بنت الدراز

حكاية شعبية مغربية 


كان يا ما كان حتى كان، الخير في كل مكان؛ والريشة تغلب الميزان، والأعمى يتجاوز الحيطان، كان حتى كان.. 

ذات زمان في قرية بعيدة، كل السبل تقود إليها. كان الناس يمنون النفس بزيارتها، فقد ذاع صيتها في كل البقاع، وعرفت بأرض الخير وأكرم الخلق.. في القرية تعيش بنت ضريرة مع أبوها نساج الحصائر والألبسة الشتوية وحيدين في منزلهما، بعد رحيل الأم عند ربها، وجد الأب نفسه وحيدا في المشوار، لا معين من غير الله. كان إنسان طيب المعشر نال حب وتقدير الجميع، وتولى الإعتناء بطفلته الضريرة، التي أخذ الله بصرها وعوضها البصيرة والفراسة، ومثل والدها فقد كانت البنت على محاسن الخلق ومكارم الطيبة.. كانت تساعد والدها في عمله بما استطاعت من مجهود..

كان الدراز (النساج) يقصد السوق على متن حماره محملا بما نسجت أنامله لبيعه هناك؛ ثم يعود في آخر النهار قبل سكون الليل، ليجد ابنته قد أعدت الطعام واهتمت بأمور منزلهما.. وذات يوم مرض الدراز وتهدمت قواه، فما عاد قادرا على التوجه إلى السوق وبيع بضاعته، فعرضت عليه ابنته الضريرة أن تتكلف بأمور السوق رغم علتها، وافق الوالد على مضض، فلا حل آخر بديل وإلا السعادة ستنقلب جوعا.. تولى الأب العمل في المنزل في نسج الحصائروالألبسة ، بينما انصرفت الضريرة في بيع المنتوج في السوق؛ كان الحمار يعرف سبيل السوق، فيكفي أن يحمل بالبضاعة وتمتطيه بنت الدراز فينطلق الحمار في سبيله حتى يتوقف، آنئذ تعرف بنت الدراز أنها ولجت إلى السوق. كان جميع التجار يعرفونها؛ فلا أحد يخون أمانتها ولا الغدر بها، وتسارع الجميع في مساعدتها.. هكذا دواليك توالت الأيام وبنت الدراز تبيع في السوق ما نسج والدها، وذات مساء وأثناء سبيل عودتها من السوق؛ تلوثت فيها السماء بالغيوم القاتمة فجأة، وهي تنذر بعاصفة آتية، فقصف الرعد مزمجرا وارتعب الحمار فانطلق على متنه بنت الدراز إلى خندق الغابة، ولم يتوقف حتى دقت الساعة انتصاف الليل . كانت بنت الدراز لا تدري مقامها لعلتها؛ بينما توجس والدها من تأخر ابنته على غير عادتها، فخرج لتقفي آثرها رغم وهن قوته سائلا الناس إذا صدفوها، ولا أحد أشفى غليله فعاد خائبا. وقال في نفسه : إن ما طال بنتي من أذى سببه اللصوص الطماعين في بضاعاتها .
بح صوت بنت الدراز وهي تنادي على النجدة في أحشاء الغابة، فلا سامع مناداتها سوى ربها،  وبكت على حالها وحال والدها وعلى مصابهما، حتى جفت دموعها وآلت مستسلمة لمصيرها،  فربطت حمارها مع جدع شجرة، ثم افترشت الأرض ونامت على آمل أن يمر  عليها في الصباح  حطاب أو أي قاصد للغابة.. مع استيقاظها لم تجد سوى صوت الطيور والرياح تحرك أراق الأشجار،  ركبت الحمار تاركتا مصيرها في يد الله؛ فانطلق الحمار في سبيل مجهول حتى توقف أمام منزل يركن وحيدا في الغابة. فنادت بنت الدراز قائلة : يا أهل المكان، أنا ضريرة مسني الضر وتهت في الغابة، وأضعت سبيل العودة إلى والدي..
رد عليها صوت إمرأة عجوز : يا ابنتي إن مصابك مصابي، وإذا كنت بعيدة عن والدك، فكذلك أنا بعيدة عن ابني؛ فسهلا وأهلا بك في منزلي..
ربطت بنت الدراز حمارها، ودخلت إلى منزل المرأة العجوز.. كانت المرأة أيضا ضريرة تعيش لوحدها، بعدما ذهب ابنها إلى بلاد بعيدة لجلب دواء لبصرها؛ فلم يعد منذ رحيله، ومازالت العجوز بانتظاره رغم تعاقب الأشهر والسنين. كان عندها في المنزل طير في المطبخ يساعدها في الطبخ؛ والقط في غرفة النوم يتكلف باخلاءها من الحشرات، والكلب يحرس الباب ويأتي بالحطب، كل هذه الحيونات دربهم ابن العجوز لمساعدة والدته الضريرة أثناء غيابه.
عاشت بنت الدراز مع المرأة العجوز في سعادة وكرم رغم علتهما معا..
ذات ليلة رأى الدراز في المنام، أن ابنته حية، ترافق امرأة ضريرة مثلها.. ذهب عند الفقيه لتأويل رؤياه لعلها خيرا وبشرة.. قال الفقيه : إن رؤياك صادقة أيها الدراز؛ وبنتك حية ترزق صحبة إمرأة ضريرة مثلها، لكن مكانهما لا يعرفه الخلق سوى الخالق.. عاد الدراز إلى منزله سعيدا بتأويل الفقيه وزاد آمله في لقاء الغائبة ابنته.. 
ذات يوم غاب الطير فتبعه القط ثم لحق بهم الكلب، ووجدت بنت الدراز الحمل كله عليها.. أما المرأة العجوز فقد بدأ المرض ينال منها حتى غدت طريحة الوساد. كانت بنت الدراز مع طلوع الشمس تنصرف لأشغال المنزل حتى غروبها؛ تحطب وتكنس وتطبخ، وهي في نفسها ترد الخير للمرأة العجوز التي أحسنت إليها.. زاد المرض على المرأة العجوز، وعندما شعرت بقرب أجلها؛ نادت بنت الدراز وقالت لها : انت نعمة البنت يا بنتي؛  فلا أعرف كيف أجازيك على خدمتك لي.. أمينة الأسرار ونبل الخلق أنت يا بنيتي، لذا قررت أن أعطيك أغلى وأنفس ما بحوزتي؛ هذا خاتم مذهب كنت قد خبأته حتى عودة ولدي، لكن الظاهر أن السبيل الذي أخذته لن تعيده من جديد..

ذات صباح اسيقظت بنت الدراز كالعادة؛ وأعدت وجبة الفطور، ثم ذهبت لإيقاظ المرأة العجوز، لكنها لم ترد على نداءها، فقد سلمت روحها إلى بارئها، فخرت بنت الدراز حزينة حزن الأرض، باكية بكاء السحاب؛ فقد أضحت وحيدة لا أنيس ولا جليس في منزل لائذ وسط الغابة؛ لا هي تعرف الطريق إلى والدها، ولا هو يدري أي طريق يقود إليها .. 
مضى يوم ويومين وبنت الدراز ينال منها الجوع والبرد؛ وفي اليوم الثالث سمعت صوت صهيل وخطوات حصان يقترب من المنزل؛ حتى وصل إلى جنب الباب، فخرجت بنت الدراز قائلة : من تكون يا خلق الله؟ إذا كان نواك الغدر بأصحاب المنزل؛ فإن صاحب الغدر خاسر مهما ربح. 
رد عليها الغريب : أنت الغادرة هنا؛ فهذا منزلي.
فعرفت بنت الدراز أنه ابن المرأة العجوز؛ فرحت بقدر حزنها. لأن أمه الذي جاء إليها قد ماتت. ذهبت حياة وآتت حياة 
ظن السيد بأن بنت الدراز هي من قتلت أمه؛ حتى سمع منها كل ما حدث فترة غيابه وأنها كذلك مثل أمه ضريرة.. وسلمت له الخاتم المذهب الذي كانت تكنزه العجوز له منظرا عودته، قبل أن تسلمه لبنت الدراز.. قال لها : إن الخاتم اﻵن لك. تخيل معي أنك تشاهدين أشجار الغابة وبديع الزهور وألوان السماء
ردت عليه : أنا أرى في الظلام؛ فالذي أخذ مني البصر عوضني البصيرة، إني أرى في أحلامي أبي وقبيلتي وكل أحبابي. 
قال لها  : هذا الدواء الذي جلبته لتستعيد بها أمي بصرها، فلم يذهب مجهودي هباء ولا ضاع هذا الدواء ، فهو اﻵن من نصيبك.. هذا الماء رش به وجهك وألقي منه قطرات في عينيك تسكن الرؤيا عينيك بحول الله . 
كذلك فعلت بنت الدراز، فسكن النور عينيها؛ واستحالت الظلمة ضياء؛ قفزت من مكانها وهرولت نحو الغابة لرؤية الحياة.. 
ركبت بنت الدراز الحصان رفقة ابن المرأة العجوز فانصرفا في البحث عن قبيلة الدراز حتى وصلا إليها،  واكتملت فرحة بنت الدراز وزادت بلقاء والدها حيا، فتعانقا عناقا متماديا ممزوجا بدمع حار ملتاع.. كم كانت سعادة الدراز غامرة لا تحدها بعد الزرقة في السماء؛ برؤية ابنته عائدة وهي تنظر إلى وجهه بصيرة.. فنالت  الأفراح أرقى مراتبها عندما طلب ابن المرأة العجوز من الدارز يد بنته لزواج.. فوافق الدراز للتو واللحظة قائلا :  لن أجد خيرا منك ليكون زوجا  لـ بنتي الوحيدة .. فتعالت الزغاريد صادحة في القبيلة.

هكذا بصرت بنت الدراز شعاع الحياة بعد ليل طويل.


تعليقات

  1. حكاية جميلة، ونهايتها سعيدة.. مع أني لا أفضل النهايات السعيدة (وعاشا بسعادة إلى الأبد) لكن هذا هو طابع الحكايات الشعبية.. ليس بيدك حيلة ههه
    أسلوب السرد جميل وممتع والصورة معبرة :)

    ننتظر حكاية أخرى وتحياتي لك أخي الكريم:)

    ردحذف
  2. ﺃﻫﻼ ﺑﻚ

    ﻋﻨﺪﻙ ﺣﻖ ﺍﻟﺤﻜﺎﻳﺎﺕ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻧﻬﺎﻳﺘﻬﺎ ﺳﻌﻴﺪﺓ، ‏( ﻭﻋﺎﺷﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﻭﺭﺯﻗﻮﺍ ﺑﺎﻟﺒﻨﻴﻦ ﻭﺍﻟﺒﻨﺎﺕ (^^ ﻷﻥ ﺍﻟﻘﺪﻣﺎﺀ ﻻ ﻳﺤﺒﻮﻥ ﻗﺺ ﺍﻭ ﺣﺒﻚ ﻗﺼﺺ ﺑﺎﺋﺴﺔ، ﻫﻢ ﺃﻛﺜﺮ ﺗﻔﺎؤلا ﻣﻨﺎ

    ﺷﻜﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ

    ردحذف
  3. حكاية رائعة والنهاية سعيدة كنت اتمنى ان تستعيد بصرها وحصل فعلا

    ردحذف
  4. ياليت حياة هكدا بسيطة جميلة نهاية سعيدة

    ردحذف
  5. قصة رائعة وقد حولتها للغة عربية جميلة وان كانت خالية من السجع..
    ليتك تكرمت وادرجت اسم صاحب الحكاية وصاحب اللوحة عوض ان تنسب العمل كله لنفسك.
    اخي الكريم. اذا جلت الارض طولا وعرضا لن تجد هذه الحكاية في اي تراث.. هي لي وليست لأحد غيري.

    ردحذف
  6. مرحبا بك أخي الوردي..

    سعيد حقا أن أسلوبي اللغوي المتواضع في سرد الحكاية قد نال اعجابك.. فيما يخص ملاحظاتك المرحب بها، فأود أن أقول لك، بأني لم أنسب الحكاية إلى نفسي وحاشا أن أفعل، ولم يسبق في حياتي أن قمت بنسب مجهود غيري لنفسي، كل ما في الأمر أني وجدت هذه الحكاية منشورة في عدة مواقع مغربية بالدراجة المغربية مع حكايات أخرى شعبية قديمة موضعة في خانة التراث الشعبي المغربي الشفاهي دون ذكر أي مؤلف، ثم قمت بترجمتها إلى اللغة العربية، وأعلاها كتبت "حكاية شعبية مغربية" كما كتبت عن حكايات اخرى أسطورية مغربية مثل حمو أونامير و ايسلي وتسليت وغيرهم، ولم أدعِ أني مؤلفها، فهي من التراث الشعبي القديم الذي تناقلته الأجيال، وحكته الحدات للأحفاد، وليس عمل قصصي أدبي.. أما موضوع الصورة، فقد وجدتها منشورة على الإنترنت في عدة مواقع وليس عليها أي طابع حقوقي يشير للملكية! وكذلك لم أدعِ أنها لي، فالصور التي أُصممها أضع عليها اسمي.. الحديث يطول هنا يا أخي، وقد قررت إزالة الصورة واستبدالها بصورة من تصميمي عن قريب، وأعتذر منك إذا كانت الصورة تعود لك حقا، وأنصحك بوضع طابع عليها يحفظ لك حقوقك وحتى نعرف نحن أن للصورة مالك وليست مجانية.. فيما يخص قولك أن تأليف الحكاية يعود إليك؛ فلست أكذبك يا أخي الكريم، ولكني بحاجة إلى دليل قاطع أن الحكاية من تأليفك وليست تراث شعبي شفاهي قديم - الذي اعتقدته أنا -، مثلا أن تجلب لي موقع نُشرت فيه الحكاية باسمك قبل غيره.. وأنا مستعد أن أضع الملاحظة أسفله تحتوي اسمك، وأرجو أن تتفهم موقفي.

    تقبل تحياتي.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي