وما زال في الناس قراء...




انتهيت من وجبة الفطور، وعدّلت بصري الذي كان معلقًا في شاشة تلفاز عملاق تبثُ الصرعات في مملكة الحيوانات بعد أن انطفأت بغتةً، فأخرجت هاتفي؛ فجأة تبين لي شاب يجلس أمامي ويقرأ كتابًا ما، أثار انتباهي القارئ ذاك في هذا الصباح، فقد خلق الاستثناء في هذا المكان، وكان المرء الوحيد الذي يحمل كتابًا، بينما البقية يُحدق في شاشة هاتفه الذي في يده أو واضعًا إياه على الطاولة بينما يدس المأكل في وجهه وأبصاره إلى الشاشة، وأنا واحد في رهط هؤلاء، عدا ذلك القارئ أعلن في مقامنا هذا، أنه ليس منا! 

وضعت هاتفي على الطاولة، وخضعتُ لفضولي أن أعرف عنوان الكتاب الذي يفتحه هذا الشاب أمامي، ولم يطل انتظار فضولي حتى أشبعت رغبته، واكتشفت عنوان الكتاب، الذي سبق أن قرأته قبل بضع سنوات، إنها رواية   la chartreuse de parme  للكاتب الفرنسي هنري بيل والمعروف باسم ستندال، وهو أحد عمالقة الأدباء الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وقد قام بتأليف هذه الرواية التي تُقرأ أمامي - بنهمٍ بادٍ - عام 1839، والذي عرفني عليه أحد أصدقائي القراء. 


زاد إعجابي بهذا الشاب الذي يفتح كتابًا في  هذا الصباح، بعد أن عرفت عن ماذا يقرأ، فالذي يقرأ أمثال هذه الأعمال الروائية المعقدة، الراجح لهو قارئ عظيم، - ولا أقصد شخصي، ففضولي من دفعني لقراءة الرواية بعد أن شكرها ذلك الصديق ولا أجدني في معشر الناهمون في القراءة - وهذا الذي أمامي قد سلبه الكتاب من عصرنا التافه،  وأعاده إلى القرن التاسع عشر، وأسره ستندال بقلمه الذي يقطر بحبر الماضي،  وسبل معالجاته الأدبية التي تُلقي بالقارئ في  سراديب نفسية، بين العشق والخيانة والطمع وابتغاء السلطة، ومآسي الندم، ونرجسية حياة النبلاء وعالية القوم وما يقابلها من تمرد ما دونهم من تعساء الناس. فهذا هو الكاتب ستندال، الذي اشتُّهر برواية الأحمر والأسود، ويُعد هذا العنوان كمقياس بسيط على  أدب هذا الكاتب الفرنسي، فالأحمر، هو لون الحب ورمز التضحية، والأسود هو الظلام والمأساة. 

رواية la chartreuse de parme كأنها متاهة أُلقيّ فيها القارئ المعاصر، فيجد نفسه بين عوالم يحاول - جاهدًا -  استعابها. الرواية تاريخية سياسية رومانسية بسخرية بارعة ومصائر مأساوية، تدور أحداثها في إيطاليا، تحديدًا، ميلانو ثم بارما، أثناء وصول جيش الثورة الفرنسية بقيادة الملازم الشاب نابليون بونابرت، فيما يعرف بالحملة الإيطالية، وقام الكاتب بمزج وقائع إيطاليا التاريخية مع أحداث متخيلة تخدم سياق الرواية، وهي زاخرة بالأحداث وكثرة الشخصيات، إحداها شاب يدعى فابريس ديل دونغو، الذي تأثر بشخص نابليون بونابرت،  وارتمى في أحضان  العسكرية في زمن الحملة  الإيطالية  كما يُمثل جانبًا رومانسيًا في الرواية، حيث عشق شابة تدعى كيليليا كونتي ابنة عقيد مرموق. بين العشق والمشاركة في الحملة الإيطالية والندم، سيلقى الشاب فابريس مصيرًا مأساويًا لا يختلف كثيرًا عن باقي شخصيات الرواية. 

وما زال في الناس قراء... 


21 - 02 - 2024

تعليقات

  1. ياسين الرامي2 أبريل 2024 في 9:01 م

    قرأت لستندال ولم يعجبني أسلوبه المعقد كنت أضغط على نفسي لأنهي قراءة بعض مؤلفاته وهذه الرواية التي أشرت إليها قرأت نصفها أو أقل وأرفع القبعة لصديقك الذي يقرأها في الصباح الباكر وأشك أن ستندال يستحق أن نقرأ له في الصباح ههههه وقد صدقت فلا زال في الناس من يقرأ

    شيء آخر لافت انتباهي أنك سنوات وأنت تكتب قصص عن أبطالك البائسين كل البؤس ويرتدون مقاهي الحشاشين وهو جياع بملابس رثة ...إلخ وفي الأخير صاحب هذه الكتابات البائسة قد تظنه مثلهم لكنه في الحقيقة يجلس في مطاعم فاخرة ويرتدي حذاء أصلي لن ينزل عن 200 دولار والله أعلم عن شكل ساعة اليد ؟ راحت هيبة مؤلفاتك البائسة هههههه

    رمضان مبارك وعيد أبرك

    ردحذف
  2. صحيح، فأنا تفاجأت أيضا أن أجد من يقرأ لستندال في الصباح ^^ وأول ما فكرت فيه، هو هذا العنوان.. وأتفق معك تماما، ستندال أسلوبه كثير التعقيد كما جرت به العادة في أدب القرن التاسع عشر..

    إذن هذا ما جنيته في هذا النص؟ كمن قال، أُشير لهم للقمر، فينظرون لإصبعي.. وفي الحقيقة، أنا جزء من معشر العالم الافتراضي، من صنف "الكلمة" فقط، التي قد توحي - في الغالب - بصورة مغايرة عن صاحبها، تُجمّله أو تقبحه أو تحتار بينهما، والحقيقة لا يعلمها إلا الله، فلا تتيقن من شخص "الكلمة" عدا أنه إنسان من كوكب الأرض ^^ فاحذر من حقيقته !

    بارك الله فيك على تبريكاتاتك ^^

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -