وجدتُ عملاً !



بعد أسابيع من العمل المُضنٍ في جنيّ الزيتون عند أثرى واحد في قريتنا، الذي كان جده قاطع طريق في باكورة الاستعمار؛ ناولني أجري في ألفيْ درهم.

التزمت مع نفسي أن أُمتعها عند التحيّن الأول، وأعيش دور الأعوّز الذي تُطل الفرحة من عيناه، وأخذت في صرف كل المبلغ على ما يرضي سعادتي، ويضخ هرمون (الدوبامين) في عروقي. في اليوم الموالي اكتسّيتُ أزهى أثواب خزينتي، سروال جينز شديد الزرقة، وحذاء برتقالي، واستّقامت أناقتي بقميص أصفر، ثم توجهت إلى الطريق الرئيسية حيث تمر الحافلات قاصدةً المدينة.

جاءت الحافلة المتوجهة إلى العاصمة، وأخذتني معها، هناك بعد نزولي إلى شوارع المدينة، أدركت أن أناقتي بها خرقٍ ما، فهي لا تمتثل لم يتأنق به الناس، إلا أن رضاي استكن لها، فلا غمغمة شك بعدها.

بعد أولى خطواتي في العاصمة، فكرت كيف سأصنع سعادتي في أوج التمدن حيث أنا، قبل الارتداد إلى حضن المشقة في القرية؟ وأول قراراتي المتخذة، كانت في زيارة لابن قريتنا حتى أقضي ليلتي الأولى في منزله، كما سأدخر ثمن المبيت في الفندق، ثم لعله يدلني إلى مساكن صناعة السعادة في مدينته. اتصلت به وأفصح لي عن عنوان منزله. هلّني منظر منزله الفاخر! فنسائم العطر تحوم في أرجائه، والأرائك فيه كأن الملائكة تجالسه عليها. تركني في قاعة الضيوف واستأذن أن يغيب للحظات، بينما أفكر كيف أن بات له مثل هذا المنزل؟ شيطاني سخر مني: "يا ذو الزرائب، إن معظم البيوت في المدن كما تراها الآن.

لم أخلع حذائي مخافة من تعكير صفو عطور هذا المنزل، إلى أن طلب مني ذلك بعد عودته حاملاً صينية شاي:
- اخلع حذائك واعتبر المنزل كمنزلكم.

أجبته في خيالي: "حاشا لله أن يكون هذا المنزل كمنزلنا"

- لا داعي أن أخلع حذائي، فأنا مستريح أكثر وهو في أرجلي.

يُصّر أن أزيل الحذاء، وأنا أعارض بابتسامة أجهدني صنعها كثيرًا، والرجل لا يدري أني لو خلعت الحذاء وحررت جواربي ذات منافذ عدة؛ سيكون عليه الاتصال في الصباح بمصلحة مكافحة الأوبئة، وغالبًا سيأخذ أطفاله للفحص بالأشعة على الصدر.

بما أنه يملك حديقة واسعة، ظهرت لي فيها غرفة جميلة لا أدري ما الغرض في جعلها منفردة، فقلت له: "سأنام هذه الليلة في تلك الغرفة"
التفت وألقى نظرة حيث يشير إصبعي، واستدار إليّ قائلاً:
- إنها غرفة الكلب !

فكرت ماذا لو قبل أن يستأجر لي تلك الغرفة بدلاً من الكلب؟ كنت سأدفع له بسرور، ويمكنني حتى أن أُطلق نبحة أو نبحتين عند انتصاف الليل.

صباح العاصمة جميل، والنعم الطرية تتنقل في الزقاق، لا أكاد أُعجب بهاته حتى تُنسيني تلك، فأُوشكُ أن أُصدق أوهامي وأطلب رقم هاتف إحداهن، قبل أن يعاود أحد أباليستي مخاطبتي: "أبِوّجهك هذا ستتقدم إلى مخاطبتهن؟ إنه لا يصلح عدا أن يُرسم في قنينة الماء القاطع التي توضع في المراحيض"

وصلت إلى مقهى جنب الطريق، هناك طلبت أرخص فطور عندهم، فوجدته أشهى فطور أكلته يومًا. دفعت الحساب للنادل وغادرت لكي أبحث أين سأتسكع بالمبلغ الذي بحوزتي، ثم اكتشفت متأخرًا أن المبلغ الذي قام نادل المقهى برده لي منقوص من عشرة دراهم! عاودت الحساب، فتيقنتُ أنه حقًا ناقص. فكرت، أيكون تعمد أخذ عشرة دراهم زيادة، أو تراه لم ينوي ذلك؟ في الحالين قررت أن أنسى عن مضض. بينما أواسي نفسي وأُملي عليها بالصبر الجميل في اختفاء عشرة دراهم؛ جاء إليّ متسول يمد يده نحوي، فكرت أني لا يجب أن أرد هذا الذي يسعى، لعل ما أعطيه يرد لي عشرة دراهم التي أخذوها مني في تلك المقهى. حشرتُ يدي في جيبي وأخرجت نصف درهم ووضعته في راحة يده، فألقاها في جيبه دون أن ينطق بكلمة أخرى، مخيبًا آمالي في دعاء خير كنت أنتظره أن يجهر به أمامي، ويرفع يداه للسماء وقد تخشع، إلا أنّ الحقير غادر كما لو كنت مدينًا له. قلت لحالي، يكفيني أن الله يعلم مبلغ نيتي فيما قدمته له. فجأة لمحت أحدهم يشير إليّ بيده أن أتقدم إليه، يظهر كأنه شاهد على ما يقع معي هذا الصباح. توجهت عنده، فقال باستغراب بادٍ على محياه:
- لماذا أعطيت المال لذلك الرجل وأنت تبدو أكثر حاجة به؟!

- ألم يأمرنا الله أن لا ننهر السائل؟

- اسمع يا هذا المسلم اللطيف، ذلك المتسول ركن سيارة فاخرة هذا الصباح في الشارع المقابل، وهل تبدو لك تلك المقهى هناك؟ إنها في ملكيته.

إنها نفس المقهى التي أضعت فيها عشرة دراهم أو أخذوها مني! رحل الرجل وتركتني كأن أحدهم سكب عليّ - بغتة - وعاء ماء بارد.

أخرجت الهاتف من جيبي وطلبت أمي في القرية، وأمرتها أن تسرع الذهاب إلى الواد، الذي يحمل في جريانه الأسمال فينثرها حوله، وتختار لي فيها ما يناسب مقاصي، فقد وجدتُ عملاً.

تعليقات

  1. ياسين الرامي12 فبراير 2024 في 8:35 م

    بالنسبة لي القصة واضحة ملامحها والمغزى منها رغم أنها ليست مباشرة وهذه قوتها . تلك المادة الساخرة هي جاءت تليق بالقصة وكالعادة بأسلوبك وهي كوميديا سوداء في المضحك المبكي ، أذكر منها عندما طلب أن ينام في غرفة لم يكن يعرف أنها مخصصة للكلب ، هذه قاسية جدا ، كذلك في البداية مع باكورة الإستعمار ، وفي النهاية عند المتسول الذي يملك سيارة فاخرة ، وهنا تظهر لنا الدنيا الغريبة وغير العادلة . على كل حال منذ مدة لم ترق لي قصة قصيرة كما راقت لي قصتك الجديدة .

    لا أدري منذ آخر مرة علقت في مدونتك ربما قبل سنتين أو أكثر رغم أني أقرأ فيها في بعض الأحيان وإن كانت كتاباتك شحيحة في الأوانة الأخيرة

    السيد المهندس محمد بنصالح
    تقبل تحياتي

    ردحذف
  2. أهلا ياسين،

    وهذا ما أسعى إليه دائما، أن لا أجعل القصص مباشرة كي لا تتحول إلى موعظة. أما السخرية والكوميديا السوداء؛ فهي من أسلحتي في الكتابة التي أظنني أجديها إلى حد ما أو على الأقل راضي عليها. عموما قد أسعدني اعجابك بالقصة.

    وأنا بدوري لا أذكر منذ آخر مرة رأيت اسمك فيه، الواضح أنه مضى وقت ليس بالقليل. ولأجل هذا نرحب بعودتك، ونتمنى المدوامة في مشاركاتك في الردود، رغم شح ما نكتبه.

    شكرا على المشاركة معنا أستاذ ياسين.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

بوتفوناست (صاحب البقرة)

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

حمو أونامير .. حكاية خالدة من الفلكلور الأمازيغي

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -