أحلام و شموع -6-

(قصة مسلسلة)



ﻓﻲ ﻛﻞ ﺃﺣﻼﻡ ﻣﻴﺘﺔ ﻳﺄﺱ ﻛﻔﻨﻬﺎ .. ﻭﺇﺫﺍ ﻳﻮﻣﺎ ﻛﻨﺖ ﻣﻦ ﻣﺘﺴﻮﻟﻲ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ ﻭﻳﺘﺎﻣﻰ ﺍﻷﻣﻞ؛ ﺇﻻ ﺃﻧﻲ ﺃﻋﺎﺭﻙ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻭﺃﺳﺘﺒﻘﻲ ﺍﻟﺤﻠﻢ، ﻭﺃﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻵﻻﻡ، ﻭﺃﺭﻯ ﺿﻴﺎﺀ ﺷﻤﻌﺘﻲ ﻧﻮﺭﺍ ﻭﺇﻥ ﻏﻠﺒﺖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﻈﻼﻝ.. ﺇﻳﻤﺎنٌ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺳﻴﻨﻬﻜﻪ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ، ﻭﺍﻟﻔﺠﺮ ﺳﻴﻜﻮﻥ مني ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻻ ﻣﺘﺨﻠﻔﺎ، ﻭﻣﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺗﺎﺀ ﺗﺮﺍﺟﻌﺖ.

***

في آخر خطواتي من حي مولاي عبد الله، لم أستدر برأسي، كأني أُخلف وراء ظهري ماض لا يستحق أن يُنظر إليه من جديد.. ثمان أشهر كل ما قضيته هنا في هذا الجرف المنسي من فاس، وغادرت الليلة مجبرا لا مخيرا؛ فلم يعد عندي وجه لأقابل به الناس، حتى عمر ابن عمي. في الأول كدت أجهز على الروح، ثم تلاها التحرش بابنة الحي، وأنا الغريب.. أقصد عشير المعز كما يلقبني البعض منهم.

هي ليلة صيف والناس يتأخرون في الشوارع..  توجهت صوب منزل عثمان في بن دباب لعله يجد لي مكانا أقضي فيه ليلتي.. العودة إلى بن دباب في هذا الوقت يتخلله خطر كبير، إنه أحقر حي في فاس، حيث الإعتداءات على المارة لأجل السرقة في الليل، فيه لعلك ترضى. زاد شؤم هذا اليوم حين وجدت الصراخ في منزل عثمان؛ لا شك أن أبواه يتعاركان ويتخصمان، إنه سحق دركات المجتمع الملعون.. لم أطرق منزله وعدت أدراجي قاصدا شارع الحسن الثاني؛ حيث الفسحات الخضراء يستلقي فيها من لا جدار تحجبهم؛ وأنا الليلة قد صرت منهم.

فاس في الليل مهيبة ومخيفة.. في سبيلي إلى شارع الحسن الثاني؛ يتوجب علي المرور جنب مقبرة المدينة التي تسترها أسوار فاس العتيقة، إنه طريق خطير حتى في أطراف النهار، فما أدراك عند آناء الليل؟ فما عدت أستبق العرك مع أحد، لقد اكتفيت وفاض الخير من كل المعارك التي خذتها منذ اليوم الأول لي في فاس.

مررت جنب أسوار المقبرة؛ تظهر لي عاهرة تضع مسحوقا رديئا على وجهها، وهي تصرف أنظارها يمنة ويسرة تنتظر أي بائس مثلها يدفع له فلسا أو فلسين مقابل لذة عابرة. رأتني أقترب ناحيتها، فصنعت ابتسامة مبتذلة تنوي إغرائي بها: ما يغرني أرفع من مشيتك هاته يا مومسي. كذا قلت في بالي.

- وبعد يا سمكة أعالي البحار، كم ثمن (...) الجميل؟

- لن يغلى عليك يا وسيم.

- ثمنه يا سمكة ؟

- أراك تستعجل الثمن!

- لأني لا أثيق المقدمات.

- يبدو أن كل شيء فيك سريع!

- بل أملك سلحفاة عرجاء.

تلوك العلك بصوت مرتفع، ثم قالت بعد برهة تفكير :

 - حسن.. خمسين درهما.

- إنه ثمن مناسب. الله يأتيك بزبون يستأجره منك.

- وأنت يا ألفريدو ؟

- لا أستحق مثله.

- ينعل (...) أمك !

- لو كنتِ رجلا، لجردتك من سروالك.

- لكنك تستغل وضعي ؟

ردها جعلني أشعر بالذنب إزاءها، ما كان علي نسيان همي بها.. سألتها عن اسمها :

- فتيحة.

- هل أكلت وجبة العشاء يا فتيحة؟

- ليس بعد.

- سأعشيك يا فتيحة بلا مقابل وراء ذلك.. قل لي ماذا تشتهين؟

لم تجب في الحين.. مكثت خرساء تحملق إلي، لعلها تتساءل من أكون؟

***

عبد الوهاب الدكالي ينادي في المذياع : "مرسول الحب فين مشيتي فين غبتي علينا". أجلس رفقة فتيحة في مقهى شعبي في الملاح.. بعدما أكلنا وجبة العشاء في مطعم فاخر. كأن بها تحلم وهي معي، لم تآكل يوما ما أكلته الليلة رفقتي، وبدوني مبتغى مني.. لا شيء سوى مزاجي أملى علي أن أجعل البسمة في وجهي هذه البائسة، أن أملأ بطنها وأجعلها تعود إلى منزلها وقد شبعت.. كانت تود أن تقص على مسمعي حكاية حياتها، فمنعتها، أعرف ما ستقوله وكفى بؤسا. تركتها تدخن في المقهى ودفعت ثمن المشروبات، وقمت إلى حال سبيلي تاركا عبد الوهاب الدكالي ما زال ينادي : "غيابك طال هاد المرة، وقلوب لحباب ونتا يا بعيد، ولات صحراء، لا يحركها احساس جديد ولا تنبت فيها زهراء؛ تفتح بالشذى والطيب، وتونس لي بات بات غريب، آه بات غريب، تايه فالليل بلا قمرة". بل أنا التائه الغريب في الليل وفي بهجة القمر يا الدكالي.

استلقيت في واحة خضراء قرب شارع الحسن الثاني، هنا سأقضي ليلتي، وغدا، الأرجح سأقابل رضوان ابن باحسون، لأرى ما وراء هذا الرجل الغامض، وهل فيه ما يشفع لي. كنت أنظر إلى  النجوم تبرق في عنان السماء، ما أبهاه من مشهد حالم. فكرت: قد أكون في فاس هائما أتقفى السراب. كنت على يقين أني أضحيت علي مرمى صحارى قفر، فهل لي مؤنة لعبورها ؟ والوصول إلى أرض لا تعرف خريفا، قطوف أشجارها دانية، ونساءها غيد لم ير لهن في الحسن مثيل. سمعت صوتا هامسا يخاطبني : "نم، يا أنور في العراء، نم وكفاك أحلاما". ثم نمت أفترش الأرض وأتغطى بالسماء.

***


أغسطس 1996
ا
عدت إلى بن دباب لبيع الخضر والفواكه، إنما هذه المرة بعيدا عن باحسون، لقد أخذت استقلالي وصارت السلعة في ملكي.. عمليتين ناجحتين في الطاعون رفقة العود، أذخرتا علي مبلغ عشرة ألاف درهم في آخر شهرين هنا في عقر بؤس المدينة.. لقد أضيحت أستأجر شقة في الملاح، أرى فيها نواة المستقبل القريب، قريب من أي زمن مضى. 

رضوان ابن باحسون، قبل شهرين اقترح علي العمل معه في المطار؛ لكن لم يكن ذلك ممكنا بلا إرشاء أحد الموظفين. فإحدى أكبر شروطهم: شهادة الفندقة والسياحة مقدمة من (ofppt) وأنا لي شهادة الفندقة والسياحة من "التعاون الوطني". فكان لا بدا من شراء الوظيفة بمبلغ سبعة أﻵف درهم، لكي يتغاضى الموظف الفاسد عن أصل الشهادة.

كان لا مرد لي من دخول مطار فاس سايس، بأي سبيل كان. فقدمت المبلغ المطلوب بعدما جمعه خلال شهرين، وأنا ذا داخل المطار موظفا في عمل تجهيز الأطعمة والمشروبات للطائرات التي تقلع من مطار فاس. إنه عهد جديد وقد قلع.
لم يكن الأجر الشهري يرضيني رفقة هذه الشركة؛ فيبدو لي أنها تستغل موظفيها، بينما تغتني وراء أكتافهم. فكرت: هل يحق لي الاعتراض وأنا الموجود هنا بارتشاء؟

***


شتنبر 1996
   فاس

رضوان ابن باحسون يدخن كثيرا، عجاجة أدخنة تنفت في فاهه كما لو كان فرن الحي.. يريد أن يقول لي شيئا وما زال يأخذ وقتا.

- أنا أسمعك.

- ما سأقوله لك خطير !

- وأنا أخطر منه.

- ولهاذا أتيت بك إلى هنا.. اسمع يا أنور؛ أنا أهرب زجاجات الخمور من المطار وأبيعها لأحدهم.. إنه عمل خطير؛ وأريدك أن تشتغل معي وستنال الكثير.

هكذا إذن يا باحسون، سليلك مهرب محترم؛ ولهاذا لا تفتخر به، وتخشى علي منه. فكرت: أنا لم آت إلى المطار إلا لغاية في نفسي، وسأقضيها.

- أنا معك يا رضوان.

- تبدو واثقا !

قلت له في خيالي: منذ الوهلة الأولى كان حدسي يخبرني أنك تخرق القانون في المطار الدولي للمدينة، وكان إلزاما أن أكشف لعبتك.. حتى أمزج بينك وبين جواد وأجعل منكما شخص واحد، يكون أنا! إذن سأهرب الخمور من المطار وأبيعها لأرقى الحاناة في المدينة التابعة لـ جواد، وأعطيك منها الفُتات، بانتظار اليوم الذي سأطفئ فيه عيناك الواسعتين هاتين، ثم أمر إلى بلاط  المعلم!.

- نعم يا باحسون الصغير، أنا فداء لك.

أشتغل في المطار من الصباح حتى بعد الزوال، ثم أعود إلى بن دباب لبيع الخضر والفواكه.. رضوان يستغرب لماذا متشبث ببيع الخضر والفواكه في الحي الأحقر في فاس؟ لكني تهت به بعيدا عن عمليات الطاعون التي أحرسها هناك، لا البندورة الخضراء يا غافل.. في الشهر الواحد عمليتين ومبلغ عشر آلاف درهم أقبض عليها، بانتظار أن أرجّ المطار!
 
إلتقيت جواد في حانته الفخمة وسط المدينة "حانة موغادور" أخبرته أني سآتي لحانته بزجاجات خمر فخم، لكنها تفتقد إلى الغطاء الأصلي.. لم يكن بمقدوري الكذب عليه، أخبرته بكل شيء، المطار و رضوان و و و. وافق للتو دون تردد:

- أنت أحد رجالنا الذي نتوسم فيهم خيرا.. تعرف أني لا يحيط بي سوى الأذكياء الشجعان من لا قلب لهم.. وبما أنك أفلحت معنا منذ اللحظة الأولى؛ فسأجزيك وأطلب من المسؤول هنا أن يشتري منك الزجاجات بالثمن الأصلي، لأننا نقدم لأغلب زبائننا القنينات وهي مفتوحة.

فكرت: رضوان في مهب الريح! 

أبدا لم يكن تعامل جواد معي محبة من الله؛ إنه يدري جيدا أني أكبر رويدا رويدا وأكبر، ويراني الشخص المناسب لأركان مملكته.. لما لا، وقد جنى ورائي مبالغ كبيرة في عمليات الطاعون. وكذا عدم اعترافي مرتين أثناء التحقيق؛ فتيقن أني مثل أشجار السنديان التي تموت واقفة.. لكن لم يتخيل البتة أن أنور الذي أتى إليه معصوب العين؛ في ذات يوم سيتبدلان نظرات باسمة، وفي بال كل واحد منهما: كيف يتخلص من الآخر؟.




"أحـــــلام و شـــــﻤوع"



التالي : الجزء الأخير.

تعليقات

  1. جميل جدا , التشويق يزداد , دوما أنتظر حتى تجتمع ثلاث أجزاء لأقرأها معا , كي لا أبقى أتحرق شوقا بعد كل جزء , أحسنت :) , أما عن كلمات الشارع التي أشرت إليها في ردك السابق , فمعذور , و لا أرى في ذلك بأسا مادام بغرض عرض واقع المجتمع و المحيط كما هو و طالما أنه لا يمس بالذات الإلهية .
    كما أنني أريد أن الفت نظرك لبعض الأخطاء النحوية في العمل مثلا عبارة : إنه من السكان الأولون .
    الصحيح : من السكان الأولين , فالأخير صفة لاسم مجرور , كثيرا ما لا ننتبه لهذه القواعد عندما ننغمس في الكتابة , لكنها تبقى مهمة جدا .
    و " هكا هو " كيما يقولو التوانسة
    استمر .. و أنا باتنظار المزيد من إبداعاتك
    بربروس .

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

بنت الدراز