أحلام و شموع - الجزء الأخير -

(قصة مسلسلة)


هي تلك الشمعة التي تأبى شعلتها الخمود، وإن تراقصت مع ريح شرقي حتى يخيل لي أنها انطفأت فما عاد نصعها ضرام.. ليبعث فيها النور ويعاودني الأمل العنيد، وإن كنت أفترش الرصيف مكوم كحفنة أديم، أكاد أشبه صبي أزيم، لأصير من الذين لن ينالوا من الدنيا نصيب، وما عاد الوهم يغدق عليهم بعض الدفء والتحنان.. إلا، وإنما، حلم قد تمسكت به بأصابعي، أسناني، فلا ألعن مدينتي التعيسة كما يفعل بؤساء القوم. حلم، لم ألق له سوى سبيل واحد.

***

أغسطس 2005
    فاس


- وبعد يا أنور؟

قال صابر ابن خالي، وهو ينظر إلى بوجل، منتظرا أن أقصص عليه ما تبقى.. كنت أدخن بشراهة، لا تفتأ تنطفئ السجارة حتى أوقد دونها.. متوتر، مضجر، لقد استبد بي الخوف كما لم يحدث يوما.. أتيه عن حديثي مع صابر كثيرا، هو مندمج مع سيرتي الذاتية؛ إلا أن ما عاد لي رغبة باكمالها.

- ماذا أصابك يا أنور أخرسٌ هكذا؟ قل لي ما مصدر الخمور في المطار؟

- حسن.. إن في الطائرات توجد الدرجة الأولى، أي تلك التي يركب فيها رجال أعمال والذين يفوح منهم عبق المال.. إن وظيفتي هي تجهيز تلك الدرجة بأجود أنواع الخمور والعصائر قبل اقلاع الطائرة، وبعد عودتها نقوم بتنظيفها، وهنا نجد قنينات خمر نصف أو شبه ممتلئة.. وكنت أهربها بتواطؤ مع عمال آخرين، لكنهم يعتقدون بأني أبيعها بنصف ثمنها، والحقيقة أني أبيعها كما لو كانت غير مستعملة، لحانة جواد.

كيف مات رضوان ابن باحسون؟

- لقد مات جراء حادثة سير، بعدما اصطدمت سيارته مع شاحنة البوتشار (حاملة اﻵليات).

نظرات صابر تتهمني بتصفية رضوان !

- لا تنظر إلي هكذا يا صابر، أنا لم أدبر موت رضوان.. حقا كنت خططت لتخلص منه؛ لكن ليس قتله، فلست قاتلا.. ولا تنس، هو كذلك متورط مع عصابات أخرى، والأرجح أنهم قد استنفدوا مبتغاهم منه وجعلوا منه أشلاء في الطريق، لأنه كامبو (بليد).

صابر لا تزال نظراته إلي تخبرني بأنه لا يصدقني، كأن عيناه بهما تنطقان : "أنت من قتلته، اعترف.. قتله، لقد قتله، قاتل!".

- أي عصابة تقصد ؟

- نائب مدير المطار كان يستغله لتهريب كميات من الحشيش من فاس إلى مختلف دول العالم.. ابن باحسون لم يحسن اللعب جيدا ويرضى بدراهم معدودات.

- وعندما مات رضوان أخذت مكانه ؟

- بلى، وظن معلمه أني مثل رضوان، لكنه فوجئ أن ورائي عصابة تقتل الأجنة في الأرحام.

- وماذا عن منصف، كيف أرسلته إلى السجن ؟ أليس من المفترض أن يتدخل جواد حتى ينقذه؟!.

- منصف عزم على قتلي، بعدما كبر شأني عند معلمه جواد، فكان لزاما علي أن أتغدى به قبل أن يتعشى بي.. جواد لم يكن على يقين بأني الفاعل بمنصف إلى بعد فوات الأوان.. ثم لم يُعتق جواد صاحبه القديم غياهب السجن، لأنه ما عاد يصلح له، هكذا تكون القاعدة في أعمالنا، وكذلك ألقي القبض عليه بعيدا عن نفوذه، تحديدا في مدينة سلا بتهمة حيازة كمية كبيرة من مخدر الكوكايين.

***


يناير 1999
     فاس


كلما دجن الليل، وطبق الصمت الأرجاء؛ تراني  قد صرت كائنا ليليا، أخرج إلى شرفة شقتي في الساعات المتبقية من انفراج الفجر وتنفسه على فاس.. أدخن في هدوء ممزوج بهواء بارد، يجعلني أحسن التفكير جيدا.. أهل المدينة غارقون في قعر النعاس، بينما يخيل لي أني المستيقظ الوحيد في المدينة، لا، بل في المغرب. كنت أدري جيدا أني وفي ظرف ثلاث سنوات قد حققت الكثير من "حلم" لم أنته منه، فمازلت لم أحكم فاس بعد، وإن كان لي فيها اﻵن ما أريد.. مبلغ أربعمائة درهم (أربعون دولار) كان كل ما في جيبي عندما لفظتني حافلة شيباء لأول مرة في فاس.. من ذلك الصباح ذات خريف، إلى هذه الليلة الساكنة، بينهما بضع سنوات تعج بالأخطار، انسللت منها سالما غانما محظوظا.. لقد مررت مرارا على مشارف النهاية ولم أدلف بابها؛ تذكرت قول الشاعر : "لا يمتطي المجد من لم يركب الخطر، ولا ينال العلى من قدم الحذر".  فحق هذا البيت الشعري، وغدا ترسيخه ومغزاه مرادفا لي؛ فاليوم في جيبي مليون ونصف درهم، (مائة وخمسين ألف دولار)  جنيتها من بيع الممنوعات، وتهريب الخمور من المطار.. كأن الشيطان كان حليفا لي، وأتت الرياح كما تشتهي شراعاتي، فلا يتبق اليوم سوى اللعبة الأخيرة، تلك التي ستجعل وعدي لصديقي عثمان أمر مسلم به "أن أحكم فاس ويكون لي فيها ما أريد".

***


مارس 1999
    فاس

المغاربة يتحدثون عن عن مرض ملكهم.. التلفزيون الرسمي يحاول زرع الطمأنينة في نفوس الشعب : "نزلة برد، فترة النقاهة، إنه يتماثل لشفاء". يظهر أن المرض قد هوى بقوى الملك، وكأنه يمهله فترة وجيزة لتوديع شعبه العزيز (كما يستهل خطاباته).

جواد متحمس ومتخوف، إنها أكبر عملية نقل الممنوعات من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، والعملية مرتبطة بحياة الملك.. يستغرب جواد من ذلك، يشرب كثيرا على غير عادته:

- كيف هذا يا أنور، ما هي صلة حياة الملك بأعمالنا؟!

- ليس اﻵن.. نلتقي بعد يومين في أزرو (مدينة صغيرة قرب فاس).

تركت جواد في حانته، وقد بدا عليه القلق.. لقد شرب كثيرا الليلة.. هو يدري جيدا أن أي خطأ، قد يهوي بعروشنا معا، ثم حياة الملك غدت في مخططاتي! كأن سحنته تقول "لقد جن هذا الأنور وبجنون العالم !" هكذا حال الدنيا الخسيسة متعددة الوجوه؛ بالأمس قادني رجاله إليه وأنا معصوب العين؛ واليوم لحقت مقامه وصرنا سيان.. لا، بل إني أهُمُّ لأولي له الأدبار.

باحسون مات منذ سنة.. لقد قتله مرض الريئة، إنه التدخين كما توقعت يوما.. آسفت على موته، ما زلت أحبه كما لو كان أبي.. عمر ابن عمي تعرض للإفلاس ورحل إلى الرباط ليبدأ مشروع جديد.. علال الذي كدت أجهز عليه وبسبب ذلك تعرضت لسجن؛ صار اليوم يعمل لمصلحتي، هو وكل ثعالب حي مولاي عبد الله،  لكن جواد ما زال يحكم بن دباب وحي المصلى، وعين قدوس أيضا.. حي واحد مقابل ثلاثة، الغلبة (للمعلم) بلا ريب. في الحقيقة جواد يحكم فاس بمن فيها، إلا أن الأحياء المذكورة استولى عليها بدلا من القانون، بل هو القانون فيها.

***

في فيلا جواد بمدينة أزرو، التقيت معه لوضع التخطيط لنقل الحشيش من مطار فاس إلى مدينة بويبلا في دولة المكسيك.. عملية تحتاج إلى دماغ الفضائيين للوصول بها إلى مرفأ الأمان، كما هو ظاهر لمجرد التفكير في الأمر.

شعرت بجواد قد استولى عليه الخوف لأول مرة بحضوري، يحاول قمعه والتعال عليه، إنما هيهات هيهات، الخوف قد تمرد عليه وعلى كبريائه.

- ما دخل حياة الملك يا أنور ؟! هذا مس من الجنون!

- لأن لو مات الملك، سيكون هناك ارتباك أمني في الأيام الأولى التي تلي مماته.. إذن علينا الذهاب عند صاحبك في تطوان في أقرب وقت ممكن.

***


أبريل 1999
    تطوان

مصطفى المريني، كبير تجار الحشيش في نواحي تطوان، يملك منه الهكتارات في قرية كتامة، المعروفة عالميا بزراعة القنب الهندي.. لقد صنع لنفسه امبراطورية وخندق حوله كبار رجال الأمن في الشمال المغربي.. هو صديق جواد، وسبق وأن تعاملا مع بعضهما في نقل الحشيش إلى إسبانيا.. اليوم قد كبر التحدي، وتعملق وبدا من المحال، ولكن.

توجهت لأول مرة إلى تطوان بسيارة خاصة، جواد يلحق بي بسيارة أخرى. لقد هلني مشهد مدينة تطوان وهي تتراءى من بعيد، فكانت سرب مباني بيضاء ينهمر من رأس جبل إلى سحقه. أزقتها لم ير لهم مثيلا، أي نظافة؟ أي هندسة؟ أين فاس من تطون؟

في فندق مالغا التقينا أنا وجواد، وقضينا ليلتنا، وفي الغد أخذ كل واحد منا فسحة في تطوان.. لقد شغفتني تطوان اعجابا، فقضيت يومي أتجول في أزقتها، من المدينة القديمة مرورا على رياض العشاق، ثم سانية الرمل، وصولا إلى مرتيل على ضفاف البحر المتوسطي، وجبال الريف هنالك تطل من كل ناحية.. لقد صدقوا، تطوان جميلة تفوق الجمال.

بعد ثلاث أيام في تطوان، توجهنا إلى حي الولاية، أرقى الأحياء في المدينة، ليوقف جواد سيارة قرب فيلا فخمة.

- إذن هنا يقطن المريني؟

رد جواد بعد برهة:

- بلى، في هذه الفيلا يوجد واحدا من أكبر تجار المخدرات في المغرب، إن لم نقل في أفريقيا.. وعليك أن تعرف أن هذا الرجل قتل أخوه بيده، وقام بتصفية عشرات الأشخاص بينهم رجال الأمن في ثلاثين سنة الأخيرة، إننا تلاميذ في حضوره، فإذا كنا اليوم نحكم فاس؛ فهو يحكم الشمال وجباله، بل إن الأمن يرتعد أمامه.

نظرت في عيني جواد بابتسامة شاحبة زادت من روعه:

- حتى لو كان يرتعد الجن والإنس أمامه، فنحن لن نفعل.. عليك أن تعرف يا جواد أن زمن هؤلاء العجائز انتهى؛ نحن على مرمى القرن الواحد والعشرين، وهذا زمننا أنا وأنت، أما الوحش القاطن هنا، فبعد اليوم ولّت أيامه إلى غير رجعة.

جواد لا يفتأ يذكرني بالماضي، كأنه يحذرني من التفكير  بالمساس به ضررا.. إنه يعرف طموحي الذي يُخيل له في بعض الأحيان أنه يكون جنونا!

- أعرف يا جواد أنك كنت أكثر رزانة بحيث انتظرت تسعة سنوات لتنقلب على غول طنجة الذي كنت تعمل لصالحه.. بينما لم أنتظر أنا سوى ثلاث سنوات؛ لأني اجتهدت أكثر.

- إنه لا يجعلني أستغرب أنك تعلم أني كنت أعمل لصالحه غول طنجة قبل سنوات، تماما كما أعرف أنك انقلبت على ابن باحسون في المطار وصرت تهرب منه الخمر لوحدك، ثم كمية الكوكايين الكبيرة التي وصلت إلى باريس عن طريق مطار فاس، كان لك في يدك في ذلك، فكان اقلاعا ناجحا، أعترف.

- اسمع يا جواد، أنت مازلت ذلك (المعلم) الذي عرفته أول مرة، نعم نعم وأنا معصوب العين كما تقول دائما.. وأنت ما زلت وستبقى أستاذي.

أردفت في نفسي: إلى حين!

***


أغسطس 2005
    فاس

قال صابر ابن خالي بالكثير من الشوق : كيف كانت معالم الصفقة الثلاثية بينك وبين جواد إضافة إلى مصطفى المريني؟

- هي منقسمة إلى ثلاث؛ السلعة تعود لتاجر المخدرات التطواني.. ثم الذي سيشتري السلعة ويتعرض لها في المكسيك من معارف جواد، وهو تاجر مخدرات كوبي يزور المغرب كثيرا.. ثم يبقى الجزء الأصعب الذي سيكون مهمتي، أي العبور بطن ومائتين كيلو من مخدر الحشيش من مطار فاس وصولا إلى مدينة بويبلا بالمكسيك.

- هل وافق تاجر المخدرات التطواني على الفور؟

- نعم، لأن مقابل نجاح العملية مغري جدا، فلم يسبق أن كسب ذلك المبلغ الموعود في عملية واحدة.. لكنه كان مترددا خائفا من الفشل.

- إذن انتظرتم حتى مات الملك؟ لكن مادا لو لم يمت في ذلك العام؟

- كنا سننتظر فلسنا على عجل.. لأن العملية حساسة جدا.. لكن الصحافة تتحدث عن أزمة صحية خطيرة وأن البلاط  المغربي يجهز لنقل الحكم.

- ومات.

- نعم، مات الملك، وانتظرنا كذلك انقضاء فترة الحداد على روحه.

- ما دخل فترة الحداد؟

- لأننا سنقوم بموكب عرس مزيف من قرية كتامة حيث تواجد السلعة إلى قصر الحفلات بـ فاس، إن المشوار فيه أكثر من ثلاثمائة كيلو متر.. كل هذا لتمويه الدرك الملكي في الطرقات والأمن الوطني في مداخل المدن.. الموكب يحمل كمية ضخمة من مخدر الحشيش.. لقد أقمنا عرسا شبه حقيقي بحضور العروس وعريسها، وحتى رجلين من العدول لتوثيق زواج وهمي.

- وبعد؟

- اشترطت على شركائي بعدم التدخل فيما تبقى.. هما يظنان أني متواطئ مع بعض عمال المطار، لكنهما يجهلان أن نائب مدير المطار بنفسه على علم بالعملية وهو من سيرخص الهبوط لطائرة الخاصة التي ستأتي من المكسيك إلى مطار فاس لنقل طن ومائتان كيلو من مخدر الحشيش في ثلاث رحلات.. لقد كان كل شيء سلسا.

- لكن نائب مدير المطار، ألن يطلب بمقابل كبير كونه الشخص الأهم في هذه العملية ؟

-  لقد رضي بالمبلغ الذي اقترحته عليه، وهو ليس بالقليل، بل يفوق أجرته السنوية.. ثم وإن كان هو الجزء الأهم من العملية؛ لكنه لا يستطيع أن يملي علي شروط كثيرة، لأنه يخشى العصابة، وهو متزوج وله أولاد.. لكن الطمع جعله أصم ولا يرى.

- لماذا سكت؟ أكمل.

- لقد تعبت من القص.. غدا.

- سؤالين فقط.

- لك ذلك.

- أين جواد اﻵن؟

- لقد مات، فقد قتله رجال "المريني" رجل المخدرات التطواني.

صابر انفغر فاهه بعد سماع كيف هلك جواد.

- لا تخشى علي، إن التطواني لن يقدر على تصفيتي.

- كيف؟ ولم أجد في نبرتك كل هذه الثقة؟

-  لأنه ميت اﻵن ! فبعد نجاح أكبر عملية تهريب الحشيش من أفريقيا إلى أمريكا اللاتنية؛ لم يعد الكون بسعته يسعنا نحن الثلاث، فكان لزاما أن يبقى واحد، واحد فقط.. فكان ابن عمتك.

زاد روع صابر وهو يحملق إلي.

- السؤال الثاني.

- حم حم.. آ.. نسيت.. أوو تذكرت.. هل أنت سعيد اﻵن؟

سؤاله أثقل لساني، لست أدري بماذا أجيبه بمعية نفسي.. هل أنا سعيد يا ترى؟ إذا كانت السعادة هي راحة البال والطمأنينة؛ فلست سعيدا.

- هذا السؤال أترك جوابه لك!

- هكذا لست سعيدا يا ابن عمتي.. أستغرب من هذا ! كيف لك أن لا تسعد وقد صرت مليونيرا؟ لقد ملكت في الدنيا ما تشاء فيها.

- ربما، لأني ذكي أكثر مما ينبغي ! فلو كنت غبيا قليلا فقط، لكنت سعيدا اﻵن.

- لم أفهم ؟

- إذن حق لك السعادة (ضاحكا).

- تسخر مني يا أنور.. إنما فلتشهد أني سألحقك وأتجاوزك يوما.

- حينئذ أتمنى أن تصير سعيدا.. وقبل أن أتركك، عليك معرفة أني لا أدري حقا لم اقصص عليك أسراري، ربما لأرتاح قليلا، لأني أشعر بوهن شديد من كل الأخطار الذي ركبتها وأحتاج من يسمعني وكذا أرى فيك نفسي، رغم أني على علم أنه ما كان عليّ اطلاعك على كل هذ الذي سمعته.. وبما أنك تعله الآن؛ فضع في بالك من أكون، ومن أي عجينة خُبزت. 

تركت صابر ابن خالي رفقة شقراء جميلة في منزلي ليتسلى بها قليلا، وخرجت إلى الشارع لأستنشق هواء آخر الليل.. إنه محظوظ، بل محظوظ جدا، فقد وجد من سيستند إليه في فاس، إنه ابن عمته: أنا. بينما لم ألق في اليوم الأول لي في فاس سوى البؤس والعراك مع أبناء العاهرات، كذلك العجوز باحسون وأراجيفه.. آه يا باحسون وخضرواتك، وأعقاب سجائرك، سعالك، طاجينك، نظراتك الزائغة.. فليرحمك الله.

أعود لأمشي في شارع الحسن الثاني قاصدا حي مولاي عبد الله، كما حدث في صباح الأول لي في هذه المدينة. الليلة أنا أستعيد الذكريات وماض مضى وخلف حلم اكتسى الحقيقة.. أخطو حتى وصلت إلى الملاح، حيث  تضيق الأزقة.. لا أحد هنا، الملاح نائم ما عاد كلب هنا وهنالك يرفع ذيله باحثا عن مخدع يأويه. زمان بيني وبين المدينة القديمة وإن كان رجالي يبسطون نفوذي فيها.. لم تتغير البتة، إن الزمان جامد هنا، ساكن لا يتجاوز عتبته. ثم أضحيت إلى باب عملاق كتب أعلاه، "باب مولاي عبد الله" في هذا الركن انطلق كل شيء.. فجأة ظهر لي شابين رفقة فتاة حسناء، أكتافهما فيها ندوب تُعرف بالإدمان والخطر.. قصدوني حتى صرنا متقابلين.. قال أطولهما:

- ماذا يفعل الوسيم في الأزقة هذا الوقت؟

ضحك اﻵخر قائلا :

- لا شك أنه عاشق تعيس هجرته حبيبته، فخرج ليلا للبكاء عليها.

فضحكت رفيقتهما.

- اسمعا يا هذين الجروين، كلمة أخرى منكما؛ سأعريكم جميعا.

رد الطويل ساخرا :

- هل تظن نفسك أنور الرازي يا ابن العاهرة؟!

- لا أظن نفسي، لأني الرازي نفسه أيها الشاذ.

فأخرج سكينا عملاقا يبرق فيه ضياء القمر.. من أين أخرجه؟ لا أدري ! كأنه انسله من لحمه.. ربما.

- تنعتني بالشاء يا من يتوهم نفسه أنور الرازي! بل أنت أنور ابن العاهرة، والليلة سألحقك بالمقبرة.

هو صادق في تهديده، هم سيقتلونني كما لو كنت حشرة، كأني لا شيء ! إنه قعر فاس حيث لا قانون ولا إنسان..  تذكرت كل معاركي في فاس، لقد مر زمن طويل لم أتعارك فيه.. ثم أشهرت مسدسا في وجوههم، فخروا أمامي كالكلاب المريضة:

- تهددني أيها الشاذ بهاذا السكين الصدئ! أمثالكم أتبول على أمهاتهم وهم شهود. أتعرفون اﻵن من أكون؟

بصقت عليهم وقمت لسبيلي باتجاه ساحة بوجلود تاركا خلفي حي مولاي عبدالله..  وصلت إلى ساحة بوجلود لأتنزه فيها وحيدا، بينما القمر في عنان السماء يؤنسني ويشاركني الذكريات التائهة التي تشبحت في هذه الأرجاء.. ثم اتجهت نحو حديقة جنان السبيل المجاورة.. جلست وسط الحديقة، ثم تذكرت كم مرة قضيت ليلتي هنا أفترش الأرض وأحجب بالسماء، في الوقت الذي يلعب فيه صابر ابن خالي اﻵن مع الشقراء، ألم أقل لكم إنه محظوظ؟.

***

لقد كان لي حلما أتى من منبع الحرمان والعدم، حلم يراود ليلاي ويناجي عتمتها، ويرى في ضياء شموعها حياة ومستقبل؛ أن أصير غير ما تبتغي لي الحياة،  فلا أدفن أحلامي مع كل يقظة صباح. ما أنا إلا ابن أمة منسية منفية في جرف هار تطوقه جبال الأطلس الصلداء، فكنت كالمحارب الذي يهرع إلى حرب وهو مجرد من سلاح، أعزل كنت ما عدا طموح لن تقدر عليه الجبال، جبال عزمت أن أحفرها بأظافري وأسناني. لم أتعلم الندم على ما فات من عمري، ولست أقيم ترانيم الوداع على من رحل من حياتي.. وما آليت إليه سوى ما جنى المجتمع على نفسه، وإذا أضحيت اليوم أفتح ذراعي كصليب على  الحرام واللاقانون؛ فلا الذنب ذنبي، بل للذين أرادوا مني، أن أكون شيطانا لأتعايش في دنياهم، أن أكون غير أنا.

***








***

جريدة "العلم" 2006/5/28

(بعد مطاردة هوليودية ايقاف اسكوبار فاس !)

تمكن رجال الدرك الملكي بعد تنسيق مع جهاز الإستخبارات dst بايقاف المدعو أنور الرازي زعيم عصابة راقية تتاجر في الممنوعات والأسلحة، وهو العقل المدبر لأكبر عملية نقل الحشيش من أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية، في أواخر التسعينات.. سقوط زعيم العصابة يجر التحقيق إلى شخصيات مرموقة في فاس، من بينهم  مدير مطار فاس سايس الدولي.. التفاصيل في الصفحة الثامنة.

***


جريدة "المساء" 2006/5/30

(فاس تتخلص من مجرمها)

أنور الرازي أشهر مجرمي فاس الذي صدرت عنه مذكرة بحث قبل ثلاث سنوات، سقط أخيرا في يد العدالة بعد عشر سنوات صنع منها ثورة هائلة من مجال الاتجار بالمخدرات، وتهم  ثقيلة تنتظر الشاب البالغ ثلاثين سنة... (الصفحة الأخيرة)

***


جريدة الإتحاد الإشتراكي 2006/5/28

(تفاصيل صادمة : كيف تحول مطار فاس إلى بؤرة تهريب المخدرات ؟!)
...............

***


جريدة "المشعل" 2019/7/13

(حقائق جديدة عن اسكوبار فاس)

كشف محمد الرازي شقيق أنور الرازي حقائق جديدة حول أخيه الملقب بـ اسكوبار فاس، والذي يقبع حاليا في السجن بعدما حكم في عام 2006 بـ25 سنة سجنا نافذا بتهم ثقيلة، تتعلق بالاتجار بالمخدرات والأسلحة والتهريب الدولي، وتهم أخرى تتعلق بالتصفية الجسدية والإرهاب.. يقول شقيق أنور الرازي  للجريدة : إن أخي أنور تفاجأ بتهم باطلة هو بريئ منها؛ ومن بينها التجارة في الأسلحة وتمويل حملات انتخابية، وتهم تتعلق بجرائم القتل عديدة ألصقوها عنوة بشقيقي وكذلك الضلوع في عمليات ارهابية..  إن أخي أنور كان يتاجر في الممنوعات، لكنه لم يكن قاتلا ولا إرهابيا كما صوره الإعلام، وينطبق عليه المثل المغربي القائل "إذا سقطت البقرة تكثر حولها السكاكين".

****











fin



م.ب - طنجة

تعليقات

  1. اخيرا ينشر الجزء الاخير ساقراه ولي عودة

    ردحذف
  2. السلام عليكم.

    في البداية أود الإعتذار لقراء مدونتي الأفاضل على التأخر في وضع الجزء الأخير من هذه القصة الطويلة.. وأتمنى أن تنال القصة عموما اعجابكم وأن تكونوا قد استمتعتم - ولو قليلا - بكل أجزائها. حاولت مرة أخرى نقل الواقع كما هو، لكن الجديد هو الموضوع الذي يهم فئة من الشباب المغاربة وغير متداول كثيرا.. خصوصا ما بين الثمانينات حتى أوائل الألفية الجديدة؛ حيث قرر البعض منهم - أغلبهم من شمال البلاد - الدخول إلى عالم المخدرات لكسب المال بسرعة..  وقد نجح الكثيرين منهم، لكن نهاية أغلبهم لم تكن تتجاوز أحد الإحتمالين : أن يموت مقتولا أو يسجن.

    ردحذف
  3. أقرب الى سيرة ذاتية وقد تساءلت أثناء القراءة أيكون بنصالح عاش التشرد والمعاناة حتى يخرج لنا بهدا الكم الهائل من الصدق وهذه من نقاط قوة لهذه القصة واقعية جدا جدا
    هل أعجبتني
    نعم والجزء الأخير كان ذكيا ولخصت فيه كل شيء ما لم يعجبني هو كثر كلام الشارع في القصة حقا انا لا أحبذه أبدا وأيضا تصوير فاس كمدينة اجرام فيه زيادة لقد جعلتني اشعر أن فاس هي كراكاس هههههه

    الاقتباسات الصحفية في النهاية هذه جديدة وفيها ابتكار

    تحياتي

    ردحذف
    الردود
    1. لست الأول وربما لن تكون الأخير من بين من كتب لي بأني أكتب عن خلجاتي.. أقول لك لا.. لم أعيش أي تشرد ولم أنم يوما في العراء، لكني لست من عائلة غنية، أبدا.. بل عائلة شبه فقيرة - معندهاش ومخصهاش - والغني هو الله..  نصل إلى توظيف "كلام الشارع" هنا كل واحد وتفضيلاته؛ لكنك ذكرت كذلك بأن القصة واقعية جدا وصادقة.. إذن ما الذي جعلها واقعية وصادقة ؟ أن نسكب الوقائع كما هي - مع تجنب خدش الحياء -. في الأخير أحترم رأيك وتفضيلك.. لكن صعب أن أتخلص في الوقت الحالي عن أسلوبي هذا، ربما قد أفعل يوما.

      أدعوك لزيارة فاس والأحياء الهامشية فيها، وأن تجلس مع أحدهم عاش في تلك الأحياء وسيقص على مسامعك من لن تصدقه.. لم أكتب عن فاس إلا وقد زرتها عشرات المرات وتحدث مع بعض قاطني الأحياء المنسية فيها، وسمعت منهم قصصا غريبة عن كيف تحكم العصابات تلك الأحياء وإلى زمن قريب حتى.

      طبعا تبقى فاس هي فاس، فلا يمكن حصرها في أربعة أحياء، فهي ثاني أكبر مدن بلدنا بعد مدينتك أكيد ^^ وكما قال المرحوم باحسون ^^ : " ﻓﺎﺱ ﻳﺎ ﺃﻧﻮﺭ ﺷﺄﻧﻬﺎ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻤﺪﻥ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ، ﻓﻴﻬﺎ ﺃﺣﻴﺎﺀ ﺭﺍﻗﻴﺔ ﻭﺑﺎﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﺃﺣﻴﺎﺀ ﺑﺎﺋﺴﺔ.. ﻓﻜﺎﻥ ﻧﺼﻴﺒﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﺎﺣﻴﺘﻬﺎ ﺍﻟﻘﺒﻴﺤﺔ".

      شكرا جزيلا ياسين.. ولا تنس أن تطل علينا كل حين^^

      حذف
  4. في البداية أود ان أشكرك على امتاعنا بكل هذه الأجزاء التي شخصيا استمتعت بها كثيرا وشخصيا لم يسبق لي أن قرأت قصة موضوعها تجار مخدرات وأيضا استفدنا الكثير من المعلومات عن المغرب وفاس بتحديد وهذا ما يسمى بالترفيه والتثقيف معا ... تكتب بمكر وسخرية وتدمج بينهما في قالب مغري للقارئ ولن أقول إن هذا أفضل ما قرأت لك لكن أظهرت أن لك نفس طويل دون الوقوع في الملل الذي يصيب الكثير من القصص الطويلة ... النهاية توقعت شيئا اخر وقد نتساءل إذا كانت تلائم كمية التشويق التي حملتها الأجزاء السابقة ؟؟ النص الختامي أكثر من رائع (أن أكون غير أنا) عبارة عميقة ... في النهاية أقتبس هذه النص الذي يجعل الشخص يشعر بالإثارة وأهنئك على هذا التعبير الخرافي الذي شاركته في صفحتي على الفيس بوك (كنت ﻛﺎﻟﻤﺤﺎﺭﺏ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻬﺮﻉ ﺇﻟﻰ ﺣﺮﺏ ﻭﻫﻮ ﻣﺠﺮﺩ ﻣﻦ ﺳﻼﺡ، ﺃﻋﺰﻝ ﻛﻨﺖ ﻣﺎ عدا ﻃﻤﻮﺡ ﻟﻦ ﺗﻘﺪﺭ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، ﺟﺒﺎﻝ ﻋﺰﻣﺖ ﺃﻥ ﺃﺣﻔﺮﻫﺎ ﺑﺄﻇﺎﻓﺮﻱ ﻭﺃﺳﻨﺎﻧﻲ. ﻟﻢ ﺃﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﻨﺪﻡ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻓﺎﺕ ﻣﻦ ﻋﻤﺮﻱ، ﻭﻟﺴﺖ ﺃﻗﻴﻢ ﺗﺮﺍﻧﻴﻢ ﺍﻟﻮﺩﺍﻉ ﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﺭﺣﻞ ﻣﻦ حياتي)

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بزائرنا التونسي..

      وكم أسعدني هذا، أن تكون قد استمتعت، إنه غاية مناي ^^ وأود الإشارة أن كل ما ذكرته من أسماء الأحياء والدروب والشوارع والحادئق وغيره فهو حقيقي وموجود على أرض الواقع. نعم فاس فيها أطول شارع في أفريقيا.. فاس فيها أقدم جامعة في التاريخ.. فاس منبع أول حزب سياسي عربي...إلخ

      لا أعرفه ماذا كنت تنتظره بضبط في النهاية؟. لكن حاولت أن لا أخرج عن المنطق.. ويسعدني أنك شاركت ذلك الإقتباس على صفحتك على الفيس.. أعجبني أنا كذلك ^^.

      بارك الله فيك.

      حذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أغرب القصص في الإنترنت المظلم -1-