حين يكون الليل ليلا !


كان ليلي حالما ملتاعا، مناي فيه أن لا ينجلي، فأكاد أمسكه بيدي وأستبقيه أكثر، ليطول سمري.. كم كان الليل جميلا رطبا، متضمخا بعطر يسكر أريجه الروح، يبدو لي بأن ينضب عمري فيه ولا أندم عليه، وأعيش كل نسمه بتؤدة، ثم يأتي الفجر، لأكنز ليلي هنا بانتظار مرور النهار، ثم أتولى إلى كنزي، وهكذا كنت وكان، وها نحن ذا أقبلنا إلى (فعل ماض) وكومة ذكريات نابعة من الاطلال.. ثم الليل قد صار نفقا لا ضوء في آخره، موحش هو، أصرف أنظاري حتى لا أراه، إنما لا جدوى في القيام بذلك، فهو يستوطن كل مكان حولي، يمتزج مع العتمة، فيكاد يكون العتمة.. عند احتضار النهار، يترأى الليل من بعيد آت وخلفه رهط من الكلاب المسعورة، وفوقه غيمة متلبدة، يحمل في يده قناديل مكسورة، كانت إلى الأمس مضيئة تبث شعاع نور.. وعلى مرمى مني  يأمر جواده بأن يتوقف.. أقول له : "ترجل يا أيها الليل، فإني لا أتحمل أن أنظر إليك من الأسفل". يصهل جواده ويضرب بحوافره الأرض، يرد علي الوافد، ليلي : "إني قد نظرت إليك كثيرا من الأسفل". أقاطعه : "أحجم يا ليل وارحمني، فأنا وكما تعلم لست قادرا على ردعك". يقول الليل ردا وقد ترجل من على صهوة جواده : "ماذا لحقك ليضرك من ورائي يا تعيس؟".

- "وفادتك يا ليل تراود فجائعي.. إليك عن ذاكرتي أترجاك، دعها تنعم في سكونها، فإني أريدها كذلك، أن تكون ساجية، فتورها؛ يعيد لي تلك الغمضة العين التي يليها النوم،".

- "كنت ليلا، وما زلت، بقمري المتوهج ونجومي البراقة.. لا ذنب ذنبي؛ إنما قناديلك المكسورة حجبت عن رؤياك بهائي، وأفقدتك ما لم يدر في خلدك البتة، ثم انصرفت تتخذني عدوا ! أليس هذا هزوءا"؟.

ما كنت لأجد ردا، فتجمدت في مكاني كأصنام المعابد، وقد بدا لي الليل صائبا.. وكان علي أن أفتح عيناي على الحقيقة الماثلة أمامي، التي أحاول في كل تارة شجبها، ونكران وجودها : أن الليل ليل لا يتغير.. لكن ترى ماذا أصابه في عيني؟ الأرجح أن الليل قد تم تفريغه من حلمي القديم.. ثم تكسر القنديل ولم يكتف بالانطفاء ! وفي الحالين تلاشى النور؛ لكن لا سيان، شتان بينهما. فكرت : بماذا كان يفكر يوسف في قعر الجب؟ أهو نجاة من العتمة؟ أو غدر أحبته له؟.

- تمت -



#محمد 

تعليقات

  1. عبد الرزاق ايدر5 مارس 2020 في 4:05 م

    قصة جميلة خفيفة رمزية ذكية فلسفية بلغة متمكنة تحتاج من القارئ أن يقرأها بتأني ويعيش داخل حروفها حتى يفهم المغزى منها شخصيا أعدت قراءتها عدة مرات وفي كل مرة أفهم منها شيئا جديدا

    أتمنى أن تكون بأحسن حال أخي محمد وأنبهك أني دائما أتصفح مدونتك لكن في الأغلب لا أجد الجديد فلماذا تكاسلت في الأونة الأخيرة ههه

    مع تحياتي

    ردحذف
  2. شكرا لك أخ عبد الرزاق، وسعيد جدا أن أرى لك تعليقا..

    في الحقيقة أحب كثيرا القصص الرمزية.. لكن ليس تلك الرمزية المعقدة التي كأن الكاتب يتحدى القارئ بأن يفهم ^^

    لست متكاسلا يا هذا الرجل.. لو تراني أركض في هذه الدنيا ^^ إنما لا ألقى الوقت الكافي لتجديد المدونة أسبوعيا. وهذا هو المفترض. سأحاول في الفترة القادمة الاهتمام أكثر.

    ردحذف
  3. يا الله , يا له من فن آسر , قرأتها في المرة الثانية و كأنني أتأمل السماء , أحسست بأجنحة لروح خفية فيها كما تقول مي زيادة , لا يسعني سوى أن أقول لك أن هذا جميل بل من أجمل ما قرأت , و أكثر ما يشده في اللغة الجمال و الفصاحة على ما أرى :)

    ردحذف
    الردود
    1. عملية بربروسا هههه

      حذف
    2. ما كل هذا الإحساس المرهف يا جنات.. إن حظي عظيم لوجود كل هذا الذوق معي هنا ^^

      سعيد حقا أن ما كتبت نال اعجابك.. وكما تعلمين قد استخرجت من لقبك ملحمة تاريخية عنيفة ^^

      شكرا لك.

      حذف
    3. الذوق ذوقك يا محمد :) ما كتبته أنا لم يكن إلا تعليق , ثم إني لم أكن اعلم انني بت معروفة لدرجة أن يسموا ملحمة باسمي ههههه
      سلمت يداك

      حذف
    4. وإن كان مجرد تعليق.. لكن لا يشعر "بأجنحة لروح خفية" تنبع من "الكلمات" سوى ذا احساس مرهف.

      "جنات" خير من "بربروس/ا" أليست هي غاية المسلمين ؟ لذا لا داعي لتذكيرنا بالحرب العالمية الثانية في كل مرة تضعين تعليقا^^ بينما لك اسم جمل..

      بارك الله فيك.

      حذف
    5. شكرا ههه بربروس يذكرني بشخصية أحبها ( الأخوان بربروس ) , حرب و لكنها حرب خلاص :)
      حسنا إذن في المرة القادمة ستكون " جنات بربروس " هههه
      ربي يكرمنا بالجنة و يكرم كل المسلمين و يحفظنا من هاذاك الوباء
      انتظر جديدك..

      حذف
    6. "بربروس" لقب جميل هو أيضا.. لكن في كل مرة اقرأه أتذكر "عملية بربروسا" ههه

      آمين...

      شكرا لك.

      حذف
  4. مهلا هل هذه قصة قصيرة أو خاطرة لكن عموما أعجبني وصفك ولغتك الراقية ♡ أتمنى أن تكتب قصة طويلة بنفس الأسلوب فهو رائع حقا حقا

    شادية

    ردحذف
    الردود
    1. صعب حقا أن أكتب قصة طويلة بنفس الأسلوب.. خشية أن يمل القارئ.. لكني لا أحبذ أبدا تلك اللغة البسيطة في القصص القصيرة التي تكاد تكون ترجمة (هذا هراء) (تبا!) ^^

      هو لست متأكدا إن كان ما كتب أعلاه قصة قصيرة ^^ لكن دعنا نقول عنها كذلك ^^

      شكرا لك

      حذف
  5. بن صالح هههههه ليا مرة ما جيتش هههههههه
    طلع شكون أناااا ؟ هههههههههههههههه

    ردحذف
  6. راااائع هههه انه جميل
    ما رأيك أن تضيف بين هاتين الكلمتين "العتمة, فيكاد " هذه العبارة ( فحيث ما نظرت أراه )
    ههههههههههههه أنت حر مثلما ترى على كل حال ههههه هذه خاطرتك
    اعجبتني اشجعك دائما طبعا
    لكن افضل ان تركز مع مشاعرك اكثر من حرصك على أن يكون تعبيرك اللغوي فاخرا أو فخما
    :)

    ردحذف
  7. "فحيث ما نظرت أراه"جميل أيضا.. لكني لا أحبذ (إضافات) على ما كتبته سابقا، حتى لو وجدت أوصاف أفضل.

    عندك حق لا يجب التركيز كثيرا على الأسلوب الفخم.. وأنا أتفق معك.

    هو في الحقيقة هذه (الهاهات) ليست غريبة علي ^^ لذا أعرفك.

    شكرا لك على التشجيع.. بارك الله فيك.

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة في آخر أسبوع

أباطرة المخدرات المغاربة .. منير الرماش -1-

عصفور المغاربة المقدس : تبيبط

بوتفوناست (صاحب البقرة)

حمو أو نامير .. من الأسطورة إلى السينما

أباطرة المخدرات المغاربة : حميدو الديب - 2 -

تازمامارت .. أحياء في قبور !