيرة، لكنه يكتفي بالتلميح، وابتسامة غامضة.



تعليقات

  1. عبد الرزاق ايدر20 سبتمبر 2021 في 1:46 م

    أتذكر أنا الذي اقترحت عليك الكتابة عن المحجوب أحرضان قبل سنة تقريبا وها أنت اليوم تكتب عنه وبالصراحة صدمتني قليلا هههه لكن هذا هو بنصالح الذي نعرفه على كل حال أنا أعتقد أنه كان مقاوما طالما كرمه محمد الخامس وأعتقد أيضا أن السبب في كثرة جدالاته هي عصبيته اتجاة القضية الأمازيغية وأنت لا تحتاج شرح ذلك

    ردحذف
  2. أجل، وأتذكر بدوري أنك كنت ممن اقترح عليّ الكتابة على هذا الرجل، ومنذئذ دونت عندي هذا الاسم المعروف للكتابة عنه لاحقا.. ولهذا نعاود شكرك على الاهتمام.. وفي الحقيقة لا أدري أين صدمتك تحديدا؟ على أيٍ، ربما تجدني أتفق معك بشكل كبير بخصوص ارتباط جدالاته بعصبيته اتجاه القضايا المتعلقة بالأمازيغية في زمن مغاير لهذا، حتى قد، قُدست فيه "العروبة" وحاولوا حكر الساحة لها.

    نشكرك قارئنا الوفي، فقد يذهب الجميع ويبق لنا "ايدر" ^^

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -